«وَلَزِمْتُ الصَّمْتَ، حَتَّى نَسِيتُ الكَلامَ». هذه القَوْلةُ لأبي حيَّان التَّوحيدي، وهو واحد من كبار الكُتَّاب العرب الذين كانتِ العربيةُ في يَدِهِمُ طَيِّعَةً، لَيِّنَةً، يغْزِلُونَها كما يُغْزَلُ الصُّوفُ، ويَنْسُجُونَ من ألفاظِها كتاباتٍ، هي ما جعَل هذه اللغةَ تَحْيا، وتَمْتَدُّ، لأَنَّهُم أضافُوا إلَيْها، واخْتَلَقُوا في ألفاظِها، أو في اشْتِقاقاتِها، وفي تراكيبِها، وما احْتَمَلَتْه من تَخْيِيلاتٍ، ما لم يُكُنِ اتِّباعاً، أو اسْتِعادةً، بما يَعْنِيانِه من تَكرار واجترار، فَهُم عَمِلُوا على اسْتِحْداث اللغة وتَوْلِيدِها. اسْتَعَدْتُ هذه القَوْلةَ لأبي حيَّان التَّوحيدي لِأُشِيرَ من خلالِها إلى ما يُمْكِنُ أن يُصِيبَ اللِّسانَ مِنْ عَيٍّ، أو مِن خَرَسٍ حين لا يُصْبِحُ هذا اللِّسانُ كلاماً جارياً على الأَلْسُنِ وبين الشِّفاهِ. فَالصَّمْتُ يُفْضِي إلى النِّسْيانِ، وهو نوعٌ من الحَجْرِ على العَقْل، وعلى الخَيالِ، وتعْطِلِيهِما. ألاَّ نتْرُكَ اللِّسانَ يَقُولُ، ويُعَبِّرُ، ويُفْصِحُ، مَعْناهُ أنْ نَسْجُنَه، وأن نَحْكُمَ عليه بالنِّسْيَانِ، وبالتَّحَلُّل والتَّلاشِي التَّدْريجِيَيْنِ. أليس هذا ما يَسْعَى إليه مَنْ لا يَرْغَبُون في أن تكونَ العربيةُ لُغَةَ الكلام، ولِساناً جارياً في فِكْرِ الناس، وحَدِيثِهِمُ، وفي حياتِهم العامة؟ أليس وَضْعُ العامِّيَة في مواجهة العربية، بَدلَ الفرنسية، هذه المرَّةِ، هو سَعْيٌ لِبِنَاء بَيْتٍ داخِلَ بَيْتٍ؟ قُدَمَاءُ الصِّينِيِّينَ، بما اتَّسَمُوا به من حِكْمَةٍ، وبُعْدِ نظَرٍ، رأَوْا أنَّ هذا غيرَ مُمكِنٍ، فهُم يقولون: «لا يُمْكِنُكَ أنْ تَبْنِي بَيْتاً داخِلَ بَيْتٍ»، بما يعنيه هذا، عِندَهُم، وحتَّى عندنا، من فَوْضَى في مِعمار بِناءٍ، أساساتُه وُجِدَتْ لِتَحْمِلَ هذا البِناء، لا لِتَحْتَمِل غَيْرَه، خُصوصاً، في داخله. البيتُ يَقْبَل التعديلَ، ويَقْبَل التَّوْسِيعَ، واسْتِعارةَ أشكالَ هندسيةً أخرى، لإضافَتِها لهذا البِناء، لكن الأساسات تبقى هي نَفسُها، لا يَمَسُّها أيُّ تغيير، لأنَّها هي ما يحمي البناءَ كاملاً. حين ندعو إلى الاستغناء عن اللغة العربيةِ، واسْتِبْدَالِها بالعامية المغربية، فنحنُ كمن يدعو إلى اسْتِبْدالِ الزَّوْجَة بَضَرَّةٍ، هي أُخْتُها، أو خارِجَةٌ من صُلْبِها، وهذا فيه افْتِراءٌ عَلَيْهِما مَعاً، وهو نوع من الاسْتِجارَة من الرَّمْضاءِ بالنَّارِ، كما يُقالُ. لا يُدْرِك هؤلاء، الذين يَتحَامَلُون على العربية، أنَّ الوُجُودَ يتأسَّسُ بواسطة العبارة، بتعبير هايدغر. وهذا «التأسيس» هو مَدَارُ العقل والفكر والوِجْدان، وهو مدار الخيال، ومدار العلم والمعرفة، وكُلُّ تأسيسٍ هو تَثْبِيتٌ، ومَلْءُ فراغٍ. فكما تأبَى الطبيعَةُ الفراغَ، كذلكَ اللِّسانُ يأبَى الصَّمْتَ، أي يأْبَى الخَرَسَ، والمَوتَ. وبهذا المعنى الأنطولوجي، الذي يَمُدُّنا به هايدغر، وغيره من المفكرين الحديثين، القريبين مِنَّا في الزمن، دون أن نعود لِمن قَبْلَهُم، ابْتَنَتِ العربيةُ صَيْرورَتَها، واسْتَمَرَّتْ في الحياةِ كُلَّ هذه الأزْمِنَةِ، دون أن تكونَ على عَداءٍ بغيرها من اللُغاتِ واللَّهَجاتِ، رغم ما حَدَثَ فيها من أعطابٍ، تعود لعوامل، دخَل فيها التاريخ، كما دخَلَتْ فيها السِّياسةُ، والاقتصاد، ودخل فيها انكفاءُ العقل العربي على نَفْسِهِ، وانْحسارُه في الماضي الذي اعتبرَه ذِرْوَة المَجْدِ. للاستعمار دوْرُهُ الذي لا يزالَ سارياً إلى اليوم. العربيةُ لغةٌ حديثةٌ، بهذا المعنى، فهي لغةٌ مُؤَسَّسَة، لم تتأسَّس مع الدِّين، أو بالدِّينِ، بل إنَّ الدِّينَ ساعَدَ في انتشارها وامْتِدادِها، وكان بين مصادرِ هذا الانتشار والامتداد. وتأسيسُ العربية لا أعني به نَحْوَها وصَرْفَها وتراكيبَها، بل أعني ما احْتَمَلَتْهُ هذه اللغةُ من إضافاتٍ، وما جَرَى فيها من تَوَسُّعٍ، وما قامتْ به من اسْتِضافاتٍ، فهي لُغَةٌ كريمَةٌ، لم تكن مُغْلَقَةً على نفسِها، ولم تبْخَل بالعَطاءِ، ولا رَفَضَت الأخْذَ، وهذا ما نَتَبَيَّنُه، في علاقة العربية بغيرها من لُغات الجِوار، قبل ظهور الدِّين، الذي رأى في هذه اللغةِ ما يكفي من البيانِ لِيَقُولَ ما جاء ليقولَهُ. هذا هو ما يُسَمِّيه ت. س إليوت ب»السِّحْرِ البِدائيِّ الكامنِ في اللَّفْظَةِ». كان إليوت، وهو شاعر كبير له في الأنجليزية أثَرٌ معروف، لا يَتَوَانَى عن توظيف كلماتٍ نازِحَةٍ من بعيدِ هذه اللغةِ، أي من ماضيها، كما لم يتوانَ عن الدعوة إلى توظيف العامية في الشِّعر، وهي دعوةٌ ظهرتْ في سياقٍ شعري له مُبَرِّراتُه النظرية عند إليوت، وهو ما سيتبنَّاهُ يوسف الخال، أحد مؤسِّسِي مجلة «شعر»، الذي دعا في الخمسينياتِ إلى «إبْدَال التعابيرِ والمفرداتِ القديمة..بتعابير ومفرداتٍ جديدة مُسْتَمَدَّةً من صميم التجربة، ومن حياة الشَّعْب». سنقرأ هذه اللغةَ، أو هذا «الوَجْهَ الخَاصَّ» في الكلام، كما يقول الجرجاني، في شِعْر الشَّاعِر المصري صلاح عبد الصبور، في ديوانه «الناس في بلادي»، وعند الشَّاعِر المغربي الراحل عبد الله راجع في دواوينه «سلاماً وليشربوا البحار» و»أيادٍ كانت تسرِق القمر» وديوانَيْهِ الصادرين حديثاً «وردة المتاريس» و»أصواتٌ بلون الخُطَى». هؤلاء الشُّعراء، من العربية ومن غيرها من اللُّغات، لم يَضَعُوا العربيةَ مَكانَ العاميةِ، أو اسْتَبْدَلُوا لِساناً بلِسانٍ آخَر، بل اسْتَثْمَروا علاقاتِ العُبور، أو التَّجَاسُر المُمْكِنَةِ بين العربية والعامية، وفَتَحُوا نَهْرَ اللغةِ على مَجْراهُ، ما ساعدَ على دَعْم العربية، وتجديدِها، حتى حين كانوا يَسْتَضِيفون من القديم بعض عباراتِه التي لم تَعُد تجري على الأَلْسُن، فوَضَعُوها في سياقاتٍ سَمَحَتْ بِتَجَديدِها، وبانْشِراحِها، لِتصيرَ ماضياً يَلْبِسُ لِبَاسَ الحاضِرِ. ليست العربيةُ هي ما يَخْنُقُ اللِّسانَ، ويمنع صيرورتَهُ، فالتربيةُ على اللغةِ هي بين ما يمكنُه أن يُساعِدَ على تجديدها، وتمديدِها، فحَقُّ العربيةِ في الكلام، وفي التعبير، والاستعمالِ، هو حقٌّ دُستوريٌّ، تكْفلَه الأعرافُ، والقوانين، وهذا الاستعمال، أو هذا الحق، هو ما سيُتيح للعربية أن تَسْتَقْبِل المفاهيمَ، والتَّعابِيرَ، والمصطلحاتِ العلمية والتقنية الجديدةِ، وتعملَ على توْليفِها في بنائها التعبيريِّ العامِّ. لكن حين نُجَرِّد اللغةَ من حَقِّها في الكلام، ومن حَقِّها في الاستعمال، فهي، كما قال التوحيدي، تُنْسَى، أو بالأحرى، تَمَّحِي، وتَضْمَحِلُّ، وتتَلاشَى من على الألْسُنِ، وتَمُوتُ، ومَعَها يَمُوتُ هذا الوُجودُ الذي كان تأسَّسَ بواسطة العبارة. باللُّغَةِ، وهِيَ تتحَوَّلُ من ماءٍ إلى عُشْبٍ وشَجَر، وإلى طُيُورٍ تُزَاوِلُ نَغَمَها في أقَصَى الرِّيحِ، نستطيعُ قَلْبَ القِيَمِ، ونستطيعُ تَبْدِيلَ الأنْفُسِ، ومُواجَهَةَ الحَياةِ، في نَمَطِيتِها وتكرارِها، في هذا اليَوْمِيِّ الذي يَشْغَلُنا عن مُزَاوَلَةِ وُجُودِنا، ويَجُرُّنا نَحْوَ آلِيَتِهِ، أي يَنْقُلُنا من وَضْعِ الإنْسانِ العالِمِ، المُفَكِّر، المُبدِع، إلى وَضْعِ الإنْسانِ الآلَةِ، أو الإنسانِ المُغْتَرِب عن نَفْسِه، الذي لا يوجَدُ بذاتِه، كما في قَوْلِ الفارابي، الضَّائِعِ داخِلَ أنْساقِ التقنيةِ، ومَجَرَّاتِها الهائلةِ، وداخِلَ أسواق المالِ، والدِّعايَةِ، دون أن يكونَ مُدْرِكاً لًخَطَر الكلام على اللِّسانِ، أو لِما تَتَّسِمُ به اللُّغَةُ، باعتبارِها من أخْطَر النِّعَمِ الَّتِي هي في يَدِ الإنْسانِ. صلاح بوسريف