كثيرون، بوعي أو بدون وعي أو بسبب انشغالات معيّنة، لم يقدرّوا خطورة مشروع برافر الذي استهدف تهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيين ومصادرة مئات الآلاف من الدونمات وإخلاء حوالى 38 قرية في مخطط تهويد النقب المحتل منذ 1948. أما الأسوأ فكان المضيّ في المفاوضات بين السلطة الفلسطينية في رام الله وحكومة نتنياهو، راعية مشروع برافر؛ فقد قامت هذه المفاوضات بتقديم غطاء للمشروع. والأنكى ما صدر من تصرّف عن سلطة رام الله اعتبره «شأنا داخليا إسرائيليا»، وذلك انسجاما مع مبادئ حل الدولتين، لأنه الحل الذي يعترف منذ أن وُلِدَ بسيادة دولة الكيان الصهيوني على ما احتله من فلسطين في عام 1948/1949، والنقب جزء من فلسطين المحتلة عام 1948. بل أسوأ الأسوإ، وأنكى الأنكى، كان قيام قوات الأمن في الضفة الغربية بالتصدّي، والتحرّك، لقمع التظاهرات الشبابية التي خرجت لإسقاط مشروع برافر؛ فنحن هنا لسنا أمام تجاهل أو لامبالاة، ولا أمام موقف فضيحة باعتبار المشروع «قضية إسرائيلية داخلية»، فحسب، وإنما أيضا أمام دعم لتمرير المشروع من خلال قمع الحراك الشبابي ضدّه، وذلك استكمالا للمفاوضات التي أُريدَ منها، في ما أُريد منها، تغطية ما يجري من استيطان وتهويد ليس في الضفة الغربية والقدس فحسب، وإنما أيضا في مناطق ال48. طبعا، مع التذكير بأن المفاوضات، حتى وفقا لتصريحات أمريكية، جاءت لاستباق الانتفاضة وإجهاضها، فضلا عن متابعة خطوات التسوية في تصفية القضية الفلسطينية وتكريس الخطة الأمنية المستقبلية للكيان الصهيوني. وقد عبّر عن هذه النقطة الأخيرة (البعد الأمني) ما قدّمه كيري من مشروع حول الأغوار والمعابر والمناطق المحاصرة التي ستُترك لسلطة الدويلة، ولا نقول، وبالصوت العالي، سيادتها، إذ لا سيادة لها بالتأكيد. على أن الوجه الآخر من الصورة قد تجلى بما واجه مشروع برافر من مقاومة شعبية داخلية في المدن والقرى الفلسطينية المحتلة في مناطق ال48، وما واجهه مشروع برافر من حراكات شبابية في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي أخرج مشهدا جميلا، بل مشاهد رائعة في عدّة أيام خصصت للاحتجاج على مشروع برافر وإسقاطه، توحّد فيها، أحرار فلسطين في مناطق ال48 والضفة والقطاع وفي عدد من مخيمات الشتات خارج فلسطين. هنا بدأ ناقوس الخطر يدّق في تل أبيب وواشنطن من أن يتحوّل مشروع برافر إلى صاعق لانتفاضة فلسطينية شاملة، ولاسيما عندما أظهرت الجماهير المحتشدة ضدّه في حيفا والناصرة وعكا ويافا والقدس، كما جماهير النقب، بطولات في مواجهة الهراوات والخيّالة والقنابل المسيلة للدموع والاعتقالات؛ فقد تأكد العدو أن سكان النقب لن يقبلوا مصادرة أراضيهم وقراهم وترحيلهم، مهما كان الثمن. أكان تقديم التضحيات في المواجهات أم كان رفضا للإغراءات في السكن بأماكن بديلة. وجاءت حركات الشباب والشابات في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس لتؤكد أن الشعب الفلسطيني لن يمرّر مشروع برافر مهما كلف ذلك في المواجهات عند نقاط التماس مع جيش العدو الصهيوني. ثمة نقطة في تقدير الموقف يجب أن يصار إلى الانتباه إليها وهي أن كل حراك شبابي ينطلق لمواجهة العدو في القدس والضفة الغربية له وزن ثقيل في حسابات إدارة أوباما والاتحاد الأوربي وحكومة الكيان الصهيوني، لأن المخاوف هنا تنبع من الخوف من انتقال ما هو حراك صغير ومحدود ليصبح الشرارة التي «تحرق» السهل كله أو، في الأدّق، الصاعق الذي يطلق الانتفاضة. الانتفاضة هي الرعب الراعب لحكومة الكيان الصهيوني وحلفائها بل ربما لحلفائها الأمريكيين والأوربيين أكثر؛ ذلك لأنها ستكون في هذه المرّة منتصرة بسبب ما يعانونه من مآزق وتراجع، وبسبب عدم قدرتهم على سحقها، أو تجاهلها، كما بسبب ما ستلقاه من دعم شعبي وإسلامي وعالم ثالثي ورأي عام أمريكي-أوربي. الذين ما زالوا يعيشون في مرحلة موازين الماضي وتجاربه، والذين لا ثقة لهم في قدرة الشعب وفي ما يمكن أن يقوم به الشباب والشابات من دور لا يستطيعون أن يتصوّروا النصر الذي يمكن أن تحققه الانتفاضة إذا ما تحرّك الشعب كله وراءها إن شاء الله. على هؤلاء أن يدققوا في ما يطرحه أوباما وكيري وحكومة الكيان الصهيوني وأجهزتها الأمنية وخوفهم من الانتفاضة. في تقدير الموقف وتقدير موازين القوى، يكون الفصل بين تقديرين أو ثلاثة هو التجربة العملية أو ما سيخرج من الصراعات الدائرة، كما أن الماء هو القول الفصل بالنسبة إلى من يزعم الغطس (المثل الشعبي: «الماء يكذب الغطاس») أو يصدّقه بالطبع. عندنا الآن تجربة القافلة البحرية التي تحدّت التهديدات العسكرية الصهيونية، فوصلت إلى ستة أميال بحرية في قطاع غزة دون أن تجرؤ البارجة البحرية على تنفيذ تهديداتها، فيما كان الشبان والشابات عزلا من أي سلاح. وكان في ذلك مغزاه لمن يريد أن يقرأ المعادلة الراهنة، كما جدوى أهمية مبادرات ائتلاف شباب الانتفاضة وشركائهم في التحرك من مجموعات شبابية أخرى وما يمكن أن ينجزوه. عندما نتوقف أمام هزيمة مشروع برافر، حتى لو كانت مؤقتة، إذ قد يعودون إلى المشروع مستقبلا، يتوجب علينا فورا أن نتأكد من جدوى حراكات الشباب ومواجهتهم لقوات الاحتلال، ومن جدوى المقاومة الشعبية عندما تكون حقيقية وليست شكلية واستعراضية. ومن ثم نتأكد من إمكان تحقيق النصر في ظل ما يسود من ظروف وموازين قوى راهنة، عالميا وإقليميا وعربيا وفلسطينيا. إن سقوط مشروع برافر، حتى لو قلل البعض من قيمته وحجمه، يُشكل مؤشرا مهما ويجب أن يستنتج منه أين يكمن الحل في مواجهة الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس وقضية الأسرى. الحل في اجتماع الحراك الشبابي في الضفة الغربية والقدس مع الحفاظ على المقاومة المسلحة في قطاع غزة وبقاء إصبعها على الزناد، ومع الانتفاض السلمي الشجاع لأهلنا في مناطق ال48، ومع الدعم الفلسطيني في الشتات والالتفاف العربي والإسلامي وأحرار العالم. وذلك، وصولا إلى الانتفاضة الشاملة المصمّمة حيث سيتحقق انتصار كبير. أما الحل الموازي والمكمل فيكمن في التخلي عن عقل التسوية والرهان على أمريكا ووقف كل تفاوض تحت استراتيجية حل الدولتين، وتغيير اتجاه هراوات الأجهزة الأمنية وإيقاظ ضمائر أفرادها وضباطها أو، في الأقل، الحياد والعودة إلى البيوت. فضلا عن وقف حصار قطاع غزة من الجانب المصري وسلطة رام الله. بكلمة، كما حدث في إسقاط مشروع برافر يجب أن يحدث في الضفة الغربية والقدس إسقاطا للاحتلال وتفكيكا للمستوطنات واستنقاذا للقدس والمسجد الأقصى والمقدسات وإطلاق كل الأسرى، بلا قيد أو شرط أو مساومة تمسّ تحرير فلسطين، كل فلسطين. منير شفيق