بغض النظر عن صحة الأنباء حول هروب اللواء سليم إدريس، قائد الجيش السوري الحر، من عدمها، فإن من الواضح أن هذا الجيش يتآكل ويقترب من الانهيار الكامل بعد فشله في أن يكون القوة العسكرية الرئيسية للمعارضة السورية المسلحة في مواجهة الفصائل والجبهات الإسلامية وليس النظام السوري فقط. رصاصة الرحمة التي أطلقت على هذا الجيش تمثلت في سيطرة عناصر «الجبهة الإسلامية»، حديثة التكوين، على مخازن عتاد عسكري أمريكي تابعة له علاوة على معبر «باب الهوى» الحدودي مع تركيا، الأمر الذي دفع الجنرال إدريس ومساعديه الرئيسيين إلى عبور الحدود إلى تركيا، مستقلا أول طائرة إلى الدوحة حسبما ذكرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية. الرد الأمريكي على هذا التقدم العسكري الكبير للجبهة الإسلامية جاء سريعا وفوريا بتعليق تسليم كل المساعدات «غير القاتلة» في شمال سورية للجيش الحر في اعتراف رسمي بانهياره، وفشل السياسة الأمريكية التي راهنت عليه كقوة رئيسية يمكن أن تطيح بالنظام السوري منذ بداية الأزمة. خريطة القوى المقاتلة على الأرض السورية تتغير بسرعة هذه الأيام، حيث باتت محصورة في ثلاث قوى رئيسية إسلامية تسيطر بصورة شبه كلية على الأرض الواقعة خارج سيطرة السلطة المركزية هي: الجبهة الإسلامية التي تضم لواء التوحيد وأحرار سورية والجيش الإسلامي؛ والثانية: الدول الإسلامية في العراق والشام (داعش)؛ والثالثة: جبهة النصرة وبعض الفصائل الصغيرة المتحالفة معها وتدين بالولاء لتنظيم «القاعدة». انهيار الجيش السوري الحر هو مقدمة لانهيار الائتلاف الوطني السوري الذي يتزعمه السيد أحمد الجربا، رجل السعودية، وكل الرهانات الأخرى التي تراهن، ومنذ بداية الأزمة، على تشكيل جسم سياسي معتدل يمكن أن يكون مفاوضا أو بديلا للنظام السوري. وإذا قبلنا بالفرضية التي تقول إن الجبهة الإسلامية، المدعومة سعوديا، هي القوة الإسلامية «المعتدلة» الأكثر تسليحا وتدريبا وتمويلا، فإن هذا يحتم إعادة تشكيلة الائتلاف الوطني ودعمه بعناصر إسلامية جديدة، على حساب القيادات الإخوانية المحسوبة على دولتي قطر وتركيا، إلى جانب بعض الشخصيات الليبرالية الأخرى. ولا نستبعد تفكيك هذا الجسم السياسي كليا واستبداله بمنظومة واسم جديد، على غرار ما حدث للمجلس الوطني الذي أسسه التحالف القطري التركي في بداية الأزمة وأطاح به التدخل السعودي المتنامي سياسيا وعسكريا. الرئيس السوري، بشار الأسد، سيكون الأكثر سعادة بمثل هذا الانهيار، لسببين أساسيين: - الأول: أنه تحدث أكثر من مرة في مقابلاته عن وجود اتصالات بمجموعات في الجيش الحر أثمرت عن إلقائهم السلاح وعودتهم إلى السلطة بعد ضمانات بالسلامة والعفو؛ - الثاني: تأكيده منذ بداية الأزمة أنه يواجه جماعات جهادية إسلامية «تكفيرية»، ولم تصدقه إلا القلة، وها هو الصراع يتطور، وبصورة علنية، ويصبح حربا بين معسكرين واضحي المعالم، أي معسكر النظام، من جهة، ومعسكر الجماعات الإسلامية على مختلف ألوانها العقائدية، في الجهة المقابلة. ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية توصلت إلى النتيجة نفسها، وسارعت إلى فتح حوار مع جبهات إسلامية «معتدلة» بوساطة تركية، وهو ما اعترفت به المتحدثة باسم البيت الأبيض، تحت غطاء البحث عن البدائل ومحاولة إقناع هؤلاء المعتدلين بالمشاركة في مؤتمر جنيف المقبل. الجنرال مارتن ديمبسي، رئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية، قال: «إن الولايات المتحدة ترى أهمية للتعرف إلى المليشيات التي يشتبه في ارتباطها بتنظيم «القاعدة» في سورية حتى نفهم نواياها في الحرب الدائرة هناك، وصلاتها المحتملة بالقاعدة»، وأضاف: «إن الأمر يستحق معرفة ما إذا كانت لدى هذه الجماعات أي نية على الإطلاق للاعتدال وقبول المشاركة مع الآخرين». إخراج الجيش السوري الحر من المعادلة السياسية والعسكرية السورية لمصلحة الجبهات الإسلامية المقاتلة على الأرض والتي يزيد تعداد عناصرها على سبعين ألف مقاتل، قد يجعل النظام السوري أكثر قربا من الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، لأن زواله من السلطة لم يعد أولوية ملحة بالنسبة إلى المعسكر الغربي. ولا نستغرب أن يكون تهديد الجنرال إدريس، الذي أطلقه الأسبوع الماضي في ذروة مسلسل هزائم جيشه أمام الجبهة الإسلامية، بالانضمام إلى الجيش السوري الرسمي في مواجهة هذه الجماعات المتشددة، ليس نابعا من حالة يأس، وإنما ثمرة اتصالات واتفاقات مع الولايات المتحدة في هذا الصدد. نقف الآن على أبواب إعادةٍ لسيناريو «الصحوات» العراقية على الأرض السورية، ولكن بطريقة أحدث، مع فارق أساسي وهام وهو أن «الصحوات» الجديدة التي ستقاتل الإسلاميين المتشددين ستكون مدعومة، بشكل مباشر أو غير مباشر، من الجيش العربي السوري والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين وبعض العرب في المرحلة الأولى على الأقل. السؤال هو حول موقف الدولتين الخليجيتين الداعمتين للمعارضة المسلحة على الأرض السورية، والمقصود هنا المملكة العربية السعودية وقطر، فهل ستستمران في الوقوف خلف الجماعات الإسلامية المقاتلة للنظام أم ستساندان «الصحوات» الجديدة بالمال والسلاح؟ أم إنهما ستخوضان حربا بالنيابة ضد بعضهما البعض من خلال الفصائل المقاتلة التي يدعمانها بالمال والسلاح؟ من الواضح أن الجبهة الإسلامية، التي تضم الفصائل الإسلامية المقاتلة، ستكون المرشحة لكي تكون نواة «الصحوات» السورية، ليس فقط لأنها تحظى بدعم المملكة العربية السعودية، والأمير بندر بن سلطان قائد استخباراتها وفق التقارير الأمريكية والغربية، وإنما أيضا لأنها بدأت تخوض معارك ضد الدولة الإسلامية وجبهة النصرة القريبتين من تنظيم «القاعدة» في أكثر من مكان في سورية، خاصة في الشمال الغربي. الرئيس بشار الأسد قال، في آخر لقاءاته الصحافية، إن هناك اتصالات بمعظم الدول الخليجية، وإن المشكلة فقط محصورة في بعض الأمراء السعوديين في إشارة واضحة إلى الأمير بند بن سلطان الذي يدير الصراع في سورية باسم بلاده. لجوء الجنرال إدريس إلى قطر، إذا صح، يعني أنه لجأ إلى حليف يقف في الخندق نفسه ضد الجبهة الإسلامية التي أطاحت بجيشه الحر، وهذا يطرح سؤالا ملحا وهو: من تدعم دولة قطر على الأرض السورية في هذه الحالة؟ نترك الإجابة للقطريين ومحطة «الجزيرة». مع وقوفنا على بعد أربعين يوما عن موعد انعقاد مؤتمر جنيف، يبدو المشهد السوري أكثر تعقيدا، وقد نشهد الكثير من المفاجآت في الأسابيع المقبلة على طريق ترتيب التحالفات ووضع خريطة طريق للمستقبل. أسطورة الجيش السوري الحر تقترب من نهايتها، ومقولة الرئيس الأسد التي كررها طوال العامين الماضيين بأنه يواجه جماعات جهادية «تكفيرية» تتأكد يوما بعد يوم، اتفقنا معه أو اختلفنا، ويمكن القول إن التحدي الأكبر الذي يواجهه الأمير بندر بن سلطان هو مدى قدرته على إقناع الولايات المتحدة بأن الجبهة الإسلامية التي يرعاها هي البديل للجيش الحر، بحيث تكون تكرارا لتجربة المجاهدين العرب في أفغانستان. الأيام والأسابيع المقبلة قد تشهد تحالفات غريبة لم تخطر على بال أعتى المراقبين للمشهد السوري، ويكذب من يقول إنه يفهم المشهد السوري الحالي، ويستطيع أن يتنبأ بما يمكن أن يحدث من مفاجآت وغرائب، نحن هنا نجتهد ونطمع في الفوز بأجر المجتهدين على الأقل! عبد الباري عطوان