حصلت خديجة الرياضي، منسقة الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، الذي يضم 22 جمعية حقوقية، على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لسنة 2013. وأكدت اللجنة المكلفة بانتقاء المرشحين أن «السيدة الرياضي معروفة بموقعها الطليعي في مجال مكافحة الإفلات من العقاب، والمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وحرية التعبير». في هذه الورقة نتعرف على مسار هذه المناضلة الحقوقية، ونستمع إلى شهادات يقدمها في حقها نشطاء حقوقيون ونقابيون وفعاليات إسلامية ويسارية. سليمان الريسوني مشهد الأم خديجة الرياضي وهي تعانق ابنها منتصر والدم ينساب على جبهته، خلال الوقفة المنددة بالعفو على البيدوفيل الاسباني دانييل كالفان، تجيب عن سؤال نجاح هذه المرأة في مساريها النضالي والعائلي، فهذه الأم لشابين: خالد، خريج المدرسة المحمدية للمهندسين(25 سنة)، ومنتصر، الوجه البارز في حركة 20 فبراير(22 سنة)، وفقت، بمساعدة زوجها عبد الرزاق الإدريسي، في إدماج نشاطها السياسي والحقوقي والنقابي وسط أسرتها الصغيرة. «كانت أمي تبذل قصارى جهدها لتكون معنا في البيت، حيث تحرص على المزاوجة بين الاهتمام بي أنا وأخي وإتمام مهام نضالية فاتها أن تقوم بها، كصياغة التقارير والبيانات.. لكننا اعتدنا على ذلك.. لاحقا أشركتني والدتي في أنشطة شباب الجمعية، ولولا ذلك لما كانت لي علاقة بالنضال الحقوقي» يحكي ل»المساء» منتصر الإدريسي. يتساءل الكثيرون: من أين لامرأة، لا علاقة لها بالرياضة، عدا المشي في المسيرات والركض في الشوارع عند اشتداد «هراوة» الأمن، باسم الرياضي؟ فيجيب زوجها عبد الرزاق الإدريسي: لا سر هناك، أصل الاسم مشتق من قبيلة «أريض» التي تنحدر منها عائلة خديجة». عروس المناضلين ذات يوم من صيف 1985 طرق فؤاد عبد المومني باب منزل عبد الحميد أمين بزنقة المختار السوسي بالرباط، مصحوبا بشاب متوسط القامة، قدمه إلى أمين قائلا: هذا خالي عبد الرزاق الإدريسي، وبينما أمين يتفرس في وجه الخال الذي يصغر ابن اخته بسنوات، أردف عبد المومني: خالي عبد الرزاق يحتفل اليوم بزفافه، بقصر القباج. حتى ذلك الحين، لم يكن عبد الحميد أمين الذي جاور هذا «القصر» منذ الإفراج عنه، يعرف أنه يستغل كقاعة للأفراح، قبل أن يخبره بذلك رفيقه السابق في السجن، لذلك أصر على مرافقة العريس و»وزيره» إلى العرس. «عندما دخلت إلى بهو القصر رأيت خديجة الرياضي، لأول مرة في حياتي، محمولة فوق العمارية» يحكي أمين ل«المساء». يومها، لم يخطر ببال عبد الحميد أمين أن هذين العروسين سيصبحان أقرب إليه من فؤاد عبد المومني الذي سيختار مسارا مغايرا لمسار الرياضي وأمين والإدريسي في النقابة والسياسة والحياة، وإن كان محايثا له ومتقاطعا معه في جوانب عديدة.. ومنذ ذلك العرس تتالت الأعراس النضالية التي «برزت» فيها خديجة كمناضلة نقابية وسياسية وحقوقية.. تشق طريقها «نحو النصر بالإصرار»، بما أوتيت من جدية الأمازيغ، وخجل القرويين، ودموع المرهفين، وغضب الصادقين. وصبر الموقنين بأن الصبح قريب. من إغرم إلى واشنطن.. بالرغم من أن خديجة الرياضي مسجلة في كناش الحالة المدنية بأنها من مواليد 1960 بتارودانت، إلا أن مسقط رأسها الحقيقي، هو قرية «إغرم 44» نواحي تارودانت. منذ نعومة أظافرها، اعتادت خديجة أن تنام وتصحو على حكايات أمها عن والدها، حسين الرياضي، الذي قاوم الاستعمار، وكان على علاقة متينة برموز الحركة الوطنية وجيش التحرير. بعد حصول المغرب على استقلاله هاجر الحسين الرياضي إلى فرنسا للبحث عن عمل، قبل أن يقرر العودة إلى المغرب والاستقرار بالعاصمة الرباط حيث استثمر في مجموعة من المشاريع التجارية. في الرباط، التي انتقلت إليها وهي في الرابعة من عمرها، نشأت الطفلة خديجة وسط أسرة مكونة من ستة أفراد؛ أربع إناث، وذكران. إلا أن بيت الحسين الرياضي وفاطمة أحواش بحي يعقوب المنصور «G5»، سيكون مفتوحا في وجه أبناء الأعمام والأخوال، وبنات العمات والخالات، الوافدين والوافدات من تارودانت ونواحيها للدراسة أو للعمل بالرباط. عندما بلغت خديجة سن التمدرس، تم تسجيلها في مدرسة «الفتح» بباب الأحد، وبعد حصولها على شهادة الدروس الابتدائية، انتقلت إلى ثانوية عمر الخيام حيث درست المرحلة الإعدادية والثانوية، وحيث تشكل وعيها السياسي في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب. من الناحية السياسية، عرفت نهاية السبعينيات، وبداية الثمانينيات، انحباسا غير مسبوق، بفعل تحكم الدولة في مجال الحريات العامة والحياة السياسية، عبر ضبط الأحزاب، ودفعها إلى حسم علاقتها مع «الاتجاهات المغامرة»، وخنق حرية التعبير، عبر مراقبة ومصادرة الصحف والمنشورات ونشر المخبرين في كل التجمعات، والاعتقالات العشوائية والأحكام القاسية التي طالت مناضلي اليسار الجذري. أما من الناحية الاجتماعية فقد تميزت نهاية السبعينيات باحتقان اجتماعي، فاقمته التناقضات الاجتماعية التي طفت بفعل الفوارق الاجتماعية الواسعة، وانفجار الهجرة القروية نحو المدن، والتضييق على الحق في التنظيم والاحتجاج النقابي، وظهور تعبيرات نقابية جديدة... في هذا المناخ ستجتاز خديجة الرياضي امتحانات الباكالوريا بنجاح، خلال موسم 1980- 1981، على وقع انتفاضة يونيو 1981، التي أطلق عليها ادريس البصري، استهزاء، اسم «انتفاضة كوميرا». في شعبة البيولوجيا بكلية العلوم بالرباط، وجدت الشابة خديجة الرياضي نفسها تحفظ عن ظهر قلب أغنية الانتفاضة الشهيرة: « اشهد يا حزيران.. في يومك العشرين.. وطني أنار الدربَ والنصرَ مشتعلُ.. ذي يقظة الفلاح.. ذي صرخة العامل.. ذي ثورة الجمهور.. يا شعبنا البطل.. سعيدة يا زروال.. دهكون يا رحال.. مواكب الأبطال.. بالوعد تتصلُ.. مَن مخبر المهدي.. من مخبر عمرا.. عن روعة الأوطوروت.. وبأس من نزلوا.. مدينة البيضاء.. يا درب من قتلوا.. أبناؤك الفقراء.. اليوم قد وصلوا». بعد موسم دراسي قضته في دراسة البيولوجيا، ستترك خديجة الرياضي كلية العلوم، وتتجه نحو المعهد الوطني للإحصاء الاقتصادي والتطبيقي «INSEA»، وهناك ستعتنق بقوة أفكار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، القاعدية، ومعها ستعانق رجلا هادئا اسمه عبد الرزاق الإدريسي، لا يتوقف عن رسم ابتسامة ثابتة، مطمئنة في أحلك الأوقات، بأن الأمور ستكون بخير. جدية خديجة ونظرتها العميقة الواضحة، التي يعكسها صفاء وجهها الأبيض وعيناها الغارقتان في محجريهما.. ستؤهلها لكي تنتخب، في سنتها الأولى ب»INSEA»، رئيسة لجمعية طلبة المعهد الوطني للإحصاء الاقتصادي والتطبيقي (كان بمثابة تعاضديات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في الكليات) فكانت الطالبة ذات الأصول الأمازيغية تتنقل بين كليات الرباط وبقية المدن للمشاركة في اللقاءات والمعارك الطلابية، بصمود وصبر وصمت ونكران ذات. حب ودموع فوق «الموبيليت» «إذا كان هناك تعبير يمكن أن نختزل فيه خديجة الرياضي فهو «نكران الذات»، هكذا تقول المناضلة النقابية، والبرلمانية السابقة، خديجة الغامري، التي تعرفت على الرياضي في المعهد الوطني للإحصاء الاقتصادي والتطبيقي، وجمعتهما صداقة عميقة، لم تزدها السنون إلا ترسيخا. «كان لقاؤنا داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، في الجمعية، وفي التعاضدية لاحقا، حيث كنا نناضل داخل فصيل الطلبة القاعديين، فكانت خديجة نموذجا في التفاني والصبر والعمل المستمر بصمت.. وأذكر أننا كنا نخوض إحدى المعارك الطلابية، التي انخرطت فيها خديجة بحماس أكثر منا، إلى درجة أنها نسيت في إحدى المرات، لمدة 24 ساعة، أن تتناول طعامها، وتأخذ لها قسطا من الراحة، إلى أن سقطت وهي واقفة مغمى عليها» تضيف خديجة الغامري. بعد تخرجها من «INSEA» ستؤسس خديجة الرياضي رفقة العديد من رفيقاتها، من أمثال نعيمة النايم، وسميرة الكيناني، وخديجة الغامري... «نادي الأمل» بدار الشباب «دار غازية» بزنقة أفغانستان بالرباط، «كنا نعمل بنشاط لمحو الأمية الكتابية والمعرفية والاجتماعية وسط النساء، فنطرق أبواب المنازل ونقتحم الأحياء الصناعية لهذا الغرض... في هذه المرحلة كانت خديجة تزاوج بين العمل في صفوف النساء الأميات، والنشاط ضمن النادي السينمائي» تحكي المناضلة النقابية والحقوقية سميرة الكيناني. وتضيف بعفويتها المعتادة: «خديجة ماشي زقرامة فالفلوس والوقت.. فهي تعطي بسخاء ودون حساب من جيبها ووقت عائلتها». تتذكر الكيناني، وهي تستعيد شريط ذكريات النضال رقة رفيقتها خديجة الرياضي، كيف أنهما كانتا متلازمتين في مسيرة الاتحاد الجهوي للاتحاد المغربي للشغل بالرباط يوم 17 أبريل 1996، التي ووجهت بقمع شرس تسبب في كسور وإغماءات وسط العمال، وأعقبته محاصرة مقر النقابة في شارع جون جوريس.. «كنت جنب خديجة عندما سمعنا الوالي السابق عمر بنشمسي يعطي أوامره لقوات الأمن بالفرنسية: «Balayez-moi cette racaille»، ثم بالعربية (شطبو عليّ هاذ الزبل)، لينزل علينا القمع بهراواته فكان العمال والمناضلون يتساقطون كأوراق الشجر». عندما دخل المحتجون إلى مقر الاتحاد المغربي للشغل الذي طوقه البوليس من كل جهة، تسلق عبد الحميد أمين إحدى الطاولات وشرع يلهب حماس العمال بكلمة نارية. «عندما كان أمين يردد في وجه العمال: نقسم بأننا سنظل صامدين مناضلين إلى جانب الطبقة العاملة.. من أجل الاشتراكية والعدالة والحرية... وجدتني، أنا وخديجة، متعانقتين نبكي، ليس خوفا أو حزنا، لقد كان بكاؤنا مزيجا من الصدق والأمل بأن ليل الظلم لا محالة زائل» تضيف سميرة. دموع خديجة الرياضي التي توازن قوتها في الصمود والحكمة والجلَد، تعكس رهافة شخصيتها المؤمنة بصدق وجدوى خطواتها النضالية والإنسانية المضبوطة. تتذكر خديجة الغامري: «ذات يوم حدث بيني وبين خديجة سوء تفاهم غير مسبوق، فقررنا الالتقاء بإحدى المقاهي لتوضيحه وتجاوزه، وما إن بدأنا ببسط حيثيات المشكل حتى شرعنا، كلانا، في البكاء. تعانقنا، تاركتين للدموع والعناق الصادق حل ذلك الخلاف». الخديجتان اللتان اشتغلتا حال تخرجهما مهندستين من المعهد الوطني للإحصاء الاقتصادي، وفي لجنة المرأة العاملة داخل الاتحاد المغربي للشغل.. وأطرتا عاملات النسيج في النقابة ووسط الأحياء الصناعية، وشاركتا في المعارك الماراطونية لعمال جبل عوام... لا تنسيان أيام الدراجة النارية «موبيليت»، التي كانت تسوقها خديجة الرياضي مردفة خلفها خديجة الغامري، كطقس يومي؛ تتعانقان كشراعين وسط الريح، وتطلقان أغاني ثورية ملهبة للحماس، «بمجرد ما كنا نمتطي «الموبيليت» من مدينة العرفان، في اتجاه القامرة، أو وسط المدينة، للتسوق أو الفسحة، نبدأ في غناء: نموت اشتياقا.. نموت احتراقا.. وذبحا نموت.. ولكننا لا نقول حبنا انقضى ومضى.. حبنا لا يموت.. حبنا لا يموت». قبل أن تنهي خديجة الغامري اتصالها بصحافي «المساء» قالت: «أنا سعيدة لأنك أرجعتني إلى هذا الزمن الجميل مع امرأة بروعة خديجة الرياضي». ولية من أولياء الله.. «ما يميز خديجة الرياضي عن عديد من المناضلين الحقوقيين، هو تفاعلها التلقائي والمتفاني مع القضايا العادلة.. ومهما قلت في هذه المرأة فلن أوفيها حقها، إنها ولية من أولياء الله»، هذا الكلام لرضا بن عثمان، المعتقل السابق في «قضايا الإرهاب»، الذي سبق له ان احتك بخديجة الرياضي عندما كان معتقلا لأربع سنوات، من أصل سبع حكم عليه بها في ملف من ملفات «السلفية الجهادية». بعدما اطلعت خديجة، وهي رئيسة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، على ملف رضا بن عثمان واقتنعت بأنه يدخل في إطار «الاعتقال التعسفي» أدرجته ضمن لائحة الجمعية لمعتقلي الرأي، «وهو ما ساعد في الدفاع عن ملفي في المحافل الحقوقية، وكان له أثر في عودتي إلى عملي» يؤكد رضا بن عثمان ويضيف: «بفعل مجهودات خديجة الرياضي وصلت مظلوميتي إلى العديد من الهيئات التي لم يكن بوسعي إقناعها بعدالة قضيتي. لقد تواضعت هذه المرأة وتبنت قضية رجل محكوم بقانون الإرهاب». عندما وجد، في فترة من الفترات، داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، من يتبرم من الدفاع عن حقوق الإسلاميين، بمبرر: «لاحرية لأعداء الحرية» كانت خديجة الرياضي في طليعة من تصدى لهاته الدعوة، ومن أوائل من استجاب لصرخات كل المظلومين ومسلوبي الحقوق مهما كانت أفكارهم وقناعتهم، بحيث كانت عضوا في الهيئة الوطنية المستقلة لمساندة معتقلي العدل والإحسان بفاس، كما اشتغلت على ملف عمر محب، العضو بنفس الجماعة، والذي يقضي عقوبة عشر سنوات في قضية وفاة الطالب محمد بنعيسى آيت الجيد... على هذا المنوال «استطاعت خديجة الرياضي، عندما كانت رئيسة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أن تتبنى الكثير من القضايا الحقوقية بغض النظر عن الانتماءات السياسية لأصحابها، ومدى اختلافهم معها فيما يعتقدونه من أفكار»، يؤكد محمد السالمي، المسؤول عن الهيئة الحقوقية لجماعة العدل والإحسان، ثم يضيف أن «حصول الرياضي على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان جاء عن جدارة واستحقاق، تتويجا للمسار النضالي لامرأة مغربية لا تنتسب فقط للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ولكنها رمز للمرأة المغربية المناضلة، وقد بادرنا في الهيئة الحقوقية لجماعة العدل والإحسان إلى تهنئتها وتهنئة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بهذا التتويج المستحق». عبد الإله بنعبد السلام، المعتقل السياسي السابق والوجه الحقوقي المتميز، الذي رافق خديجة الرياضي في مسارها على رأس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان كنائب لها، يعتبر أن ما يميز الرياضي كحقوقية، هو أنها تحمل قضية حقوق الإنسان في مسامها، فتتحرك بعطاء كبير على حساب راحتها وراحة زوجها وأبنائها المناضلين. ويضيف بنعبد السلام بأن إصرار 22 منظمة حقوقية مغربية على اختيار خديجة الرياضي منسقة للائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، بالرغم من اعتذارها المتكرر عن تحمل هذه المسؤولية، هو دليل على التميز النضالي لهذه المرأة، كما أن إصرار الإعلاميين والحقوقيين على اختيارها منسقة للجنة الوطنية من أجل إطلاق سراح الصحافي علي أنوزلا، بالرغم من اعتذارها بقوة على تحمل هذه المهمة، هو تأكيد للثقة والكفاءة والمسؤولية التي تحظى بها الرياضي في عيون رفاقها وأصدقائها.