على الرغم مما تقدم ليس من الصعب إنقاذ السودان من براثن «القضاء» المنافق في لاهاي تبدو مذكرة الاعتقال التي أصدرها لويس مورينو أوكامبو، مدعي عام محكمة الجنايات الدولية، ضد الرئيس عمر البشير وكأنها بحق استمرار للسياسة الهجومية الغربية الفاشلة في الشرق الأوسط خلال ولايتي الرئيس الأمريكي جورج بوش، فقد انطوت تلك السياسة على احتلال عسكري مباشر للعراق وأفغانستان وترافقت مع ضغوط تربوية لتغيير مناهج التعليم في العالم العربي ضمن برنامج معروف صدر في تقارير «التنمية العربية» عن الأممالمتحدة والتي توقفت بعد فشل الحملة العسكرية وكانت تلك التقارير ترمي إلى تكييف أحوال العرب مع نتائج الاحتلال. وعلينا أن نتذكر أن الحملة العسكرية و»الإصلاحية « المزعومة ترافقت أيضا مع مبادرات غربية صدامية ضد رموز العرب والمسلمين، ومن بينها نشر الرسوم المسيئة إلى رسولنا العربي (صلى الله عليه وسلم)، ومن غير المستبعد أن يكون انفجار النزاع في دارفور مع انطلاق الحملة العسكرية مرتبا بطريقة قد تبدو في ظاهرها محايدة ومحلية سوى أنها في حقيقتها متزامنة بل مرتبطة عضويا بالحملة العسكرية والسياسية الشاملة على منطقتنا. وعلينا أن نتذكر أيضا أن المحكمة الدولية كانت تريد، قبل استهداف البشير شخصيا، إضعاف الحكومة السودانية عبر اعتقال اثنين من مساعديه المعنيين بهذا النزاع وبالتالي زيادة نفوذ وقوة الفرق المتمردة في قبائل الفور والمساليت والزغاوة، وذلك وفق الاستراتيجية التي اعتمدت في الجنوب السوداني، حيث تمكنت الحكومات الغربية والمنظمات الدولية والجمعيات غير الحكومية من تغطية التمرد المحدود على الحكومة المركزية ووفرت له الوسائل الضرورية كي ينمو ويصلب عوده ويصل بالتالي إلى الموقع الانفصالي«غب الطلب» الذي وصل إليه. والواضح أن الحشد «الدولي» غير المسبوق في الإقليم وتوفير الملاذ الآمن لزعماء المنظمات الدارفورية المسلحة في العديد من العواصمالغربية والإقليمية ومنح عشائرهم المساعدات «الإنسانية» واستضافتهم في المنابر الإعلامية ذات السطوة والتأثير يوفر لهؤلاء الزعماء معونة قوية لحشد وتنظيم أنصارهم الذين يدركون أنهم يسيرون على النهج الجنوبي وأنهم واصلون إلى ما وصل إليه متمردو الجنوب. والبادي لمن يتابع تطورات هذا الملف أن الهجمة «الحقوقية» على الحكومة السودانية كانت تتصاعد في كل مرة تلوح فيها بوادر مصالحة بين السلطة والمتمردين، لذا يبدو التزامن فاقعا في وضوحه بين بوادر التفاهم التي انبثقت من مؤتمر الدوحة الأخير وصدور مذكرة التوقيف في حق عمر البشير، وعلينا ألا ننسى أيضا التزامن بين بوادر المصالحة المذكورة وبين الإعلان عن اتصال أحد قادة التمرد بإسرائيل بدعوى الاطمئنان على حال ثلاثة آلاف «لاجيء»( من أصل ثلاثة ملايين دارفوري) وكأن الذين يتدخلون في هذا الملف خلف الكواليس يريدون القول لمن يطلب الدعم الغربي في هذه القضية إن ذلك يمر عبر الدولة العبرية تماما كما مر من قبل زعماء التمرد في جنوب السودان والأكراد في شمال العراق، ناهيك عن المحاولات الفاشلة لبعض عراقيي الخارج، ومن بينهم مثال الآلوسي، ولبعض السورين، ومن بينهم الأمريكي ذي الأصول السورية فريد الغادري، ناهيك عن بعض المليشيات اللبنانية العملية «سابقا» لإسرائيل.. إلخ. ولعل اتصال أحد مسؤولي التمرد الدارفوري بإسرائيل ينطوي على رسالة قوية للحكومة السودانية ولزعماء التمرد الآخرين بأن أجندة القوى الدولية المتدخلة في الإقليم أهم من المساعي القطرية وأن الرهان على الانفصال أو تحطيم الحكومة المركزية أمر ثابت في الأجندة المذكورة، وبالتالي لا جدوى من التفاهم مع رئيس سوداني حقق نجاحا طفيفا في الدوحة لكنه ما لبث أن أصبح في قفص الاتهام الدولي، وإن لم يخضع فستكون بلاده بأسرها عرضة لمؤتمر دولي في القاهرة يبحث في مصير السودان كله وليس في مصير دارفور حصرا. يفضي ما سبق إلى استنتاج مفاده أن مذكرة اعتقال البشير هي استمرار لحرب تفتيت السودان بوسائل «قضائية»، وهذا الاستنتاج لا ينطوي على حكم قيمي لصالح الرئيس السوداني كما قد يبدو للوهلة الأولى، وإنما على تقدير لا تعوزه الأدلة السياسية الدامغة التي سبق ذكرها، وأن «عدالة» أوكامبو المزعومة في السودان يقابلها نفاق عدلي صارخ في غزة، وذلك دون أن تغير من طبيعة هذا النفاق تصريحاته الأخيرة بكونه عاكفا على «تحليل المعلومات» من أجل محاكمة إسرائيل على جرائمها وكأن تلك الجرائم الموثقة على مدار أيام الحرب بالصوت والصورة تحتاج إلى تحليل وتمحيص طويل الأمد كي يصدر القاضي مذكرة اعتقال في حق مجرمي تلك الحرب. ومع ذلك، هناك بعض السذج الذين يأملون أن ينتصر القاضي الأرجنتيني ل«حماس» ويدين إسرائيل وهم أنفسهم كانوا، قبل سنوات، يأملون أن ينتصر القضاء البلجيكي لياسرعرفات ويدين أرييل شارون لرعايته مجازر صبرا وشاتيلا. وعلى الرغم مما تقدم ليس من الصعب إنقاذ السودان من براثن «القضاء» المنافق في لاهاي ذلك أن ظروفه تختلف عن ظروف صربيا التي استسلمت أمام الحملة العسكرية الغربية على يوغوسلافيا السابقة وخسر قائدها سلوبودان ميليسوفيتش حروب البلقان في التسعينيات. وليس حال السودان كحال العراق عشية حرب العام 2003 وبالتالي لن يكون مرشحا للاحتلال في وقت تغادر فيه الجيوش الغربية العراق وتبحث عن مخرج مشرف للانسحاب من أفغانستان وليس حال السودان كحال لبنان عام 2005 حين اغتيل الرئيس الحريري وشكلت محكمة دولية لمحاكمة النظام السوري وإسقاطه وهي اليوم تغور في دهاليز تقنية وتفتقر إلى هامش مناورة مريحة. أما عن ماسي دارفور و جراحها المؤلمة وضحاياها المقدرين بعشرات الآلاف فعلاجها شرط لا غنى عنه لإبعاد المخاطر عن السودان والحؤول دون تفتيته ولعل أول العلاج يبدأ بالاعتراف السوداني الصريح بتلك الجرائم وتعويض المتضررين وإعادة المهجرين إلى أراضيهم والشروع بمصالحة وطنية شاملة..في هذه الحالة وفيها وحدها تعود الثقة إلى الخرطوم ويتحول اوكامبو إلى قاض عابر في مذكرة عابرة.