كثير من المبدعين العرب المعاصرين كتبوا عن الشعب والجماهير والناس البسطاء، من العراق إلى المغرب مرورا بلبنان وفلسطين وتونس وسوريا، لكن لا أحد يستحق لقب «شاعر الفقراء» أكثر من أحمد فؤاد نجم، شاعر العامية المصرية الذي فاجأنا الثلاثاء الماضي وصعد في الصباح الباكر إلى السماء. الرجل كان مبدعا استثنائيا، جسّد البساطة في قصائده وملامحه وملابسه ومسيرته الطويلة مع الكلمة الحرة والغاضبة، لذلك لم يكن غريبا أن تعينه «الأمم المتحدة» «سفيرا للفقراء» عام 2007. الذين عرفوا الرجل عن كثب، يدركون أن الفقر عند نجم موقف وجودي ونمط حياة ومنبع إلهام، دون أن يكون استسلاما أو خضوعا للقدر الأعمى، بل طاقة متجددة تحفز على الرفض والغضب، لذلك كان الشاعر حاضرا في كل الأحداث التي صنعها «الجماهير الكادحة» في مختلف أنحاء العالم، من فلسطين إلى كوبا ومن الجزائر إلى الشيلي، كما كان في طليعة الثورات التي شهدتها بلاده من 1952 إلى 2011، وأنشد نشوة الانتصار كما غنى مرارة النكسة. صاحب «غيفارا مات» و»بقرة حاحا» و»شيد قصورك» و»اتجمعوا العشاق»، كان دائما في الموعد مع الشارع ومع السجون، وطيلة حياته لم يؤجل غضب اليوم للغد، كما يفعل الكثيرون. أجيال بكاملها في البلدان العربية، رددت أشعاره على نغمات الشيخ إمام، قرينه الأعمى الذي أبصر الطريق إلى قلوب الملايين في ظلمة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، خصوصا في الجامعات والحلقيات والتجمعات اليسارية، أيام كان اليسار يسارا. اليسار العربي هو أحمد فؤاد نجم: الأول مات من زمان والثاني بقي يقاوم ويعاند إلى آخر رمق. لم يهادن في حياته أحدا، كان يكفي أن يقتنع بالفكرة كي يتحدث عنها بحماس منقطع النظير. شاعر آمن أن الكلمة رصاصة حقيقة، وحول فمه إلى مدفع رشاش يطلق منه النار على الرداءة والتافهين. ورغم أنه يكتب بالمحكية المصرية، فإن قصائده لم تكن تحتاج إلى ترجمة أو جواز سفر كي تدخل إلى قلوب الملايين وتتحول إلى أناشيد ثورية حقيقة في كل بلدان العالم العربي، تشحذ أحلام المتطلعين إلى مجتمعات يسودها العدل والمساواة. ونحن نتأمل مسيرة هذا المبدع الذي صنع مجده بالعامية المصرية، هناك سؤال علينا أن نطرحه كمغاربة وسط الجدل المحموم حول «الدارجة» والفصحى: أيهما الأسبق الدجاجة أم البيضة؟ هل اللهجة المصرية انتشرت بفضل أحمد فؤاد نجم أم أن نجم انتشر لأنه يكتب بالمصرية؟ لا شك أن هناك تفاعلا بين اللغة وبين المبدع على امتداد عقود طويلة، أعطى زخما تاريخيا، وصنع بالتالي مجد العامية المصرية. لو لم يكن هناك محمد عبد الوهاب وسيد درويش وصلاح جاهين وبقية الكبار الأولين لما فهمنا كلمات نجم وأحببناها. الأغاني والأفلام وغيرها من التعبيرات الفنية والأدبية هي ما يصنع تألق لغة ما، ولا بد أن نعترف أن المصريين سبقونا في كل شيء: في الغناء مع سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وفي المسرح مع نجيب الريحاني وتوفيق الحكيم ومجدي وهبة، وفي السينما مع يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وشادي عبد السلام، وفي الفكر مع طه حسين وقاسم أمين وعلي عبد الرازق وسلامة موسى وفي الرواية مع نجيب محفوظ ويوسف ادريس ويحيى حقي وإحسان عبد القدوس... لم تكن أهراماتهم في الجيزة فحسب، بل في الفن والأدب أيضا. مع الأسف، مصر التي نراها اليوم ليست هي نفسها مصر التي نعرف. «أم الدنيا» أصبحت ثكلى البلدان وأرملة قبل الأوان. فقدت الأب والزوج والابن والبوصلة، وصار شعبها يقاتل بعضه البعض في الشارع. ولعل أكثر ما يؤسف وسط هذه التراجيديا المصرية المعاصرة هو إصابة مثقفيها بعمى الألوان، ما عدا استثناءات قليلة، هناك نزوع محير نحو التبسيط لدى المثقفين المصريين، الذين خضعوا إلى منطق الاستقطاب الحاد الذي تعيشه البلاد. «أم الدنيا» أكبر من أن تتحول إلى نسخة باهتة عن مصر التي في خاطرنا جميعا. «بهية» التي غناها فؤاد نجم على امتدد حياته الطويلة لا تستحق هذا المصير: أن تختار بين لحية الإخواني وقبعة العسكري !