أن تنتقل من حقل يخضع لضبط المفاهيم العلمية، ولا يسمح بالانزياح عن ضوابط وقوانين العلم، فإنه شبيه بالخروج من مدينة مسورة إلى فضاءات الحرية الرحبة. هذا بلا شك هو الشعور الذي يمكن أن ينتاب عياد أبلال وهو يقفز خارج أسوار الأنثربولوجيا نحو فضاءات الشعر الرحبة من خلال إصداره الجديد "برج المطر"، الصادر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب، وهو ثاني إصدار شعري للباحث في علم الاجتماع و الأنثربولوجيا الثقافية بعد مجموعته الشعرية الأولى "تراتيل البداية"، التي صدرت سنة 2001. يقول الباحث عن "برج المطر" إن قصائده تحاور بعض المقولات الفلسفية والشعرية ذات العلاقة بالعشق والجنون: "صدر لي ديوان "برج المطر" وأنا أعتبره استراحة الباحث من هموم الميدان وإكراهات الدراسات السوسيولوجية في منتجع القصيد... لهذه الأسباب أستمر رغم كل شيء لأن الشعر أجمل شيء يجعلنا نعشق الحياة.... ولأن برج المطر ديوان عقد من الزمن يحتفي بعشق النساء والحياة ...فهو مهدى إلى كل من يعيش على ضوء الاستعارة". يعلن الأنثروبولوجي والشاعر عياد أبلال منذ أول عتبة تطل على المتلقي عن نوعية الخطاب الذي سيلفظه في ديوان «برج المطر»؛ ويتعلق الأمر بمؤشر دلالي ينتمي إلى عالم الفلك «برج»، وهذا الملفوظ الصوفي-الفلكي غير مفصول عن طبيعة المتن الشعري، خاصة أنها تعزز بمؤشر مقدماتي آخر هو لوحة الغلاف التي تصور ظل شخص وهو يصارع عاصفة دوارة مثل الإعصار تحوطه من كل الجهات. وهذا الانتماء الموضوعاتى المحال عليه من خلال المقولات البرانية للمجموعة الشعرية لا يأتي من فراغ، بل يرتبط، أساسا، بنوعية الحقل الذي ينتمي إليه الشاعر، وطبيعة تكوينه العلمي والأكاديمي الذي هو الأنثروبولوجيا الثقافية، بعد أن درس الفلسفة التي تشكل بالنسبة إليه، كما عبر عن ذلك في العديد من حواراته وتصريحاته الصحفية، الخلفية المرجعية لتكوينه الفكري. فالفيلسوف، والحالة هاته،غالبا ما يكون منشغلا بالأسئلة الكبرى التي تؤرق الإنسان، وغير معني بالتفاصيل بحكم أنه يبحث عن الجذور الأصلية للمعرفة والكون والوجود البشري؛ خاصة ما يتعلق بالقيم التي تؤثث العالم، سواء في صورته الأصلية الطبيعية أو في الصورة المشوهة باسم العصرنة أو الحداثة أو ما شابه ذلك من تحولات رهيبة طالت الكون ومعه القيم المؤسسة للوجود البشري فيه. ويؤكد حضور هذه المرجعيات الفلسفية لدى الشاعر ما صدر به مفاصل مجموعته من نصوص موازية تنتمي في أغلبها إلى حقل الفلسفة والأدب (فريديريك نيتشه، ميشال فوكو، سيمون دي بوفوار، خورخي لويس بورخيص، شارل بودلير، درويش، عبد الرحمن منيف، بوجمعة العوفي...)؛ فالكتابة الشعرية هنا مرهونة بالضرورة بالتفكير في هاته الأدبيات المرجعية؛ التي تتقاطع على حافة احتضان الفلسفة للشعر عبر وساطة القيم المشتركة. لهذا ليس من الغريب أن تتحكم في خطاب المجموعة محاور قيمية تشكل الروافد الأساس للوجود البشري منذ القدم (الحب، الحرية، الموت، الوجود، القلق، السعادة، الجنون، الحكمة، الخلود...)، وكأن هذا المنجز الشعري جاء بمثابة هوامش على متن الاشتغال الأصلي للكاتب وهو التفكير الفلسفي (الأنثروبولوجيا، الفلسفة وعلم الاجتماع). وتتمحور دلالات النص الشعري هنا حول أربعة مفاصل كبرى، هي: مفصل المحبة تستحوذ تيمة المحبة على نصيب الأسد في المجموعة الشعرية؛ باعتبارها قيمة القيم التي جبل عليها الفرد الآدمي بحكم أنه كائن اجتماعي لا يمكنه بتاتا العيش بمفرده على وجه هذا الكون. يبدي الشاعر ولعه العشقي بامرأة هلامية تظهر وتختفي؛ لتشكل أيقونة الهيولي النصية التي من أجلها تخلقت القصيدة هنا؛ في قصيدة «تمثال الحب» تنتصب اللوعة بصفتها معاناة أبدية لا يعرفها إلا من يعيشها ويتذوقها - حسب تعبير سيمون دي بوفوار- خاصة لما يكون قلب المتيم متعلقا بامرأة من عيار ثقيل «امرأة المقام الرفيع»، المرأة التي تقيد إلى جدار الريح، وتعيش يومها من انبلاج الفجر حتى مغيب الذكرى، امرأة ترتق الفراغ في المرآة (ص.12). إن المحبة هنا ترتبط بالحرية؛ وكأنها تتبرم من كل التزام آخر يشغل عن هذا الشعور، حتى لو كان حب امرأة أخرى، وكأن «امرأة واحدة لا تكفي» (ص.13). فالتعلق بامرأة في الظاهر ليس سوى خلفية لتجل جزئي لرغبة صوفية، هاته الرغبة لا ترى في العالم المتجلي سوى ظاهر أفقي لرؤية كونية تستبطن أفقا للغوص في الحقيقة الفلسفية؛ توقا إلى الأقاصي. ما المحبة التي تنشدها القصيدة سوى ارتهان إلى الوجود الأصلي؛ وتسام عن الواقع الوضيع والقيم السفلى. وما المرأة/ النساء المعادلات للجمال المثالي سوى تمظهر مادي جزئي للحقائق المجردة التي تسعى الذات إلى تمثيلها، لذلك يستعصي عليه الارتباط بشخص امرأة معينة مهما مال الفؤاد اتجاهها، ومهما تجسدت فيها قيم الكمال الجسدي؛ لأنها تظل مجرد ظل سرعان ما يزول ويختفي بريقه. وتبدو استحالة تصور شكل المرأة التي تتحدث عنها القصيدة في هذا المقطع: «هكذا امتزجت سيدة المقام الرفيع/ بالماء،/ والنار،/ والهواء،/ وأعادت تفاصيل الحكاية بإيقاع الذكريات،/ بعد ما استوت تمثالا أرجيليا لامرأة/ تمتطي/ فرسا/ بأجنحة من ورق» (ص.17). ولن تكون سيدة المقام الرفيع، بناء على التوصيف النصي، سوى امرأة تحل في كل مظاهر الكون لأنها تجلّ لجمال الخالق المتمظهر في كونه. وتشكل هاته المرأة المستحيلة المتغنى بها على مستوى القصيدة معادلا رمزيا للأم وللحرية وللوطن ولكل النساء، امرأة تثير في الشاعر شهوة البدايات، وجه الأم «فاطمة»، وحلم الخلود... يقول الشاعر: «عذري إن أحببت كل الجميلات، أني أحببت فيهن وجه أمي، وسيرة القمر» (ص. 82). مفصل الوجود لا تنفصل قيمة المحبة المثلى عن قيمة الوجود الأصلي للبشر، فكل القيم الأخرى توزعت منها شعريا، لتتفرع إلى قيم مجزأة. يقول الشاعر: «أنا/ المبتدأ/ والمنتهى مديح للعزلة/ والجسد ما بين النار والطين/ حلم مسافات وسفر أرجواني بطعم الحزن» (ص.47). ويرسخ هذا الوجود الصورة المطلقة للحقيقة (المبتدأ- المنتهى) بالأسلوب الذي جُسّد به نصيّاً، وبالحضور الأنويّ المتجذرة صوفيا، وبالاستغراق في الزمن الآبد المتعالي على التحديد، وهاته الدلالة الشمولية المفتتة على مستوى القصيدة، والوحدة المتجسدة على مستوى الدلالة لا تلملمهما سوى لغة تترقرق كماء الوجد الصوفي الذي ينطلق من حضور الأنا، وحضور الأنثى. وهذا ما يوائم التصور الشعوري الذي تمتلئ به ما ورائيات النصوص وجوهرها المتشكل من الشطح الإيحائي والرمزي للعلامات والوحدات الشعرية واللغوية والتناصية. مفصل الرغبة تمثل الرغبة المستبطنة في السمو بالإحساس المضاعف بقيم الوجود والمحبة والارتقاء المتعالي نحو الحقيقة المثلى السفر المجرد من الجسد إلى الروح عبر الاستعارة واللغة المتعاليين. يحلم الشاعر بكون مغاير يقوم على فلسفة الحق؛ وينهض على قيم أصيلة حققتها الطبيعة وأفسدتها الثقافة. يحلم الشاعر برغبة في التجلي، في مقاومة الغياب المتربص، على امتداد التجربة؛ وامتداد القصيدة. يقول: «أنا/ الخالد ذكرى، والمزيفون راحلون في النسيان/ لا خير في شاعر يحكمه الموت/ وفي/ ثائر يهدهده صهيل الشهوة/ أو يبكيه صوت الرصاص» (ص.86) ليست الشهوة المقصودة نصيا بمعنى الرغبة الحسية الجسدية؛ لكنها الشهوة الحارقة التي تحيل على الغوص في شمس الحقيقة الغائبة. لذلك يتساءل الشاعر مستنكرا: «لماذا ننشطر نصفين: نصف يضيئه قمر سلطانه ليل، وبقايا من أسرار، ونصف تكشفه شمس عارية سوى من نار؟» (ص.94) ويعبر الشاعر عن موضوع رغبته هاته بالسفر الحالم نحو الملكوت العامر التي تجد فيه الذات ذاتها؛ وتتحقق وجوديا عبر تجربة المحنة الصوفية. يقول الشاعر مخاطبا ذاته: «قم ولا تلتفت وراءك، غادر ظلك وارحل، فما عادت الحكمة تخرج من أفواه المجانين، ولا عادت السعادة عرش العشق في زمن العتمة» (ص.80). مفصل الغياب يشكل الغياب بوصفه مقولة تبأر نصيا في هذا المنجز الشعري (مقام الرحيل)؛ الوجه الخفي للرغبة؛ الوجه المناقض لماء الحضور على مستويي النص والتجربة. النص باعتباره تجليا لممارسة الكتابة كامتلاء وتعويض معنويين؛ والتجربة بوصفها سلوكا شطحيا (من الشطح) له علاقة بالتمثل الصوفي للكتابة والتصور والفكر. فالغياب على مستوى اللغة يُجلّي الذات على مستوى التّجربة، والعكس صحيح. وما التّجربةُ التي تعبرها الذّاتُ سوى مهرب من جحيم الواقع؛ فبها تتعالى الذات عن مطبات اليومي؛ وتتصاعد عبر سماواتها العلوية التي تقودها الروح. تتوحد الأنا مع أحلامها الهلامية، وهي تعبر تجربة التحول عبر اللغة المجازية التي يمنحها الشعر أفقا مفتوحا على كل الاحتمالات، وكأني بالشاعر يقول: «ما سر هذا السديم يا إلها من كلمات؟» (ص.107). إن الغياب والحضور في التجربة الشعرية الصوفية التي يستلهمها الشاعر هما وجهان لدلالة واحدة؛ الحضور في الواقع يوازيه الغياب على مستوى السمو الروحي، والحضور في المعالي الروحانية يوازيه الغياب على مستوى الواقع؛ لكن الشاعر في نهاية التجربة يكمل الدورة الصوفية عبر تجربة الشرب من الكأس المحيلة على التحقق والامتلاء الروحيين؛ يقول: «تعال أدثرك وأسقيك كأسا من الحب الأرجواني؛ وبقايا أحلامنا المرجأة... تعال يا حبيبي، نصنع للحضور مملكة، وللحب سماء» (ص.102). وبين التجربتين: تجربة الحضور والغياب تفنى الذات في اللغة عبر صدامها المتواصل مع قوى الشر المنغصة التي تستهدف كبح جماح الرغبة الأنوية في الارتقاء عبر العوالم العلوية الروحانية والسمو عن الواقع المزيف المحبط؛ وتدخل الروح المجرّبة في صراع جواني مرير مع زمنين تكوينيين: الزمن السرمدي والزمن الفيزيقي. وفي غمرة هذا الصراع تتشكل التجربتين: تجربة السفر (التجربة الصوفية)، والتجربة الشعرية (القصيدة). إبراهيم الحجري* * ناقد وروائي من المغرب