اللغة ومسألة الاصطلاح: قبل الخوض في مسألة المصطلح وعلاقته بتعريب العلوم ومدى استعداد العربية لاستيعابها، لا بد من الوقوف قليلا عند مفهوم الاصطلاح وعلاقته بالنسق اللغوي العام. نجد عند بعض المفكرين العرب القدامى العديد من التعريفات للغة الاصطلاح نقتطف منها ما أورده الزبيدي في تاج العروس، إذ يقول «إن الاصطلاح هو اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص» فالأمر يتعلق إذن بتواضع جماعة من الناس وليس كل الناس، وهو مقصور على طائفة مخصوصة وعلى أمور مخصوصة، وليس على كل الأمور. وليس هناك ما يدعو إلى قصر الاصطلاح على العلم، وإنما هو تعريف عام يشمل مجال العلم ومجالات أخرى: فهو تعريف جامع غير مانع. وقد نفترض أن هذه الطائفة المخصوصة هي طائفة العلماء وقد نتفق أن هذا الأمر المخصوص هو لغة العلم. إذا قمنا بهذا النوع من التخريج، يمكننا أن نقول إن الاصطلاح اتفاق العلماء على ألفاظ لغة العلم. ولكن يجب أيضا أن نطرح إشكالا قد يبدو بعيدا بعض الشيء عن موضوعنا غير أنه في صميم علم المصطلح، وهو أننا من حيث إننا مجموعة لغوية لنا لغة (نستعملها) لكن العلماء من حيث إنهم طائفة مخصوصة لهم لغة أخرى يتواضعون عليها، ثم يشرعون في استخدامها: لماذا؟ يمكن أن نقول على مستوى ابستيمولوجي (وليس لغوي) إن هناك قطيعة بين اللغة العادية ولغة العلماء، وبأسلوب فلسفي نستطيع القول إن هناك فرقا بين أنطولوجيا لغة العلم وأنطولوجيا اللغة العادية، لما يشوب هذه الأخيرة من غموض وعدم التدقيق في غالب الأحيان. وهذا الموقف يصدر عن تصور يرى أن العلم له أنطولوجيا خاصة تميزه عن المشترك (sens commun). مثلا عندما يتحدث شخص ما في لغته عن الماء فإنه يضمنه إيحاءات عدة منها الخصب والحياة وأمور أخرى قد تكثر أو تقل حسب الثقافات المختلفة، ولكن عندما يتحدث العالم عن الشيء ذاته (H2O) فإن كلامه لا يصح إلا ضمن نسق علمي خارج عن جميع هذه الإيحاءات والتوظيفات المجازية. المصطلح إذن يتناول لغة أخرى غير اللغة المتداولة عند عامة الناس، لذلك نجد البعض يلح على أن علم الاصطلاح لا ينبغي أن يندرج ضمن علم اللسانيات، فإما أن يستقل وإما أن يدرج ضمن الفلسفة أو المنطق. علينا إذن أن نفكر بهذه الحدود في تناولنا لعلم المصطلح أو المصطلحية كما باتت تعرف الآن(La terminologie). ولا بد من الإشارة هنا إلى أن العناية بمسألة المصطلح ليست وليدة اليوم، بل إنها استأثرت ومنذ وقت مبكر باهتمام العديد من علماء الإسلام الذين أفردوا لها مؤلفات جمة وذات قيمة كبيرة، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:»مفاتيح العلوم « للخوارزمي و»كتاب التعريفات» للجرجاني و»مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم» لأحمد بن مصطفى (طاش كبرى زاده) و»كتاب الألفاظ الكتابية» للهمداني ...الخ ونقف عند هذا الحد لأن المقام لا يسمح بتعدادها كاملة. ومن المعاصرين نكتفي بذكر بعض من اهتموا بالموضوع ومنهم الأستاذ «علي القاسمي « و الأستاذ»عبدالرحمن طه « والأستاذ» الفاسي الفهري» والأستاذ»احمد الأخضر غزال»و|آخرون.أما الغربيون فهم كذلك كثر نمثل لهم باسم واحد يعد مرجعا في المجال من خلال كتابه المعنون ب»المصطلحية:La terminologie « الصادر عن منشورات P.U.Fوهو آلان راي : A.Ray . من خلال هذا الجرد يمكن للمرء أن يجزم منذ البداية بأن المشكلة التي يتخبط فيها المصطلح بعالمنا العربي لا تعود كما قد يزعم البعض إلى غياب تصور نظري أو تراكم إبداعي في هذا المجال، أو إلى كون اللغة العربية عاجزة عن أن تستوعب لغة العلم وتسايرها. ولنا فيمن سبقونا خير مثال، إذ استطاع أسلافنا تطويع اللغة العربية ونقلوا إليها علوم اليونان وأغنوها بإبداعاتهم وصقلوها إلى أن أصبحت مرجعا أساسيا لمن عاصرهم أو جاء من بعدهم من علماء الغرب.وهذا ج.ج.روسو: J.J.Rousseau أحد رواد عصر الأنوار الأوربي يقر بذلك عن مضض حيث يقول:»كانت أوربا قد سقطت في وحشية العصور البدائية .فشعوب هذا الربع المستنير من العالم اليوم كانت تعيش منذ بضعة قرون حالة أقبح من حالة الجهل (....) [حيث ]كان لا بد من ثورة من أجل إرجاع الناس إلى الصواب، وقد أتت [هذه الثورة] أخيرا من حيث لم تكن قط منتظرة؛ أتت من داك المسلم السادج...»(13) فهذه القولة على ما تحويه من ازدراء سافر تكفي لتفنيد مزاعم الانهزاميين منا، وشهد شاهد من أهلها. والقول بالرجوع إلى تراثنا العلمي لما يزخر به من مصطلحات علمية وفنية بات ضروريا أكثر من أي وقت مضى كما يقول الدكتور فايز الداية : «نحن نرجح الآراء التي تدعو إلى النظرة المتأملة في التراث العلمي لاستخراج ما يفيد منه وهو ليس بالقليل، بل هو كثير ومدهش في أحوال عديدة، ونؤكد أنه جزء من التكوين الحضاري ينبه إلى الدقة في الاستعمالات العصرية، وهاهنا نقطة هامة في وظيفة معجمنا، ذلك أن كل ما يشتمل عليه من إصطلاحات يصلح للتداول في العلوم المعاصرة المدونة في العربية الفصحى، فالتعريب وعلم المصطلح يغنيان بالمادة المعرفية، وكذلك بالقياس على المنهج المتبع عند علماء العرب قديما في اشتقاق الاصطلاحات الحديثة، وهذا أمر متجدد والخطوة الأساسية فيه هي إتقان العلماء واللغويين للأداة اللغوية وأبعادها الدلالية بمرونة تتيح العطاء المستمر «(14). وإذا كان خصوم تعريب العلوم يتذرعون بحجج واهية مفادها أن لغة العرب لا تملك من الثراء المعجمي ما يسعفها لنقل العلم ونشره بين أبناء جلدتنا، فإن زعمهم هذا مردود عليه من أكثر من ناحية: *أولا كيف تأتى لأسلافنا نقل علوم الإغريق وغيرهم إلى لغة الضاد التي لم يكن لها سابق عهد بما كانت تعج به تلك العلوم من مصطلحات فلسفية وعلمية دقيقة مستعصية؟ ومن تم هل مكمن الخلل في اللغة أم أن ذلك يعود بالأساس إلى تقاعسنا نحن العرب عن اقتفاء أثر من سبقنا؟ *ثانيا لو تأملنا معجم المصطلحات في الفرنسية أو الإنجليزية أو غيرها من اللغات لوجدنا أن أغلب هذه المصطلحات لم تكن تعرفها تلك اللغات، بل إنها كونتها وأبدعتها اشتقاقا ونحتا من أصول قديمة سواء من اللاتينية أو من اليونانية أو من اللغات الأوربية الحية (ومن العربية كذلك !). ومن يجرؤ على القول بأن اللغة العربية أقل قدرة على الابتكار والخلق وهي اللغة الاشتقاقية بامتياز ومهملها أكثر من مستعملها؟ علينا إذن أن نقوم بعملية أركيولوجية للمصطلح التراثي العربي كما يقترح الدكتور عابد الجابري (15). فموضوع المصطلح كما يقول هذا الباحث «موضوع قديم لأنه يرجع إلى بدايات تشكيل الثقافة العربية العالمة(...) ونحن نعرف أن عصر التدوين الذي لم تستغرق المرحلة الحاسمة فيه أكثر من نصف قرن في العصر العباسي الأول، قد شهد قيام علوم عربية خالصة لم تكن موجودة من قبل، كما ترجمت في القرن نفسه « علوم الأوائل « علوم اليونان وفلسفتهم. فكانت الحاجة ماسة إلى وضع «المصطلح « لهذه العلوم جميعا، الأصلية منها والمترجمة. لقد دعت الحاجة إلى ابتكار جهاز مفاهيمي واصطلاحي لكل من النحو والعروض والفقه وأصوله و»علم الكلام» والبلاغة والنقد الأدبي والتصوف من جهة وإلى ترجمة وتعريب اصطلاحات العلوم المنقولة عن الأوائل من طب وتنجيم وكيمياء وفلسفة و طبيعيات ورياضيات الخ من جهة أخرى» (16). إن وضعنا اليوم ليس بأسوأ من وضع أجدادنا وقتذاك، إذ لم تكن تتوافر لهم وسائل الاتصال المتطورة والمعلوميات والمعاجم الإلكترونية الخ... ومع ذلك فإنهم استطاعوا رفع التحدي وحققوا ما عجزنا أن نحققه نحن اليوم بما لدينا من إمكانيات.»لقد كانت البداية من الصفر في جميع العلوم، وكانت الحاجة إلى المصطلح ملحة بشكل لا يمكن تصوره، إلا إذا نحن استحضرنا في أذهاننا أن الأمر يتعلق بعلوم ظهرت كلها فجأة في وقت واحد، متزاحمة متداخلة، متنافسة متصارعة»(17). فالعرب يعيشون اليوم حالة شبيهة بوضعية البدء من الصفر إن لم نقل أقل من الصفر، إذ أضحوا متخلفين غاية التخلف عما تزخر به الحضارة الغربية منذ أوائل القرن العشرين من طفرات وتطورات مطردة في مجالات العلوم والتقنيات وما يستتبع ذلك من غزو اصطلاحي ومفهومي لم تستطع مجامعنا العلمية واللغوية مسايرته ولا السيطرة عليه. قد يقول قائل إن السبب يعود إلى طول فترة السبات التي عرفتها أمتنا العربية أو ما اصطلح على تسميته في أدبيات الفكر العربي ب»عصر الانحطاط».إلا أننا في هذا المقام لا نريد البتة الخوض في التماس الأعذار أو اقتناص المُسَوّغات والذرائع بقدر ما نريد التنبيه إلى مدى إمكانية الإفادة مما يزخر به تراثنا العربي والإسلامي من ثراء وغنى، سواء فيما يتعلق بالمصطلح أو بمنهجية وضعه وبطرق صياغته. بنداود المرزاقي باحث تربوي