رأيت في ما يراه النائم، بين الحلم و»بوغطاط»، أن ملفا خطيرا انفتح في ذي الحجة، وفي محرم أحدث ضجة بحجم رجة، وأخرج سياسيين ومفكرين من عميق صمتهم لاستنكار اقتراح باعتماد الدارجة في تعليم أبناء المغاربة، وهو ما اعتبره بعضهم بالون اختبار. طبعا، ليس هناك ملف ينفتح من تلقاء ذاته، فالملفات يتم فتحها فتحا؛ وفي بعض الحالات، يتوارى فاتح الملف، فلا نرى غير ظله. الفاعل الذي تكلف بشغلنا بموضوع الدارجة ليس اسما مجهولا، وأول ما يعرف عنه أنه ليس رجل تربية وتعليم، ولا هو صاحب اختصاص دارجة. وفي الأعوام الأخيرة، يعرف أنه قاد حملة تحفيز المغاربة للإقبال على انتخابات 2011. وهي حملة يعرف الجميع نتائجها. الملاحظة الأولى أن حملة استنكار بالون الاقتراح جمعت أصواتا وتيارات تعكس مختلف توجهات الرأي العام المغربي؛ والملاحظة الثانية أن فاتح الموضوع توارى بدوره فلم يتدخل للإدلاء بدلوه، ولو بتحريك جوقة من المتكلمين المحترفين. أما الفاعل الذي تكلف بتفجير القضية، فقد كان له رد، ليس من باب الحجة بالحجة والبادئ أفهم، وإنما بتوزيع اتهامات أبسطها ادعاء أن المفكر عبد الله العروي بلغ من العمر عتيا، رغم أن موجه الاتهام ليس في الثلاثينات ولا الأربعينات ولا... صحيح أن التجارب الإصلاحية المتعددة التي تم تجريبها في تعليم (أو تجهيل) أولاد المغاربة، على امتداد ستة عقود، باءت كلها بالفشل الذريع، وإلا لما تم الاستغناء عنها تباعا، بلا محاسبة، وهل يحاسب المحاسب نفسه؟ لكن أول ما تكشفه هذه الحقيقة هو أن أصحاب القرار أخطؤوا في كل تلك المرات، بشهاداتهم، والأوْلى بهم أن يتريثوا هذه المرة. لكن هذا البالون أفاقَ البعضَ من سباته، وأحيى لدى الخامدين ملكة التفكير بخيال مفتوح. هناك من يتأمل الموضوع بعين الواقع، فيرى أباطرة النشر المدرسي يفركون أياديهم، «الواضح في تدريج التاريخ والجغرافيا»، والقاموس الدارجي الفرنسي، والدارجي الإنجليزي، والفلسفة بالدارجة، والكيمياء والفيزياء بالدارجة، والرياضيات بالدارجة، والفرنسية والإنجليزية بالدارجة.. لن تبقى هناك حاجة إلى النحو الواضح ولا إلى الإعراب، لكن من أين يمكننا أن نستورد أخصائيين لإدارة هذا التحول الهائل من لغة متهمة بالعقم دون دليل إلى دارجة هي المجهول الذي يفتح باب اللجوء إلى لغتهم، الفرنسية. صاحبي محماد يقسم بأن البالون موجه إلى الفاعلين الأمازيغيين، «علاش نقريو الأمازيغية وما نقريوش الدارجة؟». ويشدد على أن الأمر «فيه إن». كريمو وجد الأمر مناسبة لمجادلة محماد، لكن «المورال خاسر». زوجته رحيمو على وشك الوضع، بينما الحركة جامدة في هذه الأيام الباردة. «بوالركابي» يفسر، لمن يريد الاقتناع، أن الدارجة إنما هي عربية بلا قواعد، مثلما أن «بوغطاط» ما هو سوى حلم مزعج، وهي مليئة بكلمات من كل اللغات واللهجات، حتى زاغت عند بعضهم وأصبحت عرنسية. بينما ذكرني الموضوع بجارتين في قطار أسبوع سابق، شاونية ودكالية، لم تستطيعا اللجوء إلى حكمة الصمت، وظلتا تبذلان الجهد لتفسر كل منهما لجارتها ما تعنيه كلماتها، وفي عدد من الحالات استعانت الدكالية بمفردة مصرية لتفسر معنى كلامها لشقيقتها الشاونية، فقد استنكرت الشاونية أن تسوى الخبزة في أحد شواطئ الشمال «عشرا دريال»، فضحكت الدكالية وردت: «عشرا دريال؟ الرخا هادا، احنا راها فوك ثلاثين ريال»؛ والبقية تعرفونها. وتندر آخرون بتدريج الإدارة: «وزارة لعب الدراري»، «مكتب الما والتريسينتي»، «صبيطار الحماق»،.. ووقفوا عاجزين أمام تسمية مؤسسات مثل المقاطعة الرابعة، لأنها عربية، فكيف ندرجها.. ولا غرابة أن يظهر بيننا مدرجون مختصون. أما مهن المغاربة في بطاقات التعريف، التي سينبغي تغييرها، فهي «مول الحانوت»، «مول الزبل» (حاشا السامعين)، «مولات الربيع»، «كارديان ديال الحبس». خالتي يزة ظلت تتنقل بعينيها بين المتكلمين، ولما أتيحت لها الفرصة تساءلت: «انتوما آٌش سيارين تكولو؟ مال الدارجة؟؟ ياكما تاهي بغاو يزيدو ليها!؟». تساءلت: هل، فعلا، هذا ما يحتاجه تعليم أولاد المغاربة؟؟ لأن أولاد مبدعي مشاريع الإصلاح، يدرسون الفرنسية أو الإنجليزية للانتقال إلى جامعات باريس ولندن. وتصورت صديقي قديدير، يرحمه الله، لو كان على قيد الحياة، كان سيصيح في أصحاب القرار: ها العار، ها العار لا تفكروش. ديرو أي حاجة. خودو كل حاجة، ها عار سيدي بولغرارف، لا تفكروش، راكم «فْكَرْتونا».