عندما فتح ادريس الخوري عينيه على هوامش الدار البيضاء، كان والده «التروبادور» (عازف الوتر) قد عزف عن الحياة ولحقت به أمه في نفس السنة، فتكفل أخوه بتربيته ورسْمِ حياته: علمه القرآن، الذي حفظه وهو في ال13 من عمره، واختار له «الكص» اسما عائليا. لكن الشاب ادريس مزق إطار أخيه وعاد إلى حياة والده التي عثر عليها في الأدب و»الحياة المحرمة»، واختار اسم «ادريس علال» ثم «الخوري» الذي يحيل على عائلة لبنانية اشتهرت بالأدب والموسيقى. فوق كرسي اعتراف «المساء»، يحكي «بَّا ادريس» كيف اجتاز امتحانات الشهادة الابتدائية له ولأحد أصدقائه فرسب هو بينما نجح صديقه، فأصبح الناجح شرطيا، والراسبُ كاتبا مشهورا سيقدِّم محمد بنعيسى، عندما كان وزيرا للثقافة، كتاباته إلى نجيب محفوظ، قائلا: هذه أعمال أهم كاتب قصة في المغرب. وعلى كرسي الاعتراف أيضا، سوف نغوص داخل «الوقائع الغريبة» لعلاقة الخوري بالكتابة والحياة رفقة صديقيه: محمد زفزاف الذي يعتبره روائيا كبيرا لم ينل حقه من الاعتراف، ومحمد شكري الذي يقول إنه كان كذابا ووقحا وأنانيا.. ومن عمق ذاكرته القوية، يحكي «با ادريس» عن طرائف علاقته بالصحافة والرياضة والمسرح والسينما.. وحكاياته مع «أدب القذافي» و«ساعة صدّام حسين». - تقول إن شكري كان وقحا، وقليل الأدب، وعصبيا، ويمحور الحديث كله حول ذاته؛ سُق لنا أمثلة على ذلك؟ مرة دعوته إلى بيتي رفقة الشاعر المهدي أخريف الذي قدِم مصحوبا بشقيقته، وكان محمد برادة هو من أخبرني بمجيئه إلى الرباط، وطلب مني أن أنتظره في حانة «la paix».. وبعدما تناولنا طعام العشاء، بدأ يتحرش بأخت المهدي، ثم ما فتئ أن شرع في القيام بحماقات وحركات بهلوانية على طريقة «احماد أو موسى»، حيث أخذ يتشقلب ثم وضع رأسه في الأسفل ورفع قدميه إلى أعلى ليظهر لنا أنه قوي البنية ولم ينل منه السكر؛ وقد عاد إلى القيام بهذه الحركة لاحقا في حضوري بحانة «جور إي نوي» بالرباط؛ كما أنه كان يأكل الورد «هو اللّي خرج عليه».. (يضحك) لقد كان فعلا «مجنون الورد» (العبارة هي عنوان رواية لمحمد شكري)، حيث لم يكن يتورع عن أكل الورد الملوث في الشوارع. أين حصل ذلك؟ كنا نجلس في مقهى-حانة «جور إي نوي» بالرباط، وفي لحظة معينة دخل بائع ورد، فاشترى منه شكري الورد الذي كان بحوزته وأخذ يقضمه ويلتهمه. - هل حذرته أنت من فعل ذلك؟ «خليتو كيّاكل الورد.. يدبر لراسو»، هو كان يفتخر بأن جسمه صلب وقادر على التحمل.. لكن عاداته السيئة أثرت لاحقا على بنيته الجسمانية وعلى صحته. - هل سبق لك أن التقيت بالكاتب الفرنسي جون جونيه؟ التقيت به مرتين في حانة «ماجستيك» بالرباط، عندما كان نازلا بفندق «روايال»، حيث وجدته يحتسي «الريكار» ويدخن سجائر «جيطان» بدون «فيلتر». وقد غلب على جونيه في اللقاءين معا الصمت. وأنا لا أدعي معرفتي به مثلما كان يفعل شكري. - ربطتك علاقة قوية بالمخرج الراحل محمد الركاب، لكنها لم تتوج بعمل مشترك؛ لماذا؟ تعرفت على المرحوم محمد الركاب بداية السبعينيات في «مرس السلطان» بالدار البيضاء، وقد كان ذلك أثناء مشاركته في إخراج فيلم «أحداث بلا دلالة» لمصطفى الدرقاوي، في «مرس السلطان» نفسه، كحي مركزي وسط العاصمة الاقتصادية، ثم تعرفت عليه أكثر في بيته المقابل لسينما «لانكس» رفقة زوجته فاطمة، أم أولاده، على اعتبار أن بيت الركاب كان ملتقى للفنانين والمثقفين والكتاب من أمثال محمد زفزاف ومصطفى النيسابوري والشاعر والزجال المرحوم حسن المفتي... ممن كان الركاب يتصيدهم يوميا من مقهى «الكابيتول» أو من حانة «مدام كيران».. وقد درس الراحل محمد الركاب السينما في الاتحاد السوفياتي، واشتغل في التلفزة المغربية مخرجا، زمن ثم أخرج عدة برامج فنية وثقافية. وكان الركاب مثقفا مسيسا، وصاحب ابتسامة دائمة في وجوه أصدقائه ممن كان يمتلئ بهم بيته حتى الصباح، فلطالما أمضيت الليل في بيته. - لماذا لم تتوج هذه الصداقة بعمل إبداعي مشترك؟ الركاب لم يطلب مني ذلك، وأنا لست من النوع الذي يقترح نفسه على الآخرين، وبالمقابل فقد تعامل مع يوسف فاضل الذي كان صديقا مشتركا لنا.. - هل تعرفت صحبة الركاب على موريس السرفاتي، الذي اشتغل مخرجا مساعدا له في فيلم «حلاق درب الفقراء»؟ كان موريس السرفاتي يقطن جنب مقهى «لاكوميدي» بالدار البيضاء، وقد كنت أراه من حين إلى آخر في المقهى يحتسي البيرة، وكان مولعا أيضا بالحشيش. ولاحقا، أنجز فيلما وثائقيا قصيرا عن والده أبراهام السرفاتي. - أنت من الكتاب الذين لا يعترفون بأهمية الشاعر والروائي والمفكر بنسالم حميش، سواء كمبدع أو كوزير للثقافة؛ لماذا؟ بالنسبة إلى المدعو حميش فأنا لم تكن لي به معرفة سابقة، لأنني لست متخرجا من كلية الآداب مثله.. في سنة 1968، عندما أراد عبد اللطيف اللعبي أن يخصص عددا مزدوجا من مجلة «أنفاس» التي كان يديرها صحبة النيسابوري لواقع الأدب المغربي، جاءا عندي إلى غرفتي في حي المعاريف بالدار البيضاء لكي نتناقش سويا في الأسماء الأدبية التي ستشارك في القسم الخاص بأدباء اللغة العربية، كانت الأسماء المقترحة هي: محمد برادة ومحمد زفزاف وأحمد المجاطي وحسن المفتي وعبد الرفيع الجواهري وحميد الهواضري، الشاعر الذي كان يكتب بعربية مدرجة وهو صديق حميم للنيسابوري لأنه «ولد المدينة القديمة»، فاقترحت أنا اسم عبد الجبار السحيمي باعتباره كاتب قصة متميزا آنذاك، لكن اللعبي رفض بشدة بحجة أن السحيمي رجعي تابع لحزب الاستقلال.. وفي ما بعد، عندما سيخرج اللعبي من السجن، سيصبح السحيمي صديقا حميما له. المهم أن اللعبي اقترح علي ساعتها اسم حميش ليكون ضمن العدد الخاص بأوضاع الأدب المغربي، فرفضته بحجة أن حميش ليس شاعرا موهوبا وأن شعره ركيك ولا شاعرية فيه، وعندها قال لي اللعبي: بالعكس حميش شاعر «شاكال» (ابن آوى)، وكانت هذه الكلمة تروق للعبي وللنيسابوري كوصف لحميش الذي لم ألتق به بعدها إلا نادرا. - لكن حميش نقش اسمه في عالم الأدب والفكر؟ أنا شخصيا لا أطيق حميش، لأنه ليس من طينتي، ليس الاجتماعية وإنما الأدبية والحياتية، ورغم أنني تناولت طعام الغداء في فيلته الفاخرة بالهرهورة، ذات سنة، أثناء انعقاد أحد مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب في المحمدية، فإنني لا أعتبر نفسي صديقه، ثم إنه عندما أصبح وزيرا للثقافة، باقتراح من أحدهم، «تسيّف علينا» ولم يعد يريد رؤية أحد، ولن أنسى أنه «نفى» زوجتي من ديوانه بزنقة غاندي إلى مديرية الفنون والكتاب بزنقة ميشليفن بأكدال، وقد ساهم في هذا التنقيل التعسفي، بدون سبب موضوعي، المدعو احمد كويطع، الكاتب العام آنذاك للوزارة.