صفعة جديدة للجزائر.. بنما تقرر سحب الاعتراف بالبوليساريو    تنسيق أمني مغربي إسباني يطيح بخلية إرهابية موالية ل"داعش"        لقجع يؤكد "واقعية" الفرضيات التي يرتكز عليها مشروع قانون المالية الجديد    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        كيوسك الجمعة | إيطاليا تبسط إجراءات استقدام العمالة من المغرب    السلطات الجزائرية توقف الكاتب بوعلام صنصال إثر تصريحات تمس بالوحدة الترابية لبلده    بنما تعلق الاعتراف ب "الجمهورية الوهمية"    البحرين تشيد بالدور الرئيسي للمغرب في تعزيز حقوق الإنسان    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    جنايات طنجة تدين المتهمين في ملف فتاة الكورنيش ب 12 سنة سجنا نافذا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'            المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استخراج «الشاربون» من باطن الأرض.. عمل شاق ومحفوف بالمخاطر
العمال يشتغلون بدون أجهزة تساعدهم على تحديد أمكنة وجود الفحم ويتعرضون للاختناق القاتل
نشر في المساء يوم 22 - 10 - 2013

الآن، تبدو لي جرادة بعيدة، وتبدو سيارة صديقي عبد الرحيم، الذي رافقني من مدينة الرباط، نقطة سوداء لا يمكن أن تميز بينها وبين كل الآبار المتشحة بالسواد والمنتشرة في كل مكان. يخترق سعيد، أحد أبناء المدينة الأشجار، وفي كل مرة يصعد فيها إلى أقاصي الجبل يلقي بنظرة إلى الوراء ليتأكد من أنني أسايره في خطوه السريع في رحلة الصعود إلى «ساندريات الفحم». سعيد لا ينتظر، وكأن مآسي أبناء مدينته وأصدقائه لا تحتمل الانتظار، تارة يشير بيده إلى الأشجار المقطوعة جراء استعمالها في عمليات تثبيت الجبال تحت الأرض، وتارة يتذكر أصدقاءه الذين ماتوا تحت الأرض في غفلة من القدر. سادت لحظة من الصمت ونحن نتنفس الصعداء بعد وصولنا إلى المبتغى، لم يتبق هنا سوى أثار بئر عميقة لا أتبين قرارها ولا أكاد أتصور كيف استطاع ستة أو سبعة من الشباب حفرها، ولا كيف استطاعوا النزول إلى أعماق الأرض بحثا عن الفحم. وحدها آلية تقليدية بدائية مخصصة لسقي الماء من الآبار في العهود الغابرة تشرح كل شيء: إنهم يستعملونها في الهبوط والصعود عبر حبال طويلة، تربط «الحياة» ب«الموت».
في البئر الأولى استقر التخمين أن العمال الذين يشتغلون فيه ينزلون على عمق 30 مترا، وفي البئر الثانية يبلغ العمق 50 مترا وفي الثالثة 70 مترا، وربما أكثر في الرابعة والخامسة، لكن ليست كلها «ساندريات» تحتوي على الفحم، فقد يحدث أن يستمر الحفر «السيزيفي» لمدة ستة أشهر تنقيبا عن الفحم دون أن يعثروا عليه، فقد يفاجئهم الغاز أو المياه وترديهم جثثا هامدة كما حدث للعشرات من أبناء جرادة في الشهور والسنوات الماضية..وتلك قصة تطول.
مآس تساوي الملايير..
مت واصمت
محمد أب لثمانية أبناء، لفحته الشمس إلى درجة أنك لا تستطيع تبين قسمات محياه بسهولة، يعمل حارسا لمخازن الفحم في منطقة تبعد حوالي خمسة كيلومترات عن وسط مدينة جرادة، لا يعود إلى أهله إلا في العاشرة صباحا، يتقاضى محمد أجرا لا يتجاوز 40 درهما لليوم، ولو قدر أن تهاجمه عصابات مدججة بالسيوف ليلا، فقد لا يعود إلى بيته إلا إذا تدخلت عدالة السماء. يشتغل محمد في المخزن منذ حوالي سبعة أشهر، واضطر أن يوقف بعض أبنائه عن الدراسة بسبب أجره الزهيد. لدى محمد فكرة عامة وشاملة عن كيفية اشتغال «الساندريات» بالمنطقة، ويدرك كذلك المردودية التي تتأتى من كل عملية.
يحكي محمد ل«المساء» أن عدد الذين يشتغلون في «الساندريات» لا يتعدى في الغالب ستة أشخاص غالبيتهم شباب، إذ يتكلف ثلاثة منهم بالعمل تحت الأرض واستخراج الفحم، فيما يتكلف اثنان آخران بجلبه من عمق البئر، والآخر يضطلع بمهمة غربلته وتجهيزه للتسويق إذا توفر المشترون في الوقت المناسب. والوقت المناسب كما تفيد المعطيات التي حصلت عليها الجريدة يحدده التجار الكبار أنفسهم، عن طريق نهج سياسة «الانتظار» والبروز بمظهر المنقذ للعمال في «الساندريات».. إنها لعبة مستنزفة بتعبير هشام أحد المشتغلين فيها، وتزرع «اليأس في نفوسنا، وتجعلنا في نهاية المطاف نبيع كميات كبيرة منه بالثمن الذي يريدونه دون مبالاة بالجهد الذي بذلناه طوال أشهر».
يبلغ ثمن «الشكارة الزركة» التي تحوي مائة كيلوغرام من الفحم 60 درهما إلى سبعين درهما، وإذا ضربنا ثمنها في 10، أي العدد الأقصى الذي من الممكن أن يستخرجه العمال من «الساندريات» في اليوم الواحد، نحصل على 600 أو 700 درهم. عملية قسمة بسيطة تقول إن كل عامل يحصل على مائة درهم في اليوم. في الظاهر، تبدو 100 درهم أجرا يكفي لسد بعض الحاجيات اليومية لعائلات العاملين، لكن هذه المعادلة لا تصمد أمام حسابات هشام الدقيقة: «تستمر عملية الحفر خمسة أشهر وفي بعض الأحيان تصل إلى سبعة أشهر، ثم إن عملية الاستخراج والجلب والبيع تستغرق مدة لا يستهان بها، هذا يعني أنه لا يتبقى من 100 درهم سوى ثلاثين أو أربعين درهما: وهل يكفي في نظرك هذا المبلغ لإعالة عائلات بكاملها»..
عملية الحفر والتنقيب عن الفحم ليست بالسهلة كما تخيلتها أول وهلة، فقد كنت أظن أن العمال يتوفرون على الأقل على بعض الأجهزة التي تساعدهم على تحديد أمكنة وجوده بدقة، لكن هذه الظنون سرعان ما تبخرت. فيما يشبه السخرية يرد هشام «نعم نتوفر على أجهزة متطورة جدا لتحديد أماكن وجود الفحم وتتمثل في المعول و.. وهي بالمناسبة ليست أجهزة دقيقة وقد تخوننا في الكثير من المرات».
حدث غير ما مرة لهشام وأصدقاء آخرين يشتغلون في «الساندريات» أن استمروا في الحفر شهورا ولم يعثروا على أثر للفحم، ووصل عمق الحفر إلى سبعين مترا بما يستلزمه من جهد مضن وقاس، لكن رحلة «سيزيف» للبحث عن «الذهب الأسود»ّ لا تتوقف عند هذا الحد ويعيدون المحاولة من جديد، وقد لا يحالفهم الحظ مرة ثانية، لكن البحث عن لقمة عيش كريمة وسط هذه الجبال أهون من أن تنهشهم مخالب البطالة في المقاهي.
«كتقولي الوالدة متنزلش لتحت أولدي بقا غير الفوق»، هكذا يجيب هشام على سؤال حول استمراره في العمل في هذا المجال رغم أنه فقد أخا له قبل شهور فقط. يستغرق هشام في التفكير دون أن ينبس بكلمة ويعب كأس ماء بعصبية بادية» أخي مات في تلك البئر البئيسة، كان فقط يبحث عما يسد بها رمق الحياة، لم يكن يبتغي غير ذلك بيد أن الأقدار كانت أقوى منه، فقد أصيب بالاختناق داخل البئر..نعم مات هناك وواصلت العمل بعده، معندي مندير». لدى العاملين طريقة غريبة في حماية أنفسهم من انهيار أجزاء من الآبار على رؤوسهم، وتعتمد هذه الطريقة على قطع جذوع الأشجار من الغابة المجاورة ثم تثبيتها بشكل عمودي داخل «الساندرية» وإذا ما عاد العمال في الليل ووجدوا أن جذوع الأشجار أصبحت مضغوطة فإنهم يغادرونها في الحين خشية سقوطها في وقت لاحق» يشرح هشام.
عملية الحفر والبحث عن الفحم صعبة ومتعبة جدا، وقد تؤدي إلى الهلاك كما حدث مع أخ هشام ومع عشرات آخرين قضوا تحت «الساندريات» والتهمة: البحث عن لقمة عيش. قبل شهور فقط استفاق السكان على خبر مفجع، إذ اختنق اثنان من شباب المدينة بسبب الغاز. عاشت جرادة أياما عصيبة بعد ذلك الحادث، وعاد النقاش القديم والجديد حول التفكير في إيجاد مخارج جديدة للتنمية المحلية، لكن صخب النقاش ما فتئ يهدأ وما فتئت «الساندريات» تستعيد مآسيها التي لا تنتهي.
أسباب الموت كثيرة في قيعان «الساندريات» ولا تقتصر فقط على الاختناق بالغاز، بل إن العمال غالبا ما تفيض عليهم الفرشاة المائية المتواجدة بكثرة في الجبال المحاذية لمدينة جرادة، وزيادة على ذلك فإن العمال يواجهون في مرات عديدة انهيارات مفاجئة للتربة. اشتغل حسن، ابن مدينة الناظور، لأكثر من سنتين في «الساندريات» قبل أن يستقر به الحال في شركة صغيرة للملابس الجاهزة» أذكر تفاصيل ذلك اليوم، بدقة متناهية، كنا سبعة شبان في حينها، بعضنا ينتمي إلى مدينة جرادة، فبعدما عثرنا على « الفحم» قررنا أن نعود في اليوم الموالي لبدء عملية الاستخراج، بدأت الأمور عادية شبيهة بما نقوم به في الأيام الأخرى، لكن المفاجأة التي لم نتوقعها هي أن «الساندرية» كانت عبارة عن فرشة مائية فاضت وحاصرتنا من كل اتجاه، تعالت الأصوات، وأيقنا أن الموت أصبح وشيكا، وحدها الأقدار جعلت رؤوسنا تطفو فوق الماء». يقطع حسن الحديث ويلتقط أنفاسه، كان يعيش اللحظة بكل رعبها «أبيلاه يا محمد إيرا نهاني ذورغ تاجيغت»-أقسم لك بالله يا محمد أني أمسيت أحلم بذلك اليوم-. نسي حسن أن يكمل القصة بعد أن اجتاحته رهبة كانت تتقطر من عيونه دون أن يحس هو بذلك. بغريزة الإنسان المفطور على الدفاع عن نفسه سارع الأصدقاء إلى نجدتهم وأبدوا مقاومة للمياه التي غمرت«ساندريتهم» وتمكنوا من النجاة بعد ساعة كاملة من الصراع مع المياه». يومها قرر حسن أن يترك مهنة «الموت» كما يسميها ويبحث عن عمل جديد..
«ينزلون إلى قرار البئر ويتوغلون عشرات الأمتار في الجبل بدون واقيات للرأس وبدون كمامات تقيهم من انبعاث الغاز ولا يتوفرون على وسائل للسلامة، وكل ما يمتلكونه خيطا وبعض الأدوات المخصصة للحفر وجذوع الأشجار لتثبيت الجبل من السقوط.
بالنظر إلى استعمال جذوع الأشجار، في عملية التثبيت، فالغابة الوحيدة التي تحيط بمدينة جرادة أصبحت معرضة للتلف. عشرات الأشجار اختفت في ظرف سنوات قليلة وانجراف التربة يكاد يصل إلى الطرق غير المعبدة التي تربط «الساندريات» بالطريقة المعبدة المفضية إلى المدينة. بطبيعة الحال، الأراضي التي تقتلع منها الأشجار والتي تحفر فيها «الساندريات» في ملكية الدولة وتسيرها مندوبية الغابات، لكن من يجرؤ على الكلام، ومن يجرؤ على إيقاف عمال بسطاء يبحثون عن لقمة عيشهم. تبدو الدولة إلى حد ما مدركة لحجم التوترات الاجتماعية التي من الممكن أن تشتعل بالمدينة إذا تم إيقاف «الساندريات»، وتدرك جيدا أن التنمية المستدامة التي وعدت بها ذات «تصفية» ولت ولم يتحقق منها شيء. وما لا تقدره الدولة أو بصيغة أخرى ما لا تقدر خسائره هو أن اجتثاث غابة بكاملها يبقى الحل الوحيد لامتصاص انبعاث الغاز من المحطة الحرارية المولدة للكهرباء، المتواجدة بالمنطقة..ما الحل إذن؟
صحيح أن مأساة العاملين في «الساندريات» واحدة ولا تختلف كثيرا في تفاصيلها، وفي المآسي عادة لا تنفع المقارنات. في جرادة تعاني عشرات النساء والقاصرين في صمت، الكل يتحدث عن العمال بصيغة المذكر، ولا أحد يذكر سيرة عشرات النساء اللواتي يشتغلن في الغربلة وشحن الأكياس. القاصرون كذلك لهم حظهم من المأساة، فحسب المعطيات المتوفرة فإن العشرات من الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم 15 سنة يعملون في «الساندريات» لتوفير مصاريف عائلاتهم الصغيرة والكبيرة. في نظر الدكتور عزيز الفريقش، طبيب مختص في مرض «السيليكوز» الناتج عن الاشتغال في ميدان الفحم، فإن» الذي لم ينتبه إليه أحد هو إصابة النساء بالمرض، وإلى يومنا هذا لا يزرن المستشفيات، مع العلم أنهن يشتغلن في غربلة الفحم وشحنه في الأكياس. إنها كارثة حقيقية تتهدد نساء مدينة جرادة في القادم من السنوات، وسيكون من الصعب جدا الحد من تطور المرض في مراحل متقدمة، بطبيعة الحال، تتضافر عوامل نفسية وأخرى مرتبطة بالتصورات السائدة في المجتمع عن المرأة، ومن هذا المنبر أدعو الجميع إلى توخي الحذر فيما يتصل بهذا الأمر بالذات.
بحسب الشهادات التي استقتها «المساء» فإن بعض القاصرين يضطرون إلى مغادرة مقاعد الدراسة باكرا للالتحاق بزملائهم ب«الساندريات» لأسباب متعددة منها ارتفاع نسب الفقر في صفوف سكان المدينة وانتشار البطالة بأرقام مخيفة. منذ أن نفذت الدولة قرار إغلاق مناجم المغرب بجرادة، لم يعد فيها ما يستحق الحياة وحتى «الكانزينا»، يشرح مرافقي سعيد بغير قليل من التأثر، التي كانت تنقذ مئات العائلات من الفقر انتهت بنهاية المناجم. و«الكانزينا» هي الأجر الذي كان يتقاضاه العاملون في المنجم نظير 15 يوم من العمل. سعيد الناشط الجمعوي بالمنطقة يؤكد أن «إغلاق المناجم شكل صدمة قوية لم يستوعبها السكان إلى حدود اللحظة، فالدولة بعد أن استنزفت كل شيء غادرت المنطقة ولم تفكر يوما في إيجاد بدائل تنموية أخرى، لا نعرف حقا ما نوع الدولة التي تترك مواطنيها عرضة للموت والضياع بهذه الطريقة».
ما رشح عن عمل النساء في غربلة الفحم قليل لكنه يساعد على فهم الظاهرة في عمقها: الكل هنا يعيش بالفحم، الأطفال والنساء والآباء، والكل هنا كذلك ينتظر ما تجود به «الساندريات». قليلون من حالفهم الحظ وهاجروا إلى إسبانيا، بيد أن الأزمة التي استبدت بالجار الشمالي جعلت المدينة تتحول إلى مقاطعة إسبانية صغيرة، لا وجود فيها إلا لسيارات تحمل الترقيم الإسباني. الأزمة الاقتصادية بإسبانيا ضربت أيضا جرادة ودفعت الكثير من شبابها إلى العودة إلى المدينة وممارسة أنشطة تجارية أخرى ترتق جيوبهم.
السيليكوز.. «الموت القادم
من الشرق»
أصبح الموت شيئا مألوفا عند سكان جرادة، لا يهابونه كثيرا، العشرات يموتون سنويا، منهم من ظل الموت راقدا في أحشائه يفاوضه منذ أزيد من ثلاثة عقود، ومنهم من بدأ ينمو فيه شيئا فشيئا، ومنهم من مات ومنهم من ينتظر. و»السيليكوز» لمن لا يعرفه «مرض مهني» يصيب كل المشتغلين في استخراج وغربلة» الفحم»، وهو مرض يصيب الجهاز التنفسي ثم يتطور وتصل تأثيراته إلى القلب. بالنسبة للدكتور عزيز فريقش الذي أمضى سنوات طويلة في معالجة المرضى واحتك بهم إلى درجة أن لا أحد يضاهيه في شهرته بالمدينة، هاتفه لا يتوقف عن الرنين وفي كل مرة يلقي التحية ذات اليمين وذات الشمال، -بالنسبة له- فإن أعراض المرض كثيرة «تبدأ بظهور ضيق في التنفس ثم تليها تعفنات صدرية خطيرة، وفي مرحلة متقدمة يصاب الضحايا بمرض السل، لكن أخطر مرحلة من المرض يبلغ مداها حين يصيب المرض القلب، إذ تشكل المرحلة الأخيرة والتي تتسبب في وفاة العشرات من الحالات، وهي المرحلة التي يصاحبها انتفاخ في الأرجل وضيق على مستوى القلب والرئة».
طبيا، القضية محسوم فيها: «السيليكوز» ليس مرضا مزمنا لكن لا يمكن، بأي حال من الأحوال أن يشفى منه المرضى. طبيعته متطورة، وكل ما في وسع الأطباء هو الحد من بعض مضاعفاته وإسعاف الحالات الخطيرة، والنتيجة أن كل الذين يتربص بهم «المرض المهني» يموتون». تسر مصادر طبية للجريدة أن مركزا صحيا واحدا في المدينة لا يكفي لعلاج كل المرضى «فالمركز الذي أنشئ بموجب الاتفاقية الجماعية المبرمة سنة 1998 غداة تصفية شركة مناجم المغرب بين كل المتدخلين، أضحى يعاني من الاكتظاظ إلى درجة أنه في أحيان كثيرة تزوره 50 إلى 70 حالة يوميا». ينتقد الناشطون الجمعويون بالمدينة ما يسمونه التأخر في إكمال ورش بناء مستشفى جديد بالمنطقة، وما يترتب عن ذلك من مضاعفات سلبية على ضحايا «السيليكوز».
لا تظهر أعراض المرض إلا بعد مرور فترة من العمل كما حدث للمئات، بل الآلاف الذين اشتغلوا في شركة مناجم المغرب، إذ إلى حدود اليوم ثمة جمعية تعنى بمرضى «السيليكوز»، تخوض احتجاجات للزيادة في معاشاتهم وتوفير خدمات صحية متطورة. بالصدفة فقط، تزامنت زيارة صحافي الجريدة إلى مدينة جرادة مع احتجاجات نفذها ضحايا ما يوصف ب«الإغلاق التعسفي» لمناجم المغرب» وكلهم مصابون ب«السيليكوز». قبل يوم واحد من حلول عيد الأضحى بالضبط، يلتئم الضحايا في وسط المدينة، ينظرون بعيون شاخصة إلينا، ويقول أحدهم بأعلى صوته بعدما أخبرهم مرافقي سعيد بوجودي «الحمد لله على وجود الصحافة معنا، لم يعد هناك من يقف بجانبنا ويسند قضيتنا غير الصحافة» كانت الكلمات تخرج من فمه حرة صادقة.
وإذا كان ضحايا العقود الماضية مازالوا في الشارع يناضلون ويحتجون، السلطات الطبية بالمنطقة تدق ناقوس الخطر حول مصير العشرات من الشباب الذين يشتغلون في «الساندريات»، ولئن كانت الاتفاقية الجماعية قد أعطت الحق للموظفين في شركة «مناجم المغرب» في العلاج وإجراء الفحوصات بالمجان من خلال إصدار مقرر قضائي يؤكد التضرر من»المرض المهني»، فإن المشكلة التي ستطرح في السنوات المقبلة هي أن المئات من عمال «الساندريات» مرشحون للإصابة بمرض «السيليكوز» في غياب أي حماية قانونية. مشكل يمنحنا تأشيرة لنطرح أسئلة مقلقة ومحرجة في آن: هل ستترك السلطات الصحية هؤلاء يموتون في صمت، ولن تقدم لهم الخدمات الصحية؟ هل تملك الدولة الجرأة والشجاعة على أنهم ينتمون إليها ولن تسمح مهما كان بأن ينهش المرض أجسادهم؟..هي أسئلة تبدو في ظاهرها بسيطة لكن تحمل في طياتها مآس إنسانية عميقة، سيما وأن الشباب الذي يرابط بالجبال باحثا عن الفحم يحمل في ذهنه تصورات بشأن عدم مغادرة «الساندريات» في المدى القريب على الأقل. يجيب مسؤول داخل وزارة الصحة عن الأسئلة التي طرحتها «المساء» بالقول: «الأمر سابق لأوانه، لكن بناء مستشفى جديد سيخفف الضغط على المرضى، ولن نترك أي كان عرضة للموت». في تقدير المسؤول نفسه»عمال «الساندريات» سيستفيدون من العلاج كباقي المرضى الذين يستفيدون من الخدمات الطبية» غير أن كلام المسؤول في وزارة الصحة لا نجد له صدى عند الجميع هنا في جرادة.. الخوف نفسه والهواجس نفسها والموت نفسه.
أرقام الذين يحصدهم الموت بسبب «السيليكوز» مخيفة جدا. ولا غرابة أن تسر بعض المصادر للجريدة أن مسؤولين كبار بوزارة الصحة اتصلوا بالسلطات الصحية بجرادة «للتأكد من الأرقام التي أرسلت لهم، إذ لم يصدقوا أن «السيليكوز» يقتل 50 شخصا سنويا، ولم يصدقوا كذلك أن عدد الذين يخضعون للعلاج يتجاوز 6000 شخصا، ناهيك عن الحالات التي لا تتوفر على بطائق تسمح لهم بالعلاج، إذ هناك العشرات من الضحايا الذين لم يحصلوا على بطائق بمقرر قضائي، لأن أعراض المرض لم تظهر عليهم إلا في سنوات لاحقة إثر تصفية شركة مناجم المغرب». الدكتور عزيز فريقش يعطي تفاصيل أكثر عن الأرقام الخطيرة للمصابين والذين يتلقون العلاج. يقول فريقش: «هناك مجموعة من الأرقام المخيفة بهذا الشأن. أؤكد لك أن 6000 من المرضى يزورون المركز المخصص لعلاج المرض بشكل سنوي بمعدل 500حالة شهريا. أما عدد الذين يموتون في السنة الواحدة فهو يناهز 50 شخصا، يموتون في صمت بعد أن يكون العلاج قد استنفذ كل شيء» وهناك أمر أساسي أريد أن أشير إليه في هذا السياق، يواصل فريقش حديثه عن ضحايا المرض» وهو أن أعراض المرض وتفاقم حالة المرضى تظهر في فصل الشتاء دون غيره من الفصول، أي ابتداء من شهر نونبر إلى غاية شهر مارس، إذ يرتفع عدد الذين يزورون مركز ابن رشد المختص في متابعة المصابين ب«السيليكوز». وأشير إلى أن المادة التي تتسبب في المرض ليست الفحم بل مادة أخرى يصادفها المستخدمون أثناء الحفر».
تؤكد بعض الأرقام التي توصلت إليها الجريدة، أن سيارات الإسعاف بمدينة جرادة تنقل في فصل الشتاء ما بين 4و7 مرضى يوميا من المركز الصحي المتخصص في العلاج بعد أن تسوء حالتهم الصحية. الوضع الصحي القائم ليس وليد السنة الحالية أو الماضية، فالمركز الصحي استمر في استقبال الضحايا منذ سنة 1998، وسيستمر في استقبالهم مادام البحث عن الفحم مازال قائما.
بالقدر الذي يتوجس فيه السكان بجرادة من الموت البطيء، بالقدر الذي يتخوفون على مستقبل أبنائهم إذا توقفوا عن استخراج الفحم من باطن الأرض. المشاعر المتناقضة التي تتنازع السكان مبعثها بالأساس غياب فرص الشغل وارتفاع نسب البطالة في صفوف المجازين، وانعدام مشاريع تنموية كبيرة يمكن أن تشكل بديلا عن «الموت» داخل حفر صغيرة.
ملايير في السوق السوداء
عدا ثلاثة شركات التي تشتغل في إطار قانوني وتتوفر على ترخيصات من وزارة الطاقة والمعادن، لا أحد يمتلك رخصة استخراج وتسويق الفحم. تفيد المعطيات التي حصلت عليها الجريدة أنه بالإضافة إلى هذه الشركات، هناك عشرات الشركات غير المرخص لها تشتغل في السوق السوداء، وتعمل بدورها على شراء حصة كبيرة من كميات الفحم وتتوفر على مخازن بالمنطقة. لا تهمنا بعض التفاصيل القانونية في هذا المضمار بالقدر الذي ينبري سؤال جوهري: من يسوق الفحم على المستوى الوطني ومن يسمح بذلك ومن يشتري؟..الجواب على هذه الأسئلة يسمح لنا على الأقل بفهم بعض الخيوط المتشابكة في الموضوع.
أولا، لا يمكن أن نقفز على ملاحظة أساسية وهي أنه بالرغم من توفر ثلاث شركات على ترخيصات من وزارة الطاقة والمعادن، فإن مصادر تسر أن تلك الشركات الثلاث «تعمل على فرض نوع من الاحتكار على استخراج وتسويق الفحم بدليل أنها هي الوحيدة التي استطاعت أن تحصل على الترخيصات بسبب علاقاتها المتشعبة بالسلطة ومع أصحاب مراكز القرار». المعلومات تقول ما يلي: الترخيص من وزارة الطاقة والمعادن وتجديده لا يكلف الشركات سوى 4000 درهم سنويا، فيما يدفعون 12ألف درهم لمندوبية المياه والغابات أو إلى الجماعات. مرة أخرى نطرح السؤال: ماذا تمثل 18 ألف درهم من مجموع الأرباح التي تجنيها الشركات».
يدافع مصطفى توتو صاحب شركات «The best Charbon» عن الشركات التي تتوفر على ترخيصات قانونية بالقول «لا أبدا ليس هناك احتكار، أعتقد أن 3 أو 4 شركات هي التي تشتغل في المجال، فيما العشرات أو المئات يعملون خارج القانون ويستحوذون على حصة الأسد من السوق. سأكون معك صريحا إلى أبعد، رقم معاملاتي هذه السنة لم يتجاوز مائة مليون سنتيم إذا استثنينا منها المصاريف سيتبقى قدر مالي زهيد. وأظن أن لعبة لي الذراع التي ينهجها البعض: إما أن تشتري منا أو نحتج، لم تعد صالحة ولا تنفع أحدا. كل ما نريده الآن أن يكون كل شيء واضحا وأن لا يشتغل أحد في «السوق السوداء» ثم يمسح فينا كل شيء في نهاية المطاف».
قد يفهم من كلام توتو أن أرباح الشركات المتخصصة في الشاربون تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب انحسار الطلب عليه، لكن الذي لا يفهمه سعيد، الناشط الجمعوي بالمنطقة هو «شراء الشاربون من العمال بالثمن الذي يريدونه هم». يبدو مثل هذا السجال عقيما بالنسبة للسكان، فهم يقولون إن «تلك المافيات» حولت المدينة إلى «ساحة موت كبيرة» وجعلت أبناءهم يهبطون «إلى موتهم باسمين».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.