عقدةَ الشرعية السياسية عند الفريقَيْن لا تَقْبَل حلاًّ إلاّ بتوافُقٍ ينجم عن حوارٍ وطني فرضَتْ وقائعُ العدوان على غزة ونتائجُه عودةً إلى فكرة الحوار الوطني الفلسطيني بعد طولِ تعليقٍ غطَّتْهُ المزايدات المتبادلة بين «فتح» و»حماس» وتحميل الواحدة منهما المسؤولية للأخرى عن إسقاط فرص الحوار. اكتشفت «حماس» أن سياسة العَزْل العربية التي حاصرتها منذ عامٍ ونصف العام، وخاصة أثناء العدوان، غير قابلة للزوال إلاّ متى أُعِيدَ تقديم «حماس» كفريقٍِِ شريك في النظام السياسي الفلسطيني، وأنّ النظام العربي والنظام الدولي مازالا –حتى إشعار آخر- يتعاملان مع عنوانٍ فلسطيني رسميّ واحد: رئاسة السلطة في رام الله. وما غيّرَ من هذه الحقيقة أن «حماس» حظيت بتمثيلٍ في قمة الدوحة. فإلى أن هذا التمثيل أتى يُعَوّض عن غياب رئيس السلطة في القمَّةَ، فإن القمَّةَ نفسَها ما نالتْ حظا من الاعتراف العربي بقراراتها على ما تشهد بذلك القمة الاقتصادية العربية التي أعقبتْها بأيام. واكتشفت «فتح» ورئاسة السلطة أن الإمعان في سياسة تَرْك غزة ساحةَ نزيفٍ سياسي واقتصادي ل»حماس» لم تُفْضِ بالأخيرة إلى نزيف، وإنما مكّنَتْها من إحكام إمساكها بالأوضاع في القطاع، والنطق باسم قسمٍ غير يسير من الشعب الفلسطيني، وإقامة أعرض تحالف مع الفصائل، وإنجاز معركة عسكرية ناجحة في مواجهة العدوان أدّت إلى إسقاط أهدافه، واستثمار نتائج صمودها في المعركة لتعزيز رصيدها السياسي والتمثيلي في الداخل، ودفْع قوى دولية عديدة إلى الحديث عن الحاجة إلى فتح الحوار مع «حماس» كأمرٍ واقع. وهكذا يكتشف الفريقان أن مصلحة مشتركة في حوار وطني شامل تفرض نفسها عليهما على اختلافٍ بينهما في تقدير تلك المصلحة. فحركة «حماس» تدرك اليوم أنه من دون وفاق وطني لن تستطيع فكّ العزلة عنها، و»فتح» تدرك أنه من دون إعادة استيعاب «حماس» في النظام الفلسطيني، فإن هذه ستكبُر أكثر وتذهب في اتجاه خيارات سياسية وتحالفات إقليمية لن تتحملها رام الله والعواصم التي تقف وراءَها في المنطقة والعالم. ثم إن عقدةَ الشرعية السياسية عند الفريقَيْن- وترجمتُها انتخابات المجلس التشريعي والرئاسة- لا تَقْبَل حلاًّ إلاّ بتوافُقٍ ينجم عن حوارٍ وطني. لقد جرّبتِ الحركتان طلاقاً غيرَ معلَن بينهما، عقب الصدام المسلح في غزة (يونيو2007)، تختلي فيه كل واحدة بسلطتها على مناطق نفوذها. لكن هذه القسمة ما أفلحت في توفير جوابٍ ناجع عن مسألة العلاقات الداخلية في المجتمع الوطني الفلسطيني. وها إن المتغيرات والمعطيات اليوم تقول ذلك. أمام فكرة الحوار الوطني فرصة للإنجاز بعد العدوان على غزة، وهي فرصة لم يوفّرها أحدٌ من فريقيْ الخلاف الداخلي الفلسطيني ولا سَعَى إليها، وإنما فرضتها نتائجُ الحرب. ولهذه الفرصة اسمٌ رسمي هو: إعادة إعمار غزة وما تُرتّبُهُ هذه المهمة العاجلة على سلطتيْ غزةورام الله وحركتيْها السياسيتيْن من مسؤولية وطنية. وإذْ نعتبر بناء ما دمَّرهُ العدوّ فرصة للوفاق الوطني، فمن باب التعويل على نضجٍ سياسي لدى «حماس» و»فتح» وحسٍّ عالٍ منهما بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية -نفترضها عندهما ونحسِن الظن بهما- في مواجهة مأساةِ شعبٍ نُكِب بالعدوان ووطنٍ محتلّ دمّرت مقدَّراتُه، وإلاّ فقد تتحوّل إعادة الإعمار إلى مناسبة أخرى -لا سَمَحَ الله- للتجاذب والانقسام. وثمة كثيرون ممن يريدُونها كذلك، ويراهنون على أن تصبح كذلك، وأوّلُ هؤلاء «إسرائيل». والخشيةُ -كل الخشية- من أن يتكفّل بعضُ الخِفّة السياسية لدى هذا الفريق أو ذاك بتقديم خدمة مجانية لتحقيق مثل هذا الغرض الشيطاني من دون الانتباه إلى الفخّ المنصوب في طريق العلاقات الفلسطينية الداخلية. لا سبيل إلى مواجهة امتحان إعادة الإعمار بالعُدّة السياسية والوطنية المناسبة، وإنجاز برنامج إزالة آثار العدوان الذي وقع على البشر والحَجَر بوحشية سادية، وتقديم الجواب الفعّال عن احتياجات مليونٍ ونصف المليون من الناس الذين سَحَقَهم الحصار والعدوان؛ بل لا سبيل إلى تجَنّب السقوط في فخاخ إعادة الإعمار المنصوبة في طريق العلاقة الفتحاوية-الحمساوية، إلاّ من طريق حوارٍ وطنيّ ينتهي إلى التفاهم على جملةِ مسائل تَتَّصل بالإعمار وبإدارة المرحلة القادمة سياسيّاً. ولست -هنا- في حاجة إلى بيان أهمية هذا الحوار في تصحيح العلاقات الداخلية التي تدهورت إلى حدود قصوى منذ عام ونصف العام. غير أن هذا الحوار إذا لم يكن في وُسْعِه أن يحصد ثمرات إيجابية في ملف العلاقة المتصدّعة بين «فتح» و»حماس» -وقد زادتْها تصريحات خالد مشعل عن اعتزام تأسيس «مرجعية وطنية» سبباً جديداً للتهالك- فإن في وسعه أن يتناول مسألتيْن ضاغطتين شديدَ الضغط على الوضع الفلسطيني الراهن: إدارة عملية الإعمار وإنهاء حالة الانقسام في السلطة. في المسألة الأولى، يكاد يصبح في حكم الثابت أن الحلّ الوحيد لتجنّب النزاع على من يدير إعادة الإعمار، ومن يملك الحق السياسي والدستوري للنهوض بذلك، هو الذهاب نحو صيغة الشراكة في إدارة عملية إعادة الإعمار من طريق تشكيل حكومة وحدة وطنية (واحدة) تشرف على الموضوع. إن التلكُّؤ في الذهاب إلى هذا الخيار، تحت أية ذريعة، يهدّد بحجب الموارد العربية والدولية المرصودة -والتي ستُرصَد- لإعادة الإعمار، ويمدّد محنة مئات الآلاف من أهالي غزة. والأمل في ألا تتمسك الحركتان بمواقف متصلبة -ابتغاء السلطة- لن يدفع ثمنها سوى الشعب. أما في المسألة الثانية، فإن إنهاء حالة الانقسام في السلطة (وهو -بالمناسبة- غير إنهاء الانقسام السياسي بين «فتح» و»حماس» الذي من المرجّح أن يستمرّ) ليس ممكناً إلاّ من طريق التوافق على الانتخابات «التشريعية» و»الرئاسية» قصد إعادة تكوين سلطةٍ تفككت منذ فترة. وإذا كان لحكومة وحدة وطنية أن تقوم في المرحلة القادمة -وهذا ما يُؤمل- فإنها ستكون لفترة انتقالية ولإنجاز برنامج عمل محدّد: إعادة الإعمار والتحضير للانتخابات. أما إذا أمكن للحوار الوطني أن ينتهي إلى صيغة للتوافق على الشراكة في الحكم بعيداً عن حسابات الأكثرية العددية في «المجلس التشريعي»، فسيكون ذلك شيئا رائعا واتجاهاً صحيحاً نحو فهم معنى التحرر الوطني ومقتضياته.