صحيح أن القرار في نظرنا انتقائي، لأن التقارير المنجزة عن مدن أخرى كشفت وجود الكثير من الخروقات، إلا أن العزل طال فقط عمدة المدينة التي يسيرها حزب العدالة والتنمية من بين المدن الكبرى هناك تناقض بين مصالح النظام السياسي ومصالح حزب العدالة والتنمية، ومع ذلك فهذا التناقض ليس جوهريا، إذ إن الحزب المذكور لا ينازع في صلاحيات إمارة المؤمنين وامتداداتها ولا يقدم تصوراً بنيويا لإصلاح دستوري مأمول، وهو لا يشكل خطراً على نمط توزيع الثروة، إذ لا يقدم تصوراً اشتراكيا لإصلاح اقتصادي واجتماعي مأمول. بل إن الحزب هو فعلاً ابن الدولة البار الذي خدم إيديولوجيتها، وحينما كان اليسار يواجه الدولة، كان أبناء الحزب في إطار الهياكل السابقة التي انحدر منها يواجهون اليسار. إلا أن التناقض اليوم مع الدولة يتمثل في خشية هذه الأخيرة من تداعيات اكتساح انتخابي إسلامي على وضعها الإقليمي وعلاقاتها مع شركائها ومؤسساتها وطبقاتها. ولذلك تجهد الدولة نفسها في ابتداع صيغ الضبط الناعم الذي تسعى من خلاله إلى الحيلولة دون حصول الاكتساح الإسلامي، فتتدخل بواسطة المقتضيات القانونية والتقطيع الانتخابي وتوفير فرص أريح لعمل منافسي الحزب في الساحة... إلخ. وعندما تدرك أن هذه الوسائل غير كافية، تستخرج أدوات إضافية للضغط. وهكذا نستطيع اليوم بسهولة أن نتبين ملامح هجوم رسمي منسق على حزب العدالة والتنمية، أملاه التناقض التقليدي بين الحزب والدولة، وأملته كذلك اعتبارات ظرفية، تتعلق أولاً بما جناه الحزب من منافع في دينامية التضامن مع غزة، وتتعلق ثانيا بالأجواء الذي يجري فيها الحزب استعداداته لدخول انتخابات 2009 وخططه لاختراق البادية، وتتعلق ثالثا بفشل حركة الهمة في بناء صرح كيان حزبي قادر على تغيير معادلات الحقل السياسي المغربي واستنفار طاقة جديدة ومجددة تصد الزحف الإسلامي على المؤسسات. وقد اتخذ الهجوم على العدالة والتنمية ثلاثة أوجه: - الوجه الأول يتمثل في اهتمام الإعلام الرسمي المفاجئ بتناول حركة استقالات جرت بفرع من فروع الحزب وتجري يومياً في كل الأحزاب، مما قد يخلف انطباعاً بأن الحزب في أزمة تنظيمية. يتعلق الأمر بالاستقالات التي عرفها فرع الحزب بصفرو، ومن المعلوم أن الصحافة تحدثت أيضاً عن موجة استقالات شملت فروع الناظور وتطوان والبيضاء ومراكش. - الوجه الثاني يتمثل في صدور بلاغ شديد اللهجة من الوزارة الأولى يتهم الحزب ضمنياً ب»إقحام شخص جلالة الملك المقدس ومواقفه المولوية المبدئية الشريفة المترفعة عن كل الاعتبارات الضيقة في حسابات سياسوية رخيصة» وب»المتاجرة بالقضايا المصيرية للوطن والأمة وفي طليعتها القضية المقدسة للشعب الفلسطيني الشقيق». جاء ذلك في أعقاب تصريح للأمين العام لحزب العدالة والتنمية في تجمع بالدار البيضاء بأن الحزب كان وراء/ أو كان السبب في القرار الملكي بفتح حساب خاص ببنك المغرب لدعم فلسطين بعد العدوان على غزة. وقد أصدر الأمين العام بلاغاً جوابياً يتضمن ما يشبه الاعتذار، ويؤكد فيه أن نهج حزبه الثابت يقوم على عدم استغلال القضايا المصيرية للوطن والأمة وعدم المتاجرة بها. فهل صحيح أن حزب العدالة والتنمية ساهم في الحركة التضامنية مع غزة بدون أية حسابات سياسية وبدون سعي منه إلى استخلاص منافع سياسية؟ الواقع أن طريقة الحزب في التعامل مع الحدث تعكس رغبة جلية وبادية للعيان في تحصيل مكاسب حزبية، فسواء تعلق الأمر بالخطاب الذي أنتجه بالمناسبة، أو ذاك الذي صدر عن ذراعه الدعوي (حركة التوحيد والإصلاح)، لاحظنا أن الخطاب يكاد يسقط من حسابه أولوية واستعجالية شعار الوحدة الفلسطينية، وذلك تقريبا بخلاف كل الأحزاب السياسية الأخرى. فالحزب والحركة ينطلقان من أن الوحدة تشخصها حماس وتتم من خلال حماس، أما «الباقي» فهم «جماعة عباس» و»جماعة دحلان». كل الكتابات المنشورة في «التجديد» تمجد حماس، وتتغاضى كليا عن أخطائها، وتنتصر لطرف على طرف في الخلاف الفلسطيني الداخلي، وذلك انطلاقا من خلفية واضحة تقوم على اعتبار الإسلاميين المغاربة امتداداً لخيار وفكر حماس هنا في المغرب، وينخرطون معها في ما يشبه أممية إسلامية. طبعا حماس حركة مناضلة ما في ذلك شك، لكن هناك أيضا المناضل الأسير مروان البرغوتي والمناضل الأسير أحمد سعدات وآلاف الأسرى من فتح والمنظمات الأخرى، وهناك الانتفاضة وكتائب شهداء الأقصى والرمز الشهيد ياسر عرفات. ولم تتردد «التجديد» مثلاً في خضم التعاطف الشعبي العارم مع أبناء غزة في المس بعض الشيء بمنطلقات سبق أن أعلنت التزامها بها، فطالبت المستشار الملكي أندريه أزولاي دون غيره من مستشاري الملك بإعلان موقفه من أحداث غزة. طبعا يمكن أن ننتقد آراء مسؤول مغربي في السياسة الداخلية والخارجية، ونستنكر دوره في التطبيع مع الكيان الصهيوني كما فعل الأستاذ خالد السفياني، ونبني ذلك على وقائع ثابتة، لكن تخصيص مغربي من ديانة يهودية بطلب الكشف عن موقفه من العدوان دون ذكر مبررات ذلك بالحجج والوقائع في المقام ذاته، فإنه يساعد في إشاعة الخلط بين اليهودية والصهيونية، وهذا ما ظهر أيضاً من خلال تصريح رئيس حركة التوحيد والإصلاح بأن «الصهاينة قتلة الأنبياء». فالمقصود هنا هم اليهود، لأن ظهور الصهيونية متأخر في التاريخ. لابد لنا من الاعتراف بأن حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح أكدا في أكثر من مناسبة رفضهما الخلط بين الصهيونية واليهودية ورفضهما أي شعار معاد لهذه الأخيرة، لكن تجاهل الالتزامات عندما يحمي وطيس الحماس الشعبي، وتأجيج هذا الحماس طمعا في أصوات أو تعاطف الشارع بغير تقدير للعواقب أو استحضار للعقل، هو مسلك قار للحركات الشعبوية. ومع ذلك نعتبر أن حزب العدالة والتنمية من الناحية السياسية صنع في نهاية المطاف ما تصنعه كل الأحزاب حيال مختلف الأحداث، ولم يمنع الآخرين من «الاستفادة» من الحدث هم أيضاً. - الوجه الثالث للهجوم على العدالة والتنمية يتمثل في قرار عزل أبوبكر بلكورة عمدة مكناس والمنتمي إلى الحزب، بناء على تقرير المفتشية العامة للإدارة الترابية، ويتضمن التقرير جردا بالمخالفات المنسوبة إلى بلكورة، أهمها عدم الالتزام بتطبيق الإجراءات القانونية في حق المخالفين لقانون التعمير والتغاضي عن 500 حالة عام 2007، وتمكين زوجته من إعفاء من رسوم البناء بدون وجه حق مما فوت على الخزينة العامة مداخيل تبلغ مليون و16 ألف درهم، وتسليم شهادات غير قانونية، والترخيص للزوجة ببناء مركب سكني من 200 شقة من خلال عمارات من 4 طوابق في منطقة مخصصة للفيلات وفقا لتصميم التهيئة ودون الحصول على موافقة الوكالة الحضرية، والتغاضي عن حصول تحايل لتحويل القبو إلى طابق إضافي، وعدم التقيد بالالتزام القانوني القاضي بامتناع عضو المجلس الجماعي عن ربط مصالح خاصة مع الجماعة التي هو عضو فيها وامتناعه عن إبرام صفقات للأشغال أو التوريد أو الخدمات سواء بصفة شخصية أو بصفته مساهما أو وكيلاً عن غيره أو لفائدة زوجته أو أصوله أو فروعه المباشرين. فبالنسبة إلى المشروع المذكور سابقاً، فإن الشركة التي تباشر بيع الشقق يملك بلكورة 99٪ من أسهمها ويملك ابنه الباقي. لقد كان رد الحزب على قرار العزل سريعا ولا تردد فيه، وانبنى على نقد صارم للقرار بسبب انطباعه بالسمات التالية: 1- الانتقائية 2- عدم ملاءمة التوقيت 3- عدم التناسب بين الجزاء والمخالفة. وبالتالي فالقرار سياسي، وهو يكشف عن نية استهداف الحزب مسبقاً حسب قيادييه. صحيح أن القرار في نظرنا انتقائي، لأن التقارير المنجزة عن مدن أخرى كشفت وجود الكثير من الخروقات، إلا أن العزل طال فقط عمدة المدينة التي يسيرها حزب العدالة والتنمية من بين المدن الكبرى. وبالنسبة إلى التوقيت أيضاً، فإن اختيار إعلان مثل هذه القرارات قبل شهور قليلة من الانتخابات الجماعية، من شأنه التأثير على مجرى الانتخابات وأوضاع الأحزاب المشاركة فيها. وبالنسبة إلى عدم التناسب بين الجزاء والمخالفة، الذي جرى إيراده في خطاب قيادة حزب العدالة والتنمية، فهو يعني أن تلك القيادة لا تستبعد فرضية اقتراف بلكورة للمخالفات المنسوبة إليه كليا أو جزئياً، ويصرح الأمين العام للحزب بهذا الصدد: «أنا لا أدافع عن الخطأ، بل أدافع عن بلكورة في قرار مسه ويبدو لي غير متكافئ مع حجم الخطأ الذي يؤاخذونه عليه(..) بلكورة ليس معصوماً، وقد يكون ارتكب خطأ». وعندما نتأمل رد بلكورة على الاتهامات الموجهة إليه، نلاحظ على العموم نقصا في المعلومات المطلوبة لنفي التهم، أو اعترافاً مشفوعاً بإسناد المسؤولية إلى نوابه، أو الزعم بتواتر الحالات المخالفة للقانون في جهات أخرى، أو أن تلك الحالات في طريقها إلى «التسوية»! ولذلك يبدو أن هناك ضعفا في موقف بلكورة، فهو لم يستطع حتى الآن الإتيان بحجج دامغة تبرئ ساحته كليا من المنسوب إليه. وإذا كان هناك استهداف لحزب العدالة والتنمية، وقسوة في التعامل معه، وهذا واضح، فإن ذلك وحده لا يكفي لعدم أخذ الاتهامات الواردة في تقرير المفتشية العامة للإدارة الترابية بعين الاعتبار، وكل ما يمكن أن نطالب به في هذا الصدد هو تعميم نفس التعامل على الجميع، واتخاذ نفس القرار في الحالات المماثلة. إن مسار بلكورة شكل دائماً نقطة ضعف بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية (زيارته لإسرائيل مثلاً)، وحين أرادت الداخلية مواجهة الحزب مرت عبر الحلقة الأضعف. وفتح ملف بلكورة اليوم ليس إلا مقدمة لما هو أهم، وهذا الأهم قد لا يطلع عليه الناس وقد لا يعرفون تفاصيله. نحن نشاهد اليوم الجانب الظاهر في اللعبة، وقد يعقبها جانب خفي يأخذ شكل مفاوضة تنتهي بتسوية، فيتقرر مثلاً عدم مقاضاة بلكورة مقابل تقليص الحزب لترشيحاته، وبذلك تنحل عقدة 2009. ويبدي الأستاذ بنكيران استعداداً لذلك من خلال قوله «الآن إذا كانت لديهم النية لضبط الإيقاع على ضوء الانتخابات المقبلة، هل عليهم أن يضبطوه عن طريق الحوار، أم باستعمال وسائل أخرى؟»، ثم يضيف: «ربما ارتكبنا خطأ على مستوى الانتخابات الجماعية، فقد أعلنا عن إمكانية ترشيحنا ل4000 مرشح في البادية». ليس هناك في المغرب حزب له حاجة إلى الانتخابات الجماعية المقبلة مثل حزب العدالة والتنمية، فهو بواسطتها يريد أن يضمن تأبيد وضعه البرلماني بحيث لا يمكن بعدها أن يرجع إلى الوراء، بل يحجز تذكرة الانخراط بصورة نهائية في نادي الأحزاب الكبرى الأولى في المغرب. وحزب العدالة والتنمية ليس من طينة الأحزاب التي نشأت لمسايرة وتكريس ثقافة الفساد، ولم يكن بالإمكان في الماضي ممارسة الضغط عليه بواسطة التلويح بملفات فساد منتخبيه، كما فعل إدريس البصري مع عدد من الأحزاب الأخرى لما أعلن في البرلمان عن وجود 3000 حالة لمنتخبين فاسدين من مختلف الأحزاب، وجعلها تنصاع صاغرة لمخططاته. واليوم يوجد حزب العدالة والتنمية في موقف دقيق وأمامه منحدر خطير، وعليه أن يستحضر سوابق الأحزاب الأخرى التي فقدت تدريجيا استقلاليتها بسبب الهشاشة الأخلاقية لمنتخبيها: فإما أن يتولى بنفسه، وبكل شجاعة، اتخاذ اللازم إزاء المخالفات التي يرتكبها أحد أعضائه ويضمن بذلك تحصين نفسه، وإما أن يخطو خطوته الأولى على طريق التدحرج إلى السفح بقبول الضغط عليه بملفات فساد أعضائه، فيدخل دوامة قد لا يخرج منها أبداً. إن الحزب الحقيقي لا يتسامح مع فساد أعضائه في تدبير المال العام، مهما كانت نوايا وحسابات الأطراف التي تثير هذا الفساد.