- الجراحة والكتابة، كيف يتجاوران في حياة الكاتب والجراح خليل النعيمي، ثم ألا تعيد إنتاج سير كتاب أطباء؟ في تصوري أن كل نشاطات الكائن ضرورية، وليست هناك نشاطات متناقضة، وحتى عندما تكون متناقضة شكليا، يمكن أن تتضافر من أجل إغناء الإنسان أو الكاتب أو المبدع. وبالتالي، فإن كل تجربة معيشة هي تجربة ضرورية، ويمكن أن نستعملها عندما نكتب. وفيما يتعلق بنشاطي الكتابي وبمهنتي، التي هي الجراحة، فأنا منذ زمن بعيد، زاوجت بينهما، ووجدت الكثير من المنافذ ومن الروابط بينهما، وبالتالي، لا أجد شخصيا أي تعارض بين النشاطين. - كيف يكون بمقدورك أن تفصل وتجمع في الآن نفسه بين المهنتين، مهنة الكتابة ومهنة الجراحة؟ في الحقيقة، لا تهمني كثيرا معرفة الكيفية التي أفصل فيها بين المهنتين، وبين العالمين، لكن ما يهمني هو أن إحداهما تغني الأخرى. وبالفعل، فإن العمل الجراحي يمكن أن يستفيد كثيرا من العمل الأدبي أو الفني، لأن العقل الإنساني ليس مجزأ، بل هو وحدة، وبالتالي عندما تمارس نشاطا مثل الجراحة سينعكس ذلك مباشرة على الأدب، وعندما تكتب كتابا، يستغرق منك جهدا وزمنا، ويفرض عليك تطورا معينا، فهذا النشاط يمكن أن يغني النشاط الآخر، أي الجراحة. - هل تجد، دائما، الوقت للكتابة؟ وكيف توفق بين زمن الإبداع ومتطلبات الحياة اليومية ودقة الالتزام في مهنتك وأنت في غرفة العمليات؟ لا بد أن أشير في معرض إجابتي إلى أن علاقتي بالكتابة ليست جديدة، فأنا بدأت مبكرا، منذ المرحلة الثانوية ظهر علي هذا الانتماء إلى عالم الأدب، وفي مرحلة الدراسة الجامعية تعزز حضوري الأدبي ورافقني ذلك خلال سنوات التخصص في كلية الطب. وإذا صح التعبير، كنت طالب الطب المختلف. ففي جامعة دمشق كنت طالبا مختلفا، إلى درجة أن مجلس جامعة دمشق سمح لي بالجمع بين مسارين في دراستي، دراسة الطب والفلسفة. وفي جامعة دمشق تخرجت في المسارين معا، في نفس الوقت، وفي جامعة السوربون تابعت دراستي في الجراحة وفي الفلسفة السياسية المعاصرة. ولأسباب عدة، أنا دائما أكتب في رأسي، إذا شئت التعبير، ودائما لدي مذكرة، أحملها، وأدون حتى وأنا في السيارة، وأحيانا أقف في الطريق السريع لكي أدون فكرة ما خطرت لي فجأة. وفي توصيف دقيق لعلاقتي بالكتابة أقول إنني أكتب بشكل مستمر، وليس لدي وقت «إداري» للكتابة، أي أكتب مثلا من الساعة السادسة صباحا إلى العاشرة صباحا، كما يفعل البعض. - أليست لديك طقوس مخصوصة، كما هو حال العديد من المبدعين؟ يمكن القول بأن هذه هي طقوسي في الكتابة، فأنا أكتب بشكل مستمر ودائم، وهذا، إذا شئت، هو طقسي الخاص في الكتابة. - بمعنى أنك تكتب بشكل تلقائي وغير متكلف. التلقائية، هنا، لا تعني السهولة، فعملية الكتابة كما أفهمها، عملية معقدة، تجمع بين الحساسية والمشاعر والفكر، وهذا بطبيعة الحال يتجاوز الصورة النمطية التي كونها القراء عن الكاتب الذي يجلس في زاوية مقهى يدخن بشراهة ويكتب. - الكتابة كما الجراحة كلتاهما تحتاج إلى تركيز شديد. هل تمارسهما معا بنفس الدرجة من الاستغراق؟ منذ زمن بعيد اتصل بي أحد الأصدقاء، وأنجز معي حوارا، وخطرت لي فكرة بأن الكتابة أخطر من الجراحة، وفي روايتي «الخلعاء» أذهب أبعد من ذلك حين أقول إن من يقبل أي تنازل في اللغة يقبل أي تنازل في الحياة، وبالتالي فإن الكتابة تقتضي أقصى درجات التركيز، لأنها موقف من الوجود وليس أداة للترفيه. وفيما يخصني أنا، لا أكتب باعتبار الكتابة سلعة أو أني أريد من خلالها الحصول على أكبر عدد من القراء، وبالتالي أثير مشاعرهم الأولية كي أحق ذلك. إن دوافعي في الكتابة هي أني أريد أن أعبر عن مسلك وعن موقف، وأريدهما أن يتحققا بالكتابة. وهذا يحدث أيضا، في العمل الجراحي، حيث يمكن أن تواجه صعوبة فعلية، لكن لا يمكن أن تنجر وراء أي تنازل، وإلا فإن المريض يمكن أن يدخل في حالات واختلاطات أخرى. - قضيت فترة طويلة في باريس. ما هو تأثير المرحلة الباريسية على حياتك؟ وهل كانت إقامة اختيارية أم اضطرارية؟ لم تكن إقامتي في باريس اضطرارية، لكنها كانت اختيارية، وفي الوقت نفسه جاءت في إطار ظروف خاصة. ودعني في هذا الإطار أعود قليلا إلى الوراء. فأثناء بداياتي الأولى في بادية الشام، وبالضبط في الحسكة، بدأت بكتابة الشعر. ولما جئت إلى دمشق لدراسة الطب والفلسفة كتبت الرواية، ولما حللت بباريس عاودني الحنين إلى الشعر، وكتبت كتيبا اسمه «موت الشعر». - بمعنى أنك صفيت علاقتك بالشعر. لا، أنا لم أصف علاقتي بالشعر. لقد مررت في حقيقة الأمر بمراحل، فأنا عندما كنت في الحسكة كنت شاعرا، وعندما جئت إلى دمشق أصبحت روائيا، وفي باريس كتبت «موت الشعر». ولو لم أصل إلى باريس لما كان بإمكاني أن أكتب هذا الكتيب الذي أتحدث فيه عن موت الشعر. وبالتالي، فإن المرحلة الباريسية مرحلة أساسية في حياتي الإبداعية والشخصية، ففي باريس لم ألتق فقط بالحرية والثقافة، ذلك أنه يمكن لك أن تجد هذا الجو في أي مكان، لكن فيها عشت الاختلاط الإنساني الكبير. لا تجد هذا الغنى في الاختلافات في سوريا، وهي إن وجدت فهي قليلة. البشر هناك متشابه، نفس الطول ونفس الملامح والمرجعيات الثقافية نفسها، هنا، عندما وصلت إلى باريس، تغيرت المعادلة، فأنت عندما تمشي في الحي اللاتيني، تسير جنبا إلى جنب مع الصيني والفيتنامي والإفريقي والعربي والفرنسي، إضافة إلى الشعور بالحرية وبالخلاص من الأثقال التي كانت تضغط على الروح والجسد وعلى القلب والفكر. لقد صرت منفتح الشهية على العالم، مثل امرأة تشتاق إلى لقاء حبيبها، وهذا ما جعلني متفتحا ونهما تجاه ما يحيط بي من معارف ومن حب التحرر ومن حياة. الآن، انطلاقا من هذا الجو، يختلف مسار الناس، وما يريدون عمله وفعله، وما يرغبون في تحقيقه من أحلام. - في الفترة التي وصلت فيها إلى باريس كانت عاصمة الأنوار تلف حولها عددا من كبار الكتاب والمبدعين العرب الذين جاؤوا من مختلف البلدان العربية، كل حسب غايته. هل كان هذا الجو حافزا بالنسبة إليك أم مثبطا؟ إحدى الفوائد التي أعطتني إياها باريس هي أني وصلت إليها في بداية السبعينيات. وهناك التقيت بكل القوى اليسارية العربية التي كانت بدأت تترك مصر ولبنان وسوريا، وخاصة وجوه الثقافة المصرية. حينما كنت طالبا في الثانوي كانت الوحدة السورية المصرية ما تزال موجودة، فكنا نقرأ منتج الثقافة المصرية، وكان لدي حلم أن ألتقي بألفريد فرج وغالي شكري وجورج بهجوري ومحمود أمين العالم ولويس عوض ونجيب محفوظ وكوكبة من الأسماء الأدبية التي كانت تقيم بباريس أو تمر منها، إضافة إلى مثقفي المغرب والعراق والجزائر وتونس. لقد تشكلت بؤرة ثقافية عربية في باريس، اندمج فيها كل المثقفين العرب الموجودين هناك، وبالأخص مع محمود درويش وأدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي وعبدالوهاب البياتي. - كيف كان ينظر إليك أنت الوافد الجديد إلى باريس، وبالضبط إلى أدبك، مع وجود كل تلك الأسماء العربية الكبيرة؟ كنت في بداياتي، في تلك الفترة، وعندما أصدرت كتابي «موت الشعر»، الذي هو قراءة في شعر أدونيس، باعتباره أحد أكبر الشعراء العرب الأحياء، خلق الكتاب نوعا من الرجة، لأن فكرته كانت نوعا ما ثورية وستالينية، لأني قاربت علاقة الشاعر بالسلطة، وقد تبين لنا الآن كيف أن أدونيس له موقف مناهض من الثورات العربية، شأنه في ذلك شأن عدد من الشعراء العرب، لأن تجاربهم الشخصية تمحورت حول فكرة الركود السياسي والاجتماعي، رغم أنهم قدموا أنفسهم على أنهم طليعة الحداثة، لكن الشارع العربي والعمل الثوري للشباب العربي قلب توقعاتهم، وهكذا أصبحوا خارج التاريخ، رغم محاولاتهم إعادة عجلته إلى الوراء، وهذا غير ممكن. - ما هي أوجه التشابه والاختلاف بين تجربتك الإبداعية وتجارب عدد من المثقفين العرب والسوريين على وجه التحديد؟ ليس هناك أي أوجه للتشابه والاختلاف بين تجربتي وتجربة عدد من المثقفين العرب والسوريين. فهناك مثقفون كبار أمثال حجازي وسعدي يوسف ويوسف إدريس، وأنا تعلمت من كل هؤلاء ومن المثقفين المصريين ومن مثقفي المغرب والجزائر، وارتبطت بعلاقات صداقة إبداعية مع كل هؤلاء. فإذا كان الأمر يتعلق بالثقافة، فأنا تعلمت من كل هؤلاء، ومن غيرهم من أصدقائي المبدعين العرب والأجانب، وإذا كان الأمر يتعلق بالثورة، فموقفي واضح وليس فيه أي لبس، فأنا مع الثورة منذ البداية، سواء خرجت من الجوامع أو من الشوارع، لأن مهمة العالم العربي اليوم هي الخلاص من الطغيان ومن الاستبداد، ومن حكم الفرد الواحد طيلة عقود، وهذا هو فاتحة الصراع الجديد الذي على الإنسان العربي أن يخوضه وأن يواصل التحرر الذي بدأه. لا بد من مواصلة الحوار بين المكونات الاجتماعية في العالم العربي وفي بلدان الثورات، سواء كانوا إسلاميين أو علمانيين أو غيرهم، لأنه لا بد من التوافق على شكل المجتمع الذي يطمح إليه الجميع على قاعدة الحوار البناء والعميق. وهذا يعني أنه لا مناص من خوض صراع سياسي واجتماعي وثقافي جديد للوصول ذات يوم إلى فصل الدين عن الدولة وإرساء مفهوم المواطن وليس الانتماء الحزبي والعقدي. فأنا مثلا، كعربي من بادية الشام جئت إلى باريس وحصلت على الجنسية الفرنسية، لا يوجد قانون واحد في فرنسا ينتقص من مواطنتي ويجعلها أقل من أي شخص آخر فرنسي المولد والنشأة والأصول، على الأقل بشكل نظري. في المجتمعات العربية، علينا أن نصل إلى هذا المستوى، غير أنه لا يمكننا بلوغ ذلك إذا استمر الحكام الطغاة في كراسيهم. فالمواطنة الكاملة ليس لها مستقبل في ظل استمرار آلة الطغيان في حكم الإنسان العربي. - طيلة أكثر من أربعين سنة من إقامتك في فرنسا هل لمست عناية ما بالمثقف والكاتب والمبدع العربي من قبل الوسط الثقافي الفرنسي؟ الوسط الثقافي الفرنسي لا يهتم بي ولا بسعدي يوسف ولا بمحمود درويش ولا بأدونيس ولا بأي أحد آخر، لأن المجتمع الثقافي الفرنسي حسم أمره، ومثاله ليس هو العالم العربي، بل أمريكا. فإذا كان مثال العربي هو فرنسا، فإن مثال فرنسا هو أمريكا. ومن الملفت تماما أننا، نحن العرب، من صنع ثقافة الغرب، فنحن من أعطيناه الدين، المسيحية والإسلام واليهودية، وهذه كلها ديانات عربية خرجت من بلاد العرب، ومهدها هو الشام، فبيت لحم يبعد عن دمشق ب80 كيلومترا، وبابل هي مهد الديانات الأخرى، قبل الحضارة الفرعونية نفسها، وبالتالي نحن أعطينا للغرب الدين ومنحناه قيم التحليل والتحريم. لكنهم طبقوها وتجاوزوها واستطاعوا أن يفلحوا في فصل الدين عن الدولة، ليتقدموا أكثر، بينما نحن ما زلنا في طور التطبيق، وبشكل سيء في أحسن الأحوال. اليوم، لم يعد المجتمع الفرنسي ولا وسطه الثقافي ينتج تلك التيارات الكبرى، مثل الفلسفة الوجودية، بل أصبح عاجزا، وهو نفسه يتطلع إلى الغرب، وإلى ما تنتجه أمريكا. ومن هنا، فإن إسهام الكاتب العربي المقيم في فرنسا هو إسهام محدود، والالتفات إليه من قبل الوسط الثقافي الفرنسي لا يخلق ذلك الأثر الكبير، اللهم إذا كان هذا الكاتب يقدم نظرة فولكلورية عن بلاده، ويحسن تسويقها، ففي هذه الحالة يتم استهلاكه كباقي المنتوجات الاستهلاكية. وكل الدعاوى التي تتحدث عن ترجمة هذا الكاتب العربي أو ذاك إلى لغة موليير، بالرغم من أهميتها، ليس لها ذلك الأثر الكبير المرتجى، بل أكاد أقول إنها بلا قيمة و بلا أثر تقريبا. - ألا يخفي هذا نوعا من الاستعلاء الثقافي ومن نزعة المركزية الأوروبية تجاه كل ما هو عربي؟ الأمر ليس على هذا النحو، وهذا المسلك ليس موجها ضد الثقافة العربية، ولكن لأن الثقافة الفرنسية مشغولة بنفسها، وهي تبحث عن نماذج أخرى تغنيها. فأن تكون، مثلا، مبدعا يابانيا، يتم الالتفات إليك بسرعة، لأن اليابان هي رمز من رموز التقنية والصناعة والذكاء البشري والثقافة، وهي متقدمة على فرنسا وعلى باقي البلدان الأوربية. ومن هنا تبدو، في نظري، عدم نجاعة مشاريع الترجمة، التي تمولها بعض دول الخليج، وهي مشاريع، حتى إن كانت مهمة من الناحية الشكلية، إلا أنها عمليا غير مفيدة، فنحن نعرف الظروف التي تتم فيها ترجمة الأعمال العربية إلى اللغات الأخرى، مما يضع عقبات كبيرة أمام المبدعين العرب الجيدين والحقيقيين، فمن عاد مثلا يقدم على ترجمة نجيب محفوظ وغيره من الكتاب العرب الكبار. وهناك الكثير من الكتاب العرب الحمقى الذين يساهمون في هذه المهزلة، مهزلة الترجمة، وهم يعتاشون على هذه المؤسسات ويحصلون على رواتب مجزية. لكن كل هذا ضد الثقافة العربية، فالثقافة اليوم هي سلعة في السوق، وإذا لم تكن قوية فإنها لن تكون قادرة على المنافسة. - أين تطبع كتبك؟ وهل يتم ذلك على نفقتك الخاصة، أم أن دور النشر هي التي تتكفل بذلك؟ أغلب كتبي تطبعها أهم دور النشر، مثل المؤسسة العربية، وكثير منها مطبوع في مصر في الهيئة العامة للكتاب، لكن ناشري المركزي هو المؤسسة العربية للنشر والدراسات والتوزيع.