استقلال السلطة القضائية وتخليق منظومة العدالة وتعزيز حماية القضاء للحقوق والحريات، والارتقاء بفعالية نجاعة القضاء، مع إنماء القدرات المؤسسة لمنظومة العدالة وتحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها. ستة أهداف استراتيجية خرجت بها الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، في ميثاق ينتظر أن يحدث تنفيذه على أرض الواقع «ثورة» حقيقية في مجال إصلاح منظومة العدالة في بلادنا، فيما ينبثق عن الأهداف الرئيسية الستة، 36 هدفا فرعيا، وضعت لتنفيذه الفعلي 200 آلية تنفيذ، تشمل 353 إجراء تنفيذيا، تم تضمينها في المخطط الإجرائي المرفق بالميثاق. رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، خاطب أعضاء هيئة الحوار والمساهمين فيه قائلا: «لقد صبرتم على كثير من التشويشات التي رافقت الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة»، حيث أكد أن عمل الهيئة مكن من تشخيص الوضعية الحالية لمنظومة العدالة، والوقوف على مكامن القوة والضعف فيها بناء على حوار صريح شارك فيه كل العاملين في الحقل القضائي والخبراء الوطنيون والدوليون والأوساط الحقوقية والجامعية وعالم الأعمال والإنتاجية والمنظمات المهنية ووسائل الإعلام وغيرها. أما مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات ورئيس الهيئة، فأكد بدوره أنه «يحق لنا أن نقر بأن الحوار الذي ساهمنا فيه جميعا قد كان مشروعا ناجحا بكل المقاييس، سواء على مستوى المنهجية التشاركية والإدماجية أو على صعيد ما ميزه من تنظيم محكم، وما استخدم فيه من آليات مبتكرة جمعت آراء المهنيين والممارسين ومقترحات المهتمين، دون أن تغفل توصيات ذوي الخبرة من داخل المغرب وخارجه»، ومعتبرا أن المغرب عاش منتدى مجتمعيا للحوار والنقاش حول إصلاح منظومة العدالة. وأضاف الرميد، في ندوة صحفية عقب اللقاء التواصلي، أنه «لا يمكن لأي جهة حزبية أو جمعوية أو حكومية أن تنتج مثل هذا الميثاق الذي ساهم فيه آلاف المشاركين»، وأنه ما توفر من ظروف الحوار الوطني الذي يستهدف إصلاح العدالة لم يتوفر لأي إصلاح آخر». واقع العدالة الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة لم يتضمن فقط التوصيات التي وجب تنفيذها لوضع حد للاختلالات التي يعرفها القطاع، بل وضع تشخيصا للوضع الراهن للمنظومة بدءا من استقلال القضاء وانتهاء عند أساليب تدبير هذا المرفق القضائي. وخلصت الهيئة العليا لإصلاح العدالة إلى أن القضاء يتسم في نطاق المقتضيات الدستورية التي كانت سارية، بتوفر السلطة التنفيذية على صلاحيات تجاه القضاء لا تتلاءم مع قيام سلطة قضائية مستقلة كما يكرسها الدستور الحالي، وفي مقدمة ذلك تبعية النيابة العامة والتفتيش لوزارة العدل، التي تشرف أيضا على تدبير المسار المهني للقضاة. كما أن الوضعية الحالية للمجلس الأعلى للقضاء والنظام الأساسي للقضاة لا تساير أحكام الدستور، الذي أقر بجلاء مبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. أما على مستوى التخليق فتعاني المنظومة بكل مكوناتها من نقص الشفافية وضعف في آليات المراقبة والمساءلة، وتراجع في أخلاقيات الممارسة المهنية وأعرافها، الأمر الذي يفسح المجال لممارسات منحرفة يساهم بعض المواطنين، بوعي أو بدون وعي، في شيوعها، مما لا يساهم في تحصين منظومة العدالة وتخليقها، ويؤثر على دور القضاء في تخليق الحياة العامة. وبخصوص حماية القضاء للحقوق والحريات، فقد رصد الميثاق كون العدالة الجنائية تتصف بتضخم في نصوص التجريم والعقاب كآلية أساسية لمحاربة الجريمة، وبعدم ترشيد الاعتقال الاحتياطي وتدقيق الضوابط القانونية المبررة للوضع رهن الحراسة النظرية، وبعدم التفعيل الأمثل لمبدأ ملاءمة المتابعة، وللآليات البديلة للاعتقال وكذا لضمان المحاكمة العادلة. كما رصدت الهيئة العليا عددا من الاختلالات والنواقص في الجوانب المتعلقة بفعالية ونجاعة القضاء، والقدرات المؤسسة لمنظومة العدالة، ومستوى أساليب تدبير مرفق القضاء. الاستقلالية والتخليق من أهم التوصيات التي خرجت بها الهيئة العليا لإصلاح منظومة العدالة، على مستوى الاستقلالية، إسناد رئاسة النيابة العامة إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، وقيام وزير العدل بتبليغ مقتضيات السياسة الجنائية، كتابة، إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض. وسيتم في إطار الإصلاح وتنفيذا للمقتضيات الدستورية وضع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتكريس استقلاله الإداري والمالي، حيث سيتم تخصيص ميزانية سنوية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، يتم رصدها من الميزانية العامة للدولة، ومقر خاص به. كما سيتم إحداث مفتشية عامة للتفتيش القضائي بالمجلس الأعلى، يسيرها مفتش عام، يعين من قبل الملك باقتراح من الرئيس المنتدب للمجلس، بعد استشارة هذا الأخير، إضافة إلى وضع آلية لنظر المجلس الأعلى للسلطة القضائية في تظلمات القضاة بشأن تهديد استقلالهم. وعلى مستوى العضوية في المجلس، فسيتم وضع معايير واضحة لترشح القضاة وتحديد مسطرة شفافة لانتخابهم، وإقرار التفرغ بالنسبة للقضاة المنتخبين لعضوية المجلس، مع تحديد مدة انتداب القضاة المنتخبين في أربع سنوات غير قابلة للتجديد، و5 سنوات للأعضاء المعينين من قبل الملك، إضافة إلى تحديد واجبات الأعضاء بما يضمن الحياد والالتزام بالتحفظ في ممارسة مهامهم. وفي السياق ذاته سيتم وضع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة، وتعيين كل من الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لديها من قبل الملك، مع النهوض بالوضعية المادية للقضاة، وإضافة درجات جديدة للترقي، وتحديد تعويض مناسب عن تولي مناصب المسؤولية. كما سيتم إسناد اتخاذ القرارات الفردية المتعلقة بالمسار المهني للقضاة إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية. وأوصت الهيئة بوضع معايير موضوعية وشفافة لتقييم أداء قضاة الحكم والنيابة العامة لترقيتهم من درجة إلى درجة أعلى، واعتماد معايير موضوعية في إسناد المسؤوليات القضائية للقضاة، في إطار الشفافية وتكافؤ الفرص، والسعي نحو المناصفة، إضافة إلى إلزامية القيام بتدريب حول الإدارة القضائية لتولي منصب المسؤولية القضائية. وفي السياق ذاته، تضمن الميثاق توصيات تهم وضع ضمانات خلال جميع مراحل المساطر التأديبية المتعلقة بالقضاة، ونشر برنامج ونتائج أشغال كل دورة من دورات المجلس الأعلى للسلطة القضائية وفق كيفية يحددها النظام الداخلي للمجلس. أما على مستوى التخليق، فقد جاء الميثاق بعدد مهم من التوصيات منها تتبع ومراقبة الثروات والتصريح بالممتلكات، مع الأخذ بعين الاعتبار، إذا اقتضى الأمر، مظاهر الثراء الذي لا يتناسب مع الدخل المشروع للمعني بالأمر، مع مراعاة ضمانات يحددها القانون. وسيتم أيضا إحداث هيئة مشتركة بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمجلس الأعلى للحسابات للتنسيق في مجال تتبع الثروات والتصريح بالممتلكات. واقترحت الهيئة تشديد الجزاءات المقررة عند عدم القيام بالتصريح بالممتلكات داخل الآجال القانونية، أو عند تقديم تصريح غير مطابق للواقع، وسن مقتضيات تشريعية بشأن الجزاء المترتب عن المخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح، وأخرى بشأن محاولة التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة، إعمالا لأحكام الدستور. وبخصوص باقي المهن القضائية، نص الميثاق على حضور الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف أو من يمثله، في المجلس التأديبي للمحامين، دون أن يشارك في المداولات أو اتخاذ القرار، وإحداث هيئة قضائية ومهنية مختلطة على مستوى محاكم الاستئناف، تتكون من ثلاثة قضاة من بينهم الرئيس، ومحاميان اثنان يمثلان مجلس هيئة المحامين، للبت في الطعون المقدمة ضد القرارات التأديبية وغيرها، الصادرة عن هذا المجلس، مع تخويل الهيئة المذكورة حق التصدي. وسيتم إحداث الهيئة ذاتها لمهن المفوضين القضائيين والعدول والموثقين والخبراء القضائيين والقضائيين والتراجمة المحلفين، للبت في الملفات التأديبية للمنتسبين إلى هذه المهن، على مستوى المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، تتكون من ثلاثة قضاة من بينهم الرئيس، وممثلان اثنان عن المهنة المعنية. وكما هو الأمر بالنسبة للتأديبات الخاصة بالقضاة، فسيتم نشر الأحكام والقرارات المتعلقة بالعقوبات التأديبية ضد المنتسبين إلى مهن منظومة العدالة، وإقرار آلية لتتبع ومعالجة شكايات المواطنات والمواطنين بشأن التبليغ عن الفساد في منظومة العدالة. السياسة الجنائية على مستوى السياسة الجنائية، سيتم الاشتغال على نزع التجريم عن بعض الأفعال والبحث عن حلول لها خارج المنظومة الزجرية، وتوسيع قاعدة الجرائم القابلة للصلح، وإقرار نظام للغرامات التصالحية بالنسبة للجرائم البسيطة خارج النظام القضائي، مع توسيع مجال الأخذ بالعقوبات الإدارية في ميدان الأعمال بدل العقوبات الزجرية. كما نصت إحدى التوصيات على إقرار بدائل للعقوبات السالبة للحرية، إضافة إلى توصيات أخرى تهم تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة من قبيل مراجعة الضوابط القانونية لوضع الأشخاص تحت الحراسة النظرية، باعتماد معايير أكثر دقة ووضوحا، وتوحيد الإطار القانوني لشكليات وبيانات وحجية محاضر الشرطة القضائية، بغض النظر عن صفة محرريها، مع إمكانية الاستعانة في إنجازها بتسجيلات سمعية بصرية. وبخصوص ضمان نجاعة آليات العدالة الجنائية، ذهبت الهيئة إلى ضرورة إقرار مبدأ اختيارية التحقيق في الجنايات، واعتباره استثنائيا في الجنح بمقتضى نص خاص، وإسناد تعيين قضاة التحقيق إلى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف ضمن دائرة نفوذها، وتعزيز إشراف قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق على عمل الشرطة القضائية، وإشراكهم في القرارات المتعلقة بالمسار المهني لضباط الشرطة القضائية، سواء على مستوى الترقية أو التأديب أو النقل. ونص الميثاق على منع التدخل أو إعطاء التعليمات لضباط الشرطة القضائية من غير الجهات المختصة فيما يتعلق بتسيير الأبحاث القضائية، ووضع آلية لمراقبة الخبرات والشواهد الطبية لتعزيز مصداقيتها، وحوسبة محاضر الضابطة القضائية لضمان معالجتها الحينية في إطار التواصل الرقمي مع النيابات العامة، واعتماد وسائل الاتصال عن بعد في تنفيذ الإنابات القضائية والاستماع إلى الشهود. أما على مستوى تحديث آليات العدالة الجنائية، فتضمنت التوصيات إحداث مرصد وطني للظاهرة الإجرامية والاهتمام بالإحصاء الجنائي، ومركز وطني للسجل العدلي وإحداث الإدارة المتعلقة به لضبط الجوانب المتعلقة بحالات العود. وسيتم في السياق ذاته اعتماد التقنيات والوسائل التكنولوجية الحديثة في البحث والتحري، وإنشاء بنيات مؤسساتية مساعدة على تطوير البحث الجنائي، لاسيما إنشاء بنك البصمات الجينية، وضع نظام قانوني وإطار مؤسساتي، وفق المعايير الدولية المتعارف عليها، لمهنة الطب الشرعي، بما يضمن توفير وحدات الطب الشرعي على المستوى الوطني والجهوي والمحلي، ويكفل حسن سيرها. النجاعة والقدرات من أهم التوصيات التي جاء بها «ميثاق إصلاح منظومة العدالة»، في الجانب المتعلق بالارتقاء بفعالية ونجاعة القضاء، إقرار ربط وجود المحاكم التجارية بالأقطاب التجارية والصناعية الكبرى، مع تحديد اختصاصها قانونا، وإحداث أقسام تجارية متخصصة ببعض المحاكم الابتدائية للبت في القضايا التجارية التي يعود الاختصاص فيها إلى المحاكم التجارية، والإبقاء على المحاكم الابتدائية الأخرى مختصة بالقضايا التجارية التي لم تنسد حصريا للمحاكم والأقسام التجارية المذكورة. وسيتم الإبقاء على محكمة الاستئناف التجارية بالدار البيضاء في استئناف الأحكام التجارية التابعة لدائرة نفوذها، وإحداث غرف استثنائية تجارية متخصصة بمحاكم الاستئناف للنظر في استئناف الأحكام الصادرة عن باقي المحاكم التجارية، غير المحكمة التجارية للبيضاء، وعن الأقسام التجارية المتخصصة بالمحاكم الابتدائية، والأحكام الصادرة في القضايا التجارية عن هذه المحاكم الأخيرة، فيما سيتم دعم الغرف المتخصصة في مجال الصحافة والنشر والتواصل والإعلام بقضاة مكونين في هذا المجال. كما همت التوصيات الجانب المتعلق بتقريب القضاء من المتقاضين وعقلنة الخريطة القضائية، من خلال إرساء الخريطة القضائية على معايير موضوعية، قائمة بصفة خاصة على مبدأي حجم القضايا وتقريب القضاء من المتقاضين، مع مراعاة الاعتبارات الديمغرافية والجغرافية. كما جاءت عدد من المقترحات في الجانب المتعلق بالبت في القضايا وتنفيذ الأحكام خلال آجال معقولة، ومنها اعتماد الإدارة الإلكترونية للقضايا لتسريع الإجراءات والمساطر القضائية، واحترام سلطة الأحكام القضائية وضمان تنفيذها، لاسيما في مواجهة أشخاص القانون العام، وتسريع إجراءات التنفيذ. واقترحت الهيئة في الجانب المتعلق بتسهيل الولوج إلى القانون والعدالة ضرورة تواصل المحاكم مع المتقاضين بلغة يفهمونها، لاسيما اللغة الأمازيغية والحسانية، وتحديد آلية للتواصل بين المحاكم ووسائل الإعلام، بما يساهم في تفعيل مبدأ الحق في المعلومة، وإرساء إعلام قضائي متخصص. وبخصوص إنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة، فستستهدف التوصيات المتعلقة بها توفير مؤسسات قادرة على تأهيل مختلف العاملين في هذه المنظومة، وتحسين شروط الولوج إلى المهن القضائية والقانونية، وضمان جودة التكوين الأساسي، والارتقاء بمستوى التكوين المستمر وتوسيع مجال التكوين المتخصص وكذا تقوية القدرات المؤسساتية للمهن القضائية والقانونية، ودعم آليات تعزيز ثقة المواطن في هذه المهن. أما على مستوى الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها، فسيتم الاشتغال على النهوض بالبنية التحتية للمحاكم لتوفير ظروف ملائمة للعمل والاستقبال، وتحديث أساليب الإدارة القضائية، بما يكفل عقلنة تدبير مواردها البشرية والمادية، والارتقاء بأدائها، مع ارتكازها على استخدام التكنولوجيات الحديثة، كخيار استراتيجي، من أجل تحقيق العدالة الرقمية، والحوسبة الشاملة للإجراءات والمساطر القضائية، وضمان انخراط كل مكونات الإدارة القضائية في التطوير النوعي لخدمات منظومة العدالة.