لعل ما يثير انتباه المتتبع للمشهد السياسي عامة والخطاب الحزبي خاصة داخل النسق السياسي المغربي المعاصر أن الخطاب السياسي الذي أعقب الانتخابات التشريعية ليوم 25 نونبر 2011 عرف سجالا سياسيا حادا على مستوى المفاهيم التي تؤثث فضاء التواصل السياسي المغربي، وخصوصا في ما يتعلق بالخطاب السياسي لدى التنظيمات الحزبية، مما ينم عن أزمة سياسية خانقة تخترق المشهد الحزبي بين مكونات الأغلبية والمعارضة، وتدل على أن الأحزاب السياسية المغربية تعيش "هستيريا" حقيقية على مستوى الخطاب السياسي بسبب تدني أسلوب الخطاب الحزبي، وقد سبق لكلود بلازولي أن تحدث عن حالة الموت البطيء الذي تعاني منه أحزاب الحركة الوطنية، وهو موت أو تردٍّ أصبح يطال حتى نسق التواصل السياسي لدى النخب الحزبية. إن تبادل الاتهامات ليس جديدا على الحياة السياسية المغربية، فهو -كما يقال- ظاهرة جديدة/قديمة، إذ تعود بداياتها الأولى إلى تسعينيات القرن الماضي مع حكومة التناوب التوافقي بقيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ولكن المفاهيم التي استعملت آنذاك لم تكن غريبة عن القاموس السياسي، إذ انتشرت مفاهيم سياسية مألوفة إلى حد ما ك"جيوب المقاومة، أعداء الديمقراطية، الإرث التاريخي الثقيل،..."، وهذا هو وجه الاختلاف الذي نرصده حين نتأمل المفاهيم المستعملة في الآونة الأخيرة، فهي غريبة عن المعجم السياسي الذي بدا معه الحقل السياسي وكأنه مسرح للفرجة السياسية. فما يميز الخطاب الحزبي في الآونة الأخيرة هو تبادل الاتهامات بين الفاعلين الحزبيين وتبلور استراتجيتين متناقضتين، قوامهما الإقصاء والإقصاء المضاد، فالأغلبية تتبنى خطابا تبريريا يروم تبرئة ساحة الحكومة بينما تتبنى المعارضة خطابا هجوميا اندفاعيا، وكأننا نعيش على وقع محاكمة جماهيرية أمام الرأي العام المغربي أطرافها هي الأحزاب المغربية. حبذا لو عملت الأحزاب السياسية بفكرة الاحتكام إلى الرأي العام، ولكن ليس من زاوية تضخيم الخطاب الأحادي الفرداني المليء بنبرة "الأنا" وتلفيق التهم للآخر بغية الرفع في مراتب الشعبوية. وحتى المعارضة البرلمانية بدورها ما زالت سجينة الحسابات السياسية الضيقة التي تصنفها في خانة المعارضة المنبرية. وما يمكن ملاحظته بشأنها أنها معارضة غير منسجمة أو معارضة من أجل المعارضة فقط؛ فعلى الرغم من وجود أطياف سياسية مختلفة في المعارضة فإنه من الصعب تبين خط سياسي موحد يجمعها في نقد سياسة الأغلبية وطرح البدائل السياسية، بل نجد أنفسنا أمام معارضات سياسية تناقضاتها أكثر بكثير من تناقضات أحزاب الأغلبية. إن سمو مكانة الحزب في أعين المواطنين لا يتم على هذا النحو، وما هكذا يكون الاتصال الجماهيري الذي نظر إليه كارل دوتش وغيره، بل يكون عبر استعراض السياسات العمومية التي يتبناها الحزب، والمنجزات والمشاريع التي قام بتنفيذها عبر مواقعه الوزارية، ومقترحات القوانين التي تقدمت بها أطره داخل غرفتي البرلمان، وكذا بمدى حضوره الدبلوماسي في المحافل الدولية، والبدائل السياسية التي يتبناها، ومساهمته في إعداد السياسات العمومية وتقييمها... فالأحزاب المغربية تتبنى نفس الخطاب السياسي، والمتمثل في توجيه الاتهامات والتشكيك في نزاهة الغير والانتقاص من قدراته التدبيرية، مما يجعل المرء في حيرة من أمره ويزيد من شكوكه حول أحقية وقدرة هذا الكم الهائل من الأحزاب بتولي تدبير الشأن العام، فقلما توفرت هذه التنظيمات على خطابات سياسية علمية تشرح من خلالها الخطوط العريضة للسياسة العامة التي يتبناه الحزب في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحتى البيئية...، بل إن كل ما تملكه الأحزاب المغربية هو عبارة عن اتهامات وملاسنات كلامية ووعود انتخابية لا أقل ولا أكثر. إن الحكامة الجيدة تقتضي من الفاعل السياسي الذي يتوخى النجاح في تدبيره للشأن العام أن يكون على دراية تامة بما يجب القيام به في الظروف الاستثنائية قبل العادية، وهو الشيء الذي نجده حاضرا بقوة عند التنظيمات السياسية في التجارب المقارنة من خلال توفر هذه الأخيرة على برامج مختلفة ومتعددة، بغية معالجة بعض الأزمات أو المشكلات الآنية التي لا تستوجب التأجيل وتكون من النوع الذي يتطلب حلا سريعا. وبالرجوع إلى أبحاث كل من دافيد ايستون وكارل دوتش وغابرييل الموند، نجدهم خلصوا إلى أن الاتصال السياسي يعد من أهم الضروريات التي يجب أن يتبعها الحزب في عمله، وهو وسيلة الحزب الإيجابية التي من خلالها يبقى على تواصل مفتوح مع الجماهير الشعبية، من جهة، ومع أطره، من جهة ثانية، من خلال اجتماعاتهم الحزبية ومناقشة مختلف المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تحتاج إلى حلول وإبداء مقترحات مختلفة لمعالجة بعض المشاكل التي تواجه الحزب في تدبيره للشأن العام. هذا هو مفهوم التواصل السياسي الإيجابي، ويكون عبر فتح قنوات الحوار الحزبية، كجريدة الحزب وتنظيم ملتقيات علمية بمقراته وعقد تجمعات خطابية والقيام بدراسات وتأسيس لجان علمية للبحث... إلا أن ما يلاحظ على الأحزاب المغربية هو أنها سخرت وسائل الاتصال التي بحوزتها ك"أبواق" هجومية تشن من خلالها حروبا كلامية على باقي مكونات المشهد الحزبي، وهو شيء مؤسف للغاية. وحسب تعبير فلاديمير لينين، ف"إن الشتائم في السياسة تعبر عن مدى عجز صاحبها عن تقديم نقد علمي لخصومه السياسيين". من هنا نستشف أن الأحزاب المغربية غير قادرة على تأسيس خطاب سياسي حداثي مؤسساتي يواكب تحولات الظرفية السياسية الراهنة التي تقتضي العمل بجد وبحزم، بقدر ما تتبنى خطابا تقليديا مبنيا على توجيه الاتهام إلى الغير، وهو خطاب لا يتماشى ومتطلبات المرحلة ولا يرقى إلى تطلعات المواطنين. إن الأحزاب المغربية مطالبة، اليوم، بتغيير منهجها في الاتصال وإنتاج خطاب سياسي حداثي منظم تتواصل من خلاله مع كافة مكونات المشهد السياسي. وكلما كان هذا الخطاب السياسي خطابا مؤسساتيا، زادت ثقة الأفراد في الأحزاب وكانت أقرب إلى حشد رأي عام شعبي كبير يساندها في الاستحقاقات الانتخابية. على هذا النحو يجب أن يؤسس الخطاب السياسي بالمغرب. فما يهمنا نحن كمواطنين وبدرجة أولى هو أن تكون هذه الأحزاب بشتى تلاوينها السياسية في مستوى المكانة والثقة التي وضعها فيها المواطن المغربي، وذلك بغض النظر عن مواقعها في المسؤولية، سواء في الأغلبية أو المعارضة، وأن تكون مسؤولة بشكل جدي عن تدبير الشأن العام بما يخدم مصالح الشعب قاطبة من خلال تبني سياسات عمومية ناجعة وفعالة في مجالات الصحة، التعليم، السكن، الشغل... فالمواطن لا يهمه من يدبر الشأن العام بقدرما يهمه أن تدبر أموره بحكمة وتبصر، وأن تكون الخدمات الإدارية التي تقدمها إليه المرافق العمومية في المستوى المطلوب، فهو بعيد كل البعد عن تصفية الحسابات الشخصية الضيقة ما بين الفاعلين السياسيين.
عبد الغني السرار* *باحث في العلوم السياسية/كلية الحقوق الرباط