ظلت جملة الملك محمد الخامس ترن في أذن عبد الله إبراهيم حينما قال له فيما يشبه التهديد: «إما أن تقبل تشكيل الحكومة، وإما أن أغادر نهائيا نحو مكة أو المدينة لأمكث هناك مبتعدا إلى أن يقبض الله روحي». لذلك سيقبل هذا الوطني الكبير المهمة، لكن بشروطه الخاصة، ومنها تحديدا حدود السلط التي يجب أن تتوفر له، وأسماء الوزراء الذين سيشتغلون إلى جانبه. لقد لعب عدد من أساتذة عبد الله إبراهيم دورا مهما في قبول المسؤولية. وكان رأي أمير الثورة الريفية، محمد بن عبد الكريم الخطابي، حاسما. كما ساهم عدد من أقطاب القوى الحية في المجتمع المغربي آنذاك، في قبول الفكرة. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي سيرفض فيها عبد الله إبراهيم الاستوزار، إذ سبق له أن عبر عن نفس الموقف بخصوص حكومتي البكاي، الأولى والثانية، وحكومة بلافريج. لذلك هناك من يذهب إلى أن الراحل عبد الله إبراهيم، الذي أنهى حياته زاهدا في أمور السياسة، لم يكن متحمسا لتولي مسؤولية رئاسة الوزراء، غير أن الفترة كانت تتطلب شخصية من عيار ذلك الرجل الزاهد، الذي وضع أسس تجربة فريدة في التناوب السياسي، قبل أن يصبح المصطلح واسع التداول. وبالرغم من كل شيء، فقد حرص على أن يكون فريقه الحكومي منسجما بالقدر الذي يبيحه الموقف، لولا أن إرهاصات الانشقاق الذي طال حزب الاستقلال ألقت بظلالها القاتمة على آفاق العمل الحكومي. في الرابع والعشرين من سنة 1958 سيترأس الملك محمد الخامس بالقصر الملكي مراسيم تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم، التي لم تعمر غير سنة وخمسة أشهر قبل أن تتم إقالتها يوم الخميس 19 ماي 1960 . لكن قبل هذا الموعد، كانت أزمة حكومة بلافريج قد وضعت البلاد الخارجة توا من محنة الحماية على المحك. لذلك سعى محمد الخامس إلى إيجاد حل سريع ونهائي. لقد حاول محمد الخامس أن يعجل بحل الأزمة الوزارية حينما استدعى الزعيم الاستقلالي علال الفاسي ليكلفه بتشكيل حكومة بديلة لحكومة بلا فريج. وفي الوقت الذي راح علال الفاسي يعد لائحة وزرائه، تحرك بعض الاستقلاليين ليقولوا للملك ما مفاده أن «حكومة علال لا يوافق عليها كل الاستقلاليين». لم يستسغ علال الفاسي هذا الأمر، هو الذي كان يعد العدة لتولي رئاسة الحكومة. لذلك سيختار الاستقرار في طنجة، فيما يشبه المنفى الاختياري. فعهد محمد الخامس إلى شيخ الإسلام بمهمة الاتصال بعبد الله إبراهيم والفقيه البصري والمحجوب بن الصديق. فيما تولى نفس المهمة كل من الفقيه عواد وعبد الرحمن بن عبد العالي لإقناع عبد الرحيم بوعبيد. ظل عبد الله إبراهيم متشبثا بضرورة بقاء عبد الرحيم بوعبيد وزيرا في حكومته، بالإضافة إلى المهدي بن بركة، الذي كان هو الآخر مرشحا لرئاستها، قبل أن تقترح عليه وزارة التعليم العمومي. غير أن الأمير مولاي الحسن رفض أن يتولى أستاذه في الرياضيات هذه المهمة فتم إسنادها في آخر ساعة إلى عبد الكريم بن جلون، الذي كان يتولى وزارة العدل في حكومتي مبارك البكاي الأولى والثانية، وظل في نفس المنصب في حكومة بلافريج. إلا أنه رفض البقاء في وزارة العدل مع حكومة عبد الله إبراهيم لسبب رئيسي هو أنه اعتبر أن تعلقه بقيم حقوق الإنسان ودولة المؤسسات وفصل السلطات سيجعله في مواجهة مع إدريس المحمدي العائد إلى وزارة الداخلية. كما رفض عبد الرحمن اليوسفي هو الآخر حقيبة وزارة العدل، ليتم إسنادها إلى الحاج امحمد باحنيني مع احتفاظه بمنصب أمين عام الحكومة. من جهة أخرى، كان عبد الله الشفشاوني، كاتب الدولة في المالية، يستعد ليحل محل امحمد الدويري في وزارة الأشغال العمومية، لكنه أصيب بسكتة قلبية فتوفي، فأسندت الوزارة إلى عبد الرحمن بن عبد العالي، الذي كان سيتكلف بوزارة الأنباء والسياحة، لكن وفاة عبد الله الشفشاوني فرضت عليه تولي وزارة الأشغال العمومية. في ظل هذه الأجواء تم تنصيب الحكومة، التي ترأسها في النهاية عبد الله إبراهيم، خصوصا أن ثلاثة من زعماء الجناح اليساري في حزب الاستقلال كانوا مرشحين لتولي رئاستها. فإلى جانب عبد الله إبراهيم، كان عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة مرشحين لهذا المنصب. لكن الأمير مولاي الحسن اتفق مع المحجوب بن الصديق على التعجيل بطرح اسم عبد الله إبراهيم كرئيس للحكومة، وهذا ما حصل في النهاية. كانت أولى الخطوات التي سارت عليها حكومة عبد الله إبراهيم هي إصلاح حال الاقتصاد الوطني المتضرر من كل سنوات الحماية. لذلك سيتخذ عبد الرحيم بوعبيد، الذي أصبح نائبا لرئيس الحكومة ووزيرا للاقتصاد والمالية، جملة من القرارات التي اعتبرت شجاعة في حينها، ومنها الإعلان عن فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي. كما سيتحول البنك المخزني إلى بنك المغرب. وسيتم إنشاء صندوق الإيداع والتدبير، والبنك المغربي للتجارة الخارجية، والبنك الوطني للإنماء الاقتصادي، والمكتب الوطني للري، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومكتب الأبحاث والمساهمات الصناعية. كما وقع الاتفاق مع الإيطاليين على بناء مصنع تكرير البترول «لاسمير»، وغير ذلك من القرارات التي مهدت للإعلان عن إجراءات هدفها التحرير الاقتصادي لبلادنا. وهي الإجراءات التي ستعرف بقرارات 22 أكتوبر1959. وقد تزامنت هذه القرارات مع صدور ظهير شريف أعلن عن تأسيس الدرهم كعملة وطنية غير قابلة للتحويل. وقد قال عبد الرحيم بوعبيد عن قرارات 22 اكتوبر1959 إن «عهد الاستقلال يتطلب منا أن نتحرر من التبعية، وألا ننساق وراء عجلة نظام كانت قراراته المهتمة باقتصادنا يتم اتخاذها خارج المغرب، ودونما مراعاة لظروف المغرب النوعية. ولا يمكن لأي تعاون دولي صحيح أن يزدهر ويكتسي مدلوله الحقيقي إلا إذا كان كل من يساهم فيه يبذل جهوده بوسائله الخاصة قبل كل شيء. وهذا شرط أساسي لقيام علاقات الاحترام المتبادل بين الدول المستقلة. لهذا نحن الآن في سياق سياسة اقتصادية ونقدية مستقلة». كانت هذه واحدة من الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها حكومة عبد الله إبراهيم في مستهل عملها. لكن يبدو أن ذلك أغضب بعض النافذين في الدولة، الذين رأوا أن أفكار عبد الله إبراهيم ووزيره في الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد يسارية، وفي حاجة لمن يوقفها عند حدها لكي لا يلتف حولها الشعب المغربي ويؤمن بها.