هل تولت أيد خفية العبث بالبطائق الانتخابية التي قيل إن أصحابها تسلموها، بينما هي راحت ضحية تقنية جديدة للغش الانتخابي انتهت عملية التسجيل في اللوائح الانتخابية التي جرت في إطار المراجعة الاستثنائية لهذه اللوائح، وفي ظل إجراءات قانونية جديدة تنطوي بشكل جلي على طابع إيجابي، وتهم اللوائح الانتخابية، ولعل أهمها هي: - التسجيل في اللوائح الانتخابية يتعين أن يجري في لوائح الجماعة التي يقيم فيها الناخب، ولم يعد هناك مجال للقيد في اللوائح الانتخابية الخاصة بالجماعة التابع لها مكان ولادة طالب التقييد كما كان في الماضي. هذا الإجراء الذي يوحد معيار التسجيل، يسمح نوعا ما بالحد من ظاهرة الإنزال بواسطة تسجيل الناخبين في دوائر لا يقطنون بها بإيعاز من مرشحين محتملين، ويوفر إمكان إجراء الحملة الانتخابية التي تهم دائرة انتخابية ما مع الناخبين المسجلين في تلك الدائرة، حتى لا يجد المرشح حسن النية نفسه وهو يتواصل مع ناخبي دوائر أخرى في الإطار الجغرافي لدائرته. - اعتماد البطاقة الوطنية، وبصورة استثنائية الدفتر العائلي، في التسجيل. وبذلك يثبت بجانب المعلومات عن طالب التقييد، رقم بطاقته الانتخابية أو على الأقل رقم دفتره العائلي، في المطبوع الخاص بطلب التقييد. بينما كان المعمول به سابقاً هو تقديم البطاقة الوطنية، أو أية وثيقة رسمية أخرى تحمل صورة طالب التقييد، أو إحضار ناخبين كشاهدين حتى ولو لم يكونا متوفرين على البطاقة الوطنية. كما أن الناخب أصبح مطالباً عند ولوج مكتب التصويت بالإدلاء ببطاقة التعريف الوطنية أو دفتره العائلي، ولا تقبل منه وثائق التعريف الرسمية الأخرى. هذا الإجراء يمكن أن يساهم في الحد من ظاهرة التسجيل المتكرر لنفس الناخب، وظاهرة تصويت شخص مكان شخص آخر. - التثبيت القانوني لحق الأحزاب السياسية في أن تحصل، بطلب منها، على مستخرج من اللائحة الانتخابية العامة لناخبي الدائرة الانتخابية أو الجماعة. وتحدد بمرسوم يصدر باقتراح من وزير الداخلية كيفية وشروط تسليم مستخرج اللائحة الانتخابية. هذا الإجراء يفتح للأحزاب السياسية مجالاً أوسع لمراقبة ورصد الاختلالات والعيوب التي تتضمنها اللوائح الانتخابية، وتحريرها من «الشوائب»، بالرغم من أن الأحزاب طبعاً لا تملك نفس وسائل الإدارة لإنجاز تلك المهمة. إن الإجراءات المشار إليها قد كانت موضوع مطالب رفعتها الأحزاب الديمقراطية وخاصة من اليسار المعارض إلى المسؤولين الحكوميين، وطرحتها في قبة البرلمان، إلا أن تلك الأحزاب كانت تأمل أن يمضي إصلاح النظام الانتخابي إلى مدى أبعد، وذلك على الخصوص عبر إنجاز خطوتين أساسيتين وحاسمتين: الأولى هي وضع لوائح انتخابية جديدة، عوض تصحيح ومراجعة نفس اللوائح القائمة. وكان يُرد دائماً على هذا المطلب بأن الإقبال على التسجيل قد يكون ضعيفاً، ونجد أنفسنا في النهاية أمام لوائح انتخابية تضم عدداً من الناخبين أقل مما هو مسجل في اللوائح الحالية. ولمواجهة هذه الفرضية، يمكن اعتماد مبدأ التسجيل التلقائي للناخبين، بالاستناد إلى لوائح المواطنين الحاصلين على البطاقة الوطنية والمتوفرة فيهم شروط التسجيل، والذين يزيد عددهم عما هو مسجل حتى الآن في اللوائح الانتخابية. فمن المعلوم مثلاً أن إسقاطات المندوبية السامية للتخطيط كانت تحدد عدد البالغين سن التصويت برسم سنة 2007 في 9‚19 مليون نسمة. والثانية هي فرض إجبارية توفر طالب التسجيل في اللوائح الانتخابية على بطاقة التعريف الوطنية، واعتبار هذه البطاقة هي الوسيلة الوحيدة لإثبات هوية طالبي التسجيل والمصوتين، وهذا يقتضي طبعا تعميم البطاقة الوطنية. إن هذه الأخيرة تمثل وسيلة عملية سهلة وميسرة لضبط الخروقات والتأكد من نظامية التسجيل في اللوائح الانتخابية. بدون هذين الإجراءين المشار إليهما ستظل مشكلة اللوائح الانتخابية مطروحة في المغرب، وستمثل أداة في يد مفسدي الانتخابات لارتكاب قدر هام من الخروقات، ولقد كان الاقتراع العام ل7 شتنبر 2007 مناسبة أيضاً لارتكاب العديد منها. ومع ذلك فإن الوجه الأظهر للاختلال الذي عرفه ذلك الاقتراع، والذي لم يستوف حقه من البحث والدراسة والتتبع، هو غموض مصير الملايين من البطائق الانتخابية. لقد توقف الباحثون والفاعلون السياسيون عند ظاهرة العزوف الذي عرفته الانتخابات التشريعية لسابع شتنبر 2007، ولكن الأضواء لم تُسلط بما فيه الكفاية على مفارقة شهدتها تلك الانتخابات لم يسبق لها مثيل في المغرب. ذلك أن المسجلين رسمياً في اللوائح الانتخابية النهائية بلغوا 15.462.362 ناخباً، شارك منهم في التصويت 5.721.074 ناخباً، إلا أن الذين سحبوا بطائقهم الانتخابية سيكونون قد بلغوا بحلول يوم الاقتراع حسب تصريحات وزارة الداخلية 75 في المائة (أي ما يقابل 11.596.725 ناخباً)، منهم 72 في المائة سحبوا فعليا بطاقاتهم في الأيام التي سبقت يوم الاقتراع (أي 11.132.900 ناخباً). وبمعنى آخر، كيف يكون غالبية المسجلين في اللوائح الانتخابية قد سحبوا بطائقهم لكن معظمهم أحجم عن التصويت بعد ذلك، أي يفترض أن قرابة ستة ملايين بطاقة انتخابية سُحبت، لكن بدون أن تؤدي الوظيفة التي من أجلها كان السحب وهي التصويت. كيف يتحمل كل هذا الجيش العرمرم من الناخبين مشاق وعناء الذهاب إلى مقرات توزيع البطائق، واستلام بطائقه، ثم يقرر بعد ذلك ألا يستعملها؟ إن في الأمر بلا شك قدراً كبيراً من الغرابة والشذوذ، ولا يستطيع العقل هكذا أن يستوعب ببساطة هذا التناقض الكبير في تصرف الناخب المغربي الذي لم يعودنا على ركوب طريق الرعونة والتقلب المزاجي إلى هذا الحد، لأن المسألة هنا لا تتعلق بعشرات الآلاف أو حتى مئات الآلاف من الناخبين، بل بما يقارب ستة ملاين ناخب، أي بأغلبية الناخبين الذين تسلموا بطائق الناخبين، فلكي يكون هؤلاء قد غيروا رأيهم لابد أن يكون قد حدث في الحيز الزمني الذي يفصلهم عن موعد التصويت حدث بحجم زلزال مدمر، فما هو هذا الحدث يا ترى؟ إن التقرير الذي تقدم به وزير الداخلية يوم السبت 8 شتنبر 2007 والذي رسم فيه ملامح الجو العام الذي جرت فيه انتخابات 7 شتنبر وقدم نتائجها، قد جاء خالياً من الإشارة إلى هذا الخلل الذي يفقأ العين، فما هو السبب الذي جعله يتجاهل المعطى المفارق الذي يتمثل في «حرص» الناخبين على استلام بطائقهم، و»حرصهم» أيضاً على عدم استعمالها!؟ أما بعد ذلك، فقد عثرت الداخلية على منطق لتفسير المعطى المشار إليه، ولخصته في كون الناخبين كانوا في الأصل عازمين على التصويت، ولذلك سحبوا بطائقهم، لكن «العرض» الحزبي المقدم إليهم خلال الحملة الانتخابية لم «يقنعهم» وجعلهم يستنكفون عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع يوم 7 شتنبر! وهو نفس المنطق الذي تبنته جمعية 2007 دابا، فرئيسها يعتبر أن «الحملات الانتخابية للأحزاب لم تنجح في إقناع الناخبين بالذهاب للتصويت بكثافة». إذن فالمشكلة كلها حسب هذا المنطق هي مشكلة حملة انتخابية «غير مقنعة» لا أقل ولا أكثر. إن الحملة الانتخابية كانت على العموم باردة، ولم يكن بمقدورها وحدها أن تلعب دوراً تحفيزياً لدفع الناخبين إلى التصويت، لكن أن تصل إلى درجة ثنيهم عن ذلك بعد أن يكونوا قد عقدوا العزم على التصويت فهذا يعتبر من قبيل العجب العجاب، وذلك للأسباب التالية على الأقل: - الحملة الانتخابية بالنسبة إلى الناخب المغربي ليست مؤثرة في سلوكه واختياره الانتخابي بهذا الشكل الحاسم والاستراتيجي، فهناك عوامل متداخلة ومركبة أخرى تفعل فعلها بدرجة أكبر في صياغة هذا السلوك والاختيار، كما أكدت ذلك العديد من الدراسات. - الحملة الانتخابية التي عرفتها انتخابات 2007، تشبهنا وتشبه أصحابها وتشبه المرحلة السياسية برمتها، ولم تكن أقل درامية من الواقع العام لأحزابنا ولحياتنا السياسية، وهذا الواقع لم يمنع أكثر من 11 مليونا ونصف المليون من السعي إلى استلام بطائقهم، فهل كانوا ينتظرون حملة انتخابية مخالفة للواقع ومتعالية عليه وغريبة عنه؟ - الحملة الانتخابية يمكن أن تؤثر على جزء من الناخبين الذين استلموا بطائقهم لكنها لا يعقل أن تؤثر على أغلبية هؤلاء دفعة واحدة، وتحملهم بهذا الشكل الآلي والمباشر على رفض استخدام البطائق الانتخابية التي تسلموها. - الحملة يمكن أن تؤثر على الذين قرروا عدم التصويت فتدفعهم إلى مراجعة موقفهم، أما الذين قرروا التصويت قبل انطلاق الحملة وبذلوا الجهد المطلوب للحصول على بطائقهم وحصلوا عليها، فلربما هناك عوامل «قارة» دفعتهم إلى اتخاذ قرار التصويت هي أكبر من مجرد حملة انتخابية. وبالتالي، يجب أن نبحث عن أسباب أخرى لتفسير هذا الذي وقع في انتخابات 7 شتنبر.. ستة ملايين بطاقة انتخابية «تاهت» في منتصف الطريق، ولم تستعمل في الغاية التي أُعدت لها وعلى الوجه المخصصة له.. هل سُلمت البطائق الانتخابية فعلاً لجميع أولئك الذين صنفتهم أرقام وزارة الداخلية ضمن خانة الذين تسلموا بطائقهم، أم إنها وُزعت بطريقة عشوائية، وُوضعت في صناديق الرسائل، أو سُلمت للأقارب والمعارف لإيصالها أو كُلف كل مقدم حومة أو دوار بتدبر أمر البطائق الانتخابية بطريقته الخاصة، فقام بتسليم بعضها لأصحابها في بيوتهم واحتفظ بالباقي لديه، لكي يتسنى للسلطة المحلية في كل منطقة أن تقدم أرقاما «مشرفة» عن حجم الإقبال على البطائق الانتخابية لديها، بينما الواقع شيء آخر، وبذلك تكون السلطات المحلية قد خاضت ربما حرباً للأرقام بينها أدت إلى حجب حقيقة مآل البطاقات.. هل تولت أيد خفية العبث بالبطائق الانتخابية التي قيل إن أصحابها تسلموها، بينما هي راحت ضحية تقنية جديدة للغش الانتخابي، إذ من المعلوم أن بعض لوائح المرشحين كان من مصلحتها خفض نسبة المصوتين لتضمن فوزها، فعوض شراء تصويت الناخب على مرشح معين، أصبح المطلوب أحيانا هو شراء البطاقة الانتخابية لا غير لضمان عدم استعمالها.. كم كان حجم مثل هذه العمليات، وماذا كان مستوى التواطؤ الذي سهلها؟ إن السلطة المحلية مثلاً قد تملك سلاحا خطيراً للتأثير في النتائج لصالح لوائح معينة، وهي الاحتفاظ فقط بالبطائق والزعم بأن أصحابها باشروا حيازتها. وهناك وجه للاشتباه، ويتجلى في العدد الضخم من الناخبين الذين قرروا سحب بطائقهم من مراكز التصويت يوم الاقتراع، لكنهم واجهوا صعوبات عملية جمة في تحقيق مرادهم بمختلف المناطق. فما هي حدود تأثير ذلك على نتائج الانتخابات؟ إن البرلمان، كان يجب عليه ربما أن ينشئ لجنة لتقصي الحقائق بخصوص مصير 6 ملايين بطاقة انتخابية، إلا أن عدداً كبيرا من المتواجدين به كانوا هم أنفسهم مستفيدين من ضعف نسبة التصويت. ومن المعلوم أن تلك النسبة كلما ضعفت أصبح بإمكان وكيل لائحة– وخاصة من اليمين المحافظ- أن يضمن الفوز بمقعد انتخابي اعتماداً على تصويت عدد محدود من الناخبين الذين يسهل إرشاؤهم أو الاعتماد على العلاقة الشخصية والخدماتية المباشرة معهم للفوز. وفي انتظار بحث نزيه ومستقل يتولى استجلاء ملابسات مصير ملايين البطاقات التي قيل إن أصحابها تسلموها، والتي قد تكون خضعت لعملية تسليم وهمي، أو توزيع فوضوي، أو «تشتيت»، أو تسريب لجهة أو جهات معينة، أو تعطيل أو إخفاء مقصودين لخدمة تلك الجهات؛ يحق لنا أن نتساءل ما هي الضمانات لكي لا نجد أنفسنا في انتخابات 2009 أمام نفس الظاهرة ؟ وما هي الإجراءات التي تكون قد اتُخذت لتفادي ما وقع في 2007؟