كان كريم البخاري، ابن احمد البخاري أشهر عميل استخبارات في المغرب، يستعد لدراسة السينما في فرنسا، فوجد نفسه طالبا في شعبة البيولوجيا والجيولوجيا بالدار البيضاء، لم يرقه ذلك فقرر أن يصبح طبيبا.. هكذا ارتدى الوزرة البيضاء وعلق سماعة الطبيب لمدة سبع سنوات، وعندما حان موعد تقديم أطروحته لنيل الدكتوراه، قفز إلى الصحافة ل«معالجة» مواضيع الثقافة والسياسة والمجتمع، ولا يزال، إلى الآن، طبيبا مع وقف التنفيذ. على كرسي اعتراف «المساء»، يحكي كريم البخاري عن علاقته بعلي يعتة، القيادي الشيوعي ومدير جريدة «البيان» التي كانت أول جريدة يشتغل فيها، وكيف كان علي يعتة يؤدي رواتب الصحافيين ب«الكانزا» ودون عقدة عمل، دون أن يغفل الحديث عن رفض والده احمد البخاري لعمله الجديد ونعته الصحافة بكونها مهنة تافهة. ويقف كريم البخاري، أيضا، عند أقوى اللحظات في تجربتي «تيل كيل» و«لوجورنال»، وكيف اختلف مع بنشمسي في نشر ملف عن الأمير مولاي هشام؛ كما يتذكر علاقته بادريس البصري الذي كان يسمي البخاري «طاراس بولبا»، وحواره الذي لم ينشر مع هشام المنظري، ومفاوضاته مع عدد من رجالات الدولة؛ ويعترف، على كرسي البوح مع «المساء»، بأنه تدخل في كتابة مذكرات والده، فشطب على أمور وأعاد ترتيب أخرى، كما يستعيد المضايقات والتحرشات التي تعرض لها هو ووالدته.
- اعتبرتَ رفض علي يعتة نشرَ بيان لمعتقلي منظمة «إلى الأمام»، في بداية التسعينيات، نوعا من الواقعية السياسية، مع أنه كان يمكن التعامل مع هذا البيان كمادة خبرية؛ أية واقعية سياسية هاته؟ كنت حينها شابا، ولا أخفيك أنني أصبت بصدمة كبيرة، فجريدة «البيان» بالنسبة إلي كانت جريدة معارضة وتحمل على عاتقها مسؤولية الدفاع عن المعتقلين السياسيين، لذلك انتابتني الدهشة من موقف علي يعتة ذاك، لكنني بدأت مع مرور الوقت أفهم شيئا فشيئا بعض المواقف التي كان يتخذها علي يعتة (مدير نشر «البيان»)، وكانت تبدو مختلفة عن مواقف ابنه نادر يعتة (رئيس تحرير «البيان») وغيره من العاملين في الجريدة، لكنني أنظر إليها الآن ببعد نظر وأفسرها بما سميتُه «الواقعية السياسية». في سياق هذه الواقعية السياسية، كان هناك حديث في بداية التسعينيات عن إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية، وقد كان نادر يعتة ضد إفساح المجال للإسلاميين لتأسيس الأحزاب، وأذكر أن والده علي يعتة قال له يوما في خضم الحديث عن هذا الموضوع بالحرف: «il ne faut pas insulter l avenir» (لا يجب أن تلعن المستقبل). لقد كان علي يعتة يحرص على الإبقاء على شعرة معاوية مع مخالفيه الرأي، ومرة أعطاني كتابا إبداعيا للمحجوبي أحرضان وطلب مني أن أكتب مقالا عنه، فاستهجنت الأمر، وقصدت نادر يعتة أطلعه على ما طلبه مني السي عْلي، فوافقني نادر الرأي وشاطرني موقفي، وهكذا بدأت أماطل علي يعتة حتى أحس بتملصي من الكتابة عن أحرضان، فطلب مني أن أعيد إليه الكتاب لكنني كنت قد أضعته في غفلة مني. - في هذه المرحلة، كانت «البيان» تصل إلى القارئ ونصف صفحاتها «ممسوح»؛ كيف عشت هذه التجربة؟ كانت المطبعة والجريدة تشتغلان بوسائل بدائية. في سنة 1993، كان صديقي المخرج حكيم نوري بصدد تصوير فيلمه السينمائي «عبّروا في صمت»، وكان بطل الفيلم -رشيد الوالي- يجسد دور صحافي في سنوات الرصاص، وكان بصدد التحقيق في موضوع شائك، وهو الموضوع الذي سيتعرض أثناء اشتغاله عليه للقمع والتضييق لثنيه عن المزيد من النبش فيه. وقد اتصل بي حكيم نوري لكي أتدخل لفائدته لدى إدارة «البيان» لتمكنه من تصوير بعض المشاهد الداخلية في مقر الجريدة، وهو الأمر الذي لم يمانع فيه علي يعتة، فاقترح عليّ حكيم نوري أن أشارك معه في تمثيل دور ثانوي. وقبيل بداية التصوير سألته عن نوع الملابس التي يرى أنه علي ارتداؤها حتى تكون ملائمة لفترة السبعينيات، فأجابني: «أجي كيفما انت ما تبدل والو»، (يضحك) لقد أومأ إلي بأنني وباقي العاملين في الجريدة من طراز قديم، شأننا شأن جريدتنا ومطبعتنا. - صادف اشتغالك في «البيان» اندلاع حرب الخليج التي اتخذ فيها حزب التقدم والاشتراكية موقفا سلبيا من نظام صدام حسين، وهو الموقف الذي كانت تعبر عنه «البيان» وكان ضد التيار الغالب في الشارع المغربي؛ كيف عشت هذا الوضع كصحافي؟ لقد كان لي نفس موقف الحزب من حرب الخليج، وسأعود لأقول إن العديد من مواقف علي يعتة، التي كانت تبدو غريبة وصادمة، اتضح أنها تتحلى بقدر كبير من الواقعية السياسية. صحيح أن موقف التقدم والاشتراكية من حرب الخليج كان مختلفا عن موقف الشارع المغربي وعن موقف حلفاء الحزب في «الكتلة»، لكن هذا الموقف كان هو نفسه موقف الحسن الثاني وإن لم يصرح به، ذلك أن الجميع كان بإمكانه استشعار ذلك. - هل وجدت نفسك في مرحلة ما قريبا من حزب التقدم والاشتراكية؟ عندما التحقت بالجريدة واقتربت من الحزب، كنت ممتلئا بأحلام النجاح، وأحلام الانتماء الإيديولوجي، وأحلام الطبقة العاملة وتغيير العالم؛ لكن بعد الاحتكاك بأرض الواقع، بعيدا عن الشعارات، تبخرت كل تلك الأحلام، ولا أخفيك أن ذلك شكل لي صدمة حقيقية. لكن، وحتى لا أكون عدميا، فقد تعرفت إلى العديد من المناضلين الشرفاء داخل الحزب، والذين أفتخر بالصداقة التي جمعتني بهم. - ما سبب الصدمة التي تعرضت لها؟ السبب هو تلك «الواقعية السياسية» التي تفرض عليك تقديم تنازلات واتخاذ مواقف موالية للنظام. أنا، بخلاف مناضلي التقدم والاشتراكية، لم أكن قادما من العمل النقابي أو الجمعوي، بل كنت قادما من تجربة مختلفة أساسها عشقي للثقافة والفن. طبعا، أنا كنت، ولا أزال، أحمل بعض الأفكار الماركسية، فماركس وهيجل وتروتسكي هم، بالنسبة إلي، أشخاص مهمون جدا في التاريخ؛ صحيح أن أفكارهم اليوم تبدو متجاوزة، لكن هذا لا ينفي أنهم، وبالأخص ماركس، قدّموا تحليلا واقعيا سياسيا واجتماعيا لطريقة تطور المجتمعات والتاريخ، وأنا أؤمن بأن عددا من الأفكار التي قدموها لا زالت صالحة إلى الآن. - عندما عدت ثانية إلى الاشتغال في «البيان»؛ هل استطعت أن توازن بين دراسة الطب والعمل في الصحافة؟ بالضرورة نعم، فقد أصبحت شبه متعاون وشبه محرر، حيث كنت أقضي الفترة الصباحية في المستشفى الذي كنت أقضي فيه مرحلة تدريب، وفي المساء كنت ألتحق بالجريدة، ومع ذلك كنت أتقاضى راتبا كاملا مثل أي صحفي يشتغل اليوم كله، والفضل في ذلك يعود إلى نادر يعتة، الذي ساندني لأنه كان مؤمنا بأن أدائي الصحافي متميز.