الاستقرار السياسي الذي تميز به إقليم كردستان عن الحياة السياسية في العراق، بدأ يتعرض لهزات لا يستهان بها، نتيجة تزايد نفوذ قوى المعارضة البرلمانية والاختلافات في وجهات النظر بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، بعد مرحلة من تحالف استراتيجي لم يعد متماسكا كما كان خلال دورتين انتخابيتين سابقتين، فضلا عن الخلاف الحاد حول تعديل دستور الإقليم بما يضمن إعادة ترشح مسعود بارزاني لولاية ثالثة، حيث ينص الدستور على تحديد ولاية الإقليم بدورتين فقط، أسوة بدستور العراق الذي حدد ولاية رئيس الجمهورية في دورتين وأطلق ولاية رئيس الوزراء. والفرق بين الحراك على الجانبين هو أن الكتل السياسية العراقية تحاول تجميد حق دستوري يسمح لرئيس الوزراء بولاية ثالثة، بينما تحاول الكتل السياسية الكردستانية حرمان رئيس الإقليم من الحصول على استثناء. ولا تقل القضية الكردية تعقيدا عن قضية المركز، إلا أنها قد تجد الحل في بغداد من خلال ترشيح مسعود بارزاني لمنصب رئيس الجمهورية مقابل تولي شخصية من الاتحاد الوطني الكردستاني أو كتلة التغيير لرئاسة الإقليم، وهو ما يعتبر خيارا مرا لفريق بارزاني، لأنه يؤدي إلى إضعاف دور الحزب الديمقراطي الكردستاني في الإقليم وظهور معادلات لمصلحة القوى الأخرى، ولاسيما أن رئاسة الجمهورية لا تشكل إلا محطة ملء فراغ قد يمتد إلى دورتين متتاليتين لبارزاني، من المرجح أن تشهد حالات شد، وربما تصادم مع رئيس وزراء سيحاول كبح تطلعات بارزاني، علما بأن وضع الحزب الديمقراطي الكردستاني في برلمان كردستان يعتبر حرجا مقابل أي تكتل من قبل القوى الأخرى التي يمكنها تحقيق الأغلبية لمجابهة أهدافه. أما على المستوى العام، فقد عكست انتخابات مجالس المحافظات، التي لم تتكامل نتائجها إلى حد الآن، صورة عن الصعوبات التي ستواجه التحالفات بعد الانتخابات البرلمانية بداية عام 2014، حيث تشير الدلائل إلى تنافس حاد يستهدف التأثير على قوة تماسك كتلة رئيس الوزراء نوري المالكي، ولا يستبعد تحالف كتل الحكيم والصدر وجزء أساسي من «العراقية» لمواجهة كتلة المالكي، ولم يعد الكرد في وضع متماسك كما كانوا في الجولات السابقة، وكان التعويل على إضعاف دور الاتحاد الوطني الكردستاني نتيجة الظروف الصحية لزعيمه الرئيس طالباني تعويلا في غير محله، بعد أن أثبتت قيادته قدرة غير عادية على التماسك والانضباط رغم كل الصعوبات. وبعد عشرة أعوام من الاضطراب السياسي، باتت الكتل السياسية مستعدة للانسلاخ «النسبي» عن الأطر القومية والطائفية، والتلاقي على خطوط المصالح الحزبية. وهذا ينطبق على كل من يجد مجالا لتحقيق موقع متقدم لكيانه السياسي، بما لا يعرض شعبيته القومية والطائفية لهزة عنيفة، وسيكون من الصعب الوصول إلى قاسم مشترك خارج نطاق المصالح الحزبية، الأقرب عمليا إلى التكون مقابل ضغوط خارجية صعبة على غرار ما حدث في الجولات السابقة. قبل ثمانية أعوام، كانت العلاقة بين تياري الحكيم والصدر معقدة للغاية، أما الآن فإنهما قريبان إلى مبدأ التحالف النشط، وتمكنت كتلة المالكي من استقطاب مجموعات من الكتلة العراقية الممثل فيها «العرب السنة» بكثافة. وهكذا تتحول الساحة السياسية إلى ما يمكن وصفه بساحة مناورات لقوات مدرعة سيالة، تتداخل فيها التشكيلات وتتغير مواقعها بين ساعة وأخرى. وإن نتائج الانتخابات البرلمانية المنتظرة ستحدث متغيرات مهمة على مستوى العلاقات السياسية والوطنية، وسيكون دور التدخلات الخارجية الإيرانية والتركية والعربية والأمريكية أكثر صعوبة، ومن المستبعد استجابة السياسيين للمطالب الخارجية بالدرجة التي كانوا عليها في السابق، فقدرتهم باتت أقوى ومصالحهم تزايد حضورها لاعتبارات حاسمة تتعلق بوجودهم، فعشرة أعوام كانت كافية لبدء مرحلة علاقات سياسية مختلفة. أما الحراك السياسي في مناطق شمال بغداد وغربها فقد ضعف لأسباب كثيرة، منها ما يعود إلى ضعف الدور القيادي للقوى المتصدية، وتداخل مصالح السياسيين، والتمسك بمطالب وصفت سقوفها من قبل أكثر من طرف بالمرتفعة، ولم يعد عمليا البقاء عليها. وفي أجواء كهذه، تأقلم العراقيون على الخروقات الأمنية، فلا منفذوها يقدرون على تغيير المعادلات، ولا الطرف الرسمي يملك حلولا سحرية لمنع وقوعها، غير أن كل المعطيات تدل على أن الاقتراب من حالة الهدوء يتواصل ببطء، وكل المشاريع التي تهدف إلى تفكيك العراق وتفجيره في طريقها إلى خانة الفشل الأكيد، خارجية كانت أو داخلية.