تحدثنا في المقال السابق «أرقام مذهلة في ميزان الصراع السياسي ما بين بنكيران وشباط» عن الشرعية الانتخابية الشعبية المعبر عنها من طرف الناخبات و الناخبين المغاربة، في انتخابات نونبر 2011، تجاه حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية وعن صعوبات «شباط» في قلعته الانتخابية بمدينة فاس. هذا المقال الثاني سيتوقف عند تحليل شرعية أخرى ذات أهمية بالغة، تلك المتعلقة بانتخاب القائدين شباط وبنكيران من طرف القواعد والأطر الحزبية، كما سيتم التطرق لنتائج الانتخابات الجزئية، وخاصة تلك المتعلقة ب«دائرة الموت» التي ستحدد نهائيا التوجه الجديد لحميد شباط. انعقد مؤتمر حزب العدالة والتنمية في يوليوز 2012؛ وكان، حسب كل الملاحظين، من أقوى المؤتمرات الحزبية على الإطلاق، ومن خلاله استطاع بنكيران تأكيد قيادته للحزب وفوزه بولاية ثانية من خلال انتخابات ساهم فيها كل أعضاء المؤتمر الذين حدد عددهم في 3300 مؤتمر. حاز بنكيران على أصوات 2240 مؤتمرا ومؤتمرة بمعدل 85 في المائة، في الوقت الذي حصل فيه منافسه سعد الدين العثماني على 346 صوتا. بطبيعة الحال، كان لنجاح استراتيجية بنكيران تجاه حركة 20 فبراير وحصول حزبه على المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية ودفاعه عن الملكية والإصلاح في ظل الاستقرار دور مهم في النتيجة الساحقة. لكن رغم كل ذلك فشعبية بنكيران داخل حزب العدالة والتنمية تبقى قوية جدا، ويجب أن ينتبه إليها كل من يحاول إضعاف شخص بنكيران والبحث عن بديل له داخل الحزب ليقود الحكومة. لنأتِ الآن إلى حزب الاستقلال الذي التأم مؤتمره في شتنبر 2012. هذا المؤتمر الذي أتى على إثر الحملة القوية التي قادها شباط ضد عباس الفاسي، الأمين العام للحزب والوزير الأول السابق، نظرا إلى النتائج الانتخابية الضعيفة وطريقة التفاوض حول المقاعد الوزارية في الحكومة الحالية، من جهة، وإلى أن هذا الأخير كان يخطط لتفويت الحزب إلى أحد أقربائه، من جهة أخرى. عاش حزب الاستقلال صراعا قويا ومثيرا، قبل وخلال وبعد المؤتمر، بين حميد شباط وعبد الواحد الفاسي، ابن الزعيم التاريخي لحزب الاستقلال. لم يتم الحسم في مآل منصب الأمين العام للحزب خلال أيام المؤتمر، بل بعد أسابيع من مفاوضات وانتخابات مازالت تثير القيل والقال، تمكن من خلالها شباط من الحصول على أصوات 478 عضوا من أعضاء المجلس الوطني للحزب بفارق 20 صوتا على عبد الواحد الفاسي الحاصل على 458 صوتا. الخلاصة هي أن بنكيران قوى موقعه التفاوضي الشخصي داخل حزبه وخارجه بأغلبية ساحقة، وشباط عليه كل يوم تأكيد أحقيته في قيادة سفينة حزب الاستقلال والبرهنة على أن المواقف التي يعبر عنها تمثل الاتجاه العام داخل أعرق حزب في المغرب. هذه مفارقة مذهلة أخرى وبالأرقام الواضحة، بنكيران حصل على ثقة 85 من المائة من أعضاء حزبه وشباط على ثقة 51 في المائة من كوادر حزب الاستقلال!! إنني أتعامل مع الأرقام وأحلل مغزاها وأهميتها دون أن أتطرق للطريقة التي تم بها الحصول عليها. هذه الجزئيات المهمة تناولها عديدون بالتحليل، وأقصد ما قيل حول دخول أياد خفية على الخط في انتخاب هذا الزعيم السياسي أو ذاك. النتائج الانتخابية الضعيفة لحزب الاستقلال والوضع الحزبي الداخلي يجعلان شباط في موقع تفاوضي صعب وغير مريح، لذا نجده يستعمل الفكرة الشهيرة «أحسن طريقة للدفاع هي الهجوم». هذا ما هو حاصل اليوم، حيث إن شباط قرر لعب العديد من أوراقه في هذه المعركة ضد بنكيران لأنه متيقن بأن ما سيربحه أكثر مما سيخسره. لكن الصدمة الكبرى لشباط كانت على إثر نتائج الانتخابات الجزئية بدائرة إنزكان أيت ملول والتي نزل فيها شباط بكل ثقله لحسم نتيجتها والبرهنة من خلالها لأعضاء حزبه وللدولة ولكل الفاعلين السياسيين والملاحظين في الداخل والخارج عن قدرته على مزاحمة بنكيران وحزب العدالة والتنمية ومواجهته ندا لند. لكن قبل ذلك كانت صدمة الانتخابات الجزئية بمدينة طنجة وبدائرة جيلز المنارة في مراكش، التي استطاع حزب بنكيران عبرها تأكيد استمرار اتساع شعبيته داخل الكتلة الناخبة المغربية رغم كل المضايقات والمعارضات التي تواجهه داخل أغلبيته الحكومية ومن المعارضة ومن أطراف أخرى، ظاهرة وخفية، أطلق عليها بنكيران ألقابا أصبحت جزءا من القاموس السياسي الحزبي المغربي: «عفاريت وتماسيح وحياحة...». هكذا نجد أن حزب بنكيران استطاع الفوز مرة أخرى بأكثر من مقعد، أي بمقعدين من الأربعة المتبارى عليها في الانتخابات الجزئية لشهر أكتوبر 2012 في طنجة ب26934 صوتا، أي ما يفوق 53 في المائة من الأصوات المعبر عنها، أما الفائز الثالث من الحزب الدستوري المعارض فلم يحصل سوى على 12057 صوتا، أي 24 في المائة، فيما اكتفى الرابع من الأصالة والمعاصرة المعارض ب9309 أصوات، أي 18 في المائة. ستسألون: ومرشح حزب «شباط»؟ هنا يصلح مقطع من أغنية مغربية تقول «الصدمة كانت قوية... كانت قوية». لقد سقط مرشح «شباط»، لكن الصدمة كانت في النتيجة التي حصل عليها وهي 1239 صوتا، أي أكثر بقليل من 2 في المائة!! بهذه النتيجة، يعرف «شباط» أنه يحتاج إلى سنين عديدة لقلب الموازين الانتخابية في طنجة وفي غيرها المدن المغربية الكبرى، وخاصة معقله الانتخابي المدينة العلمية للمملكة، فاس. أما في دائرة كليز المنارة في مراكش، فكان الصراع قويا على مقعد واحد تم التباري عليه ما بين حزب بنكيران وحزب الأصالة والمعاصرة، وليس حزب الاستقلال الذي فضل عدم تقديم أي مرشح في تلك الانتخابات مخافة حصد نتيجة مماثلة لتلك المحصل عليها في طنجة. هكذا حصل مرشح بنكيران على 10452 صوتا، بمعدل 48 في المائة، ومرشحة الأصالة والمعاصرة على 9794 صوتا، بمعدل 45 في المائة. أما الأحزاب الثلاثة الأخرى المرشحة بنفس الدائرة فحصلت على أقل من 1000 صوت، أي بمعدلات 3 في المائة (619 صوتا لجبهة القوى الديمقراطية) و2 في المائة (446 صوتا للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) و1 في المائة (219 صوتا لحزب الإصلاح والتنمية) من أصوات الناخبين!! أعتقد أن من استنتاجات شباط حول هذه الانتخابات الجزئية بكل من طنجةومراكش هي، من جهة، ضرورة مواجهة حزب بنكيران وإضعافه بكل الطرق قبل دخول أية انتخابات أخرى، وأيضا الانتباه إلى قوة هذا الوافد الجديد، حزب الأصالة والمعاصرة، الذي طالما حاربه شباط بقوة والذي أصبح اليوم واقعا انتخابيا، خاصة أن لا أحد شكك في نتائج الانتخابات في الدائرتين سالفتي الذكر. كما يجب الانتباه إلى ظاهرة جديدة وأساسية هي أن الصراع على المقعد الانتخابي ينحصر في حزبين أو ثلاثة فيما الأحزاب الأخرى تحصل على الفتات. هذا ما وقع في طنجة حيث التنافس على المقاعد الثلاثة دار بين العدالة والتنمية والاتحاد الدستوري والأصالة والمعاصرة، بينما انحصر الصراع في مراكش بين حزبين هما العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، مثلما حصل في دائرة الموت حيث تنافس فقط العدالة والتنمية والاستقلال. هل هي بداية تشكل تنظيمات حزبية قوية وإنذار للأحزاب الصغرى بأن سبيلها الوحيد إلى تلافي الاندثار هو الانصهار في تكتلات حزبية كما وقع مؤخرا؟ سؤال يتطلب بحثا خاصا وتحليلا دقيقا لانتخابات 2011 والانتخابات الجزئية الأخيرة، خاصة نتائج حزب وطني وتاريخي من حجم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي حصل على أرقام مذهلة بمدن كبرى واستراتيجية، شمالا وجنوبا. تمعنوا معي في هذه الأرقام: بدائرة طنجة حصل الحزب الأول على 26934 صوتا، والاتحاد الاشتراكي على 599 صوتا؛ في دائرة كليز النخيل بمراكش لم تتعدَّ أصوات مرشح الاتحاد الاشتراكي 446، في حين فاز الحزب الأول ب10452 صوتا؛ ونفس الشيء سيقع في دوائر أخرى. إنها أرقام أكثر من مذهلة !! هذه المعطيات حاضرة في ذهن شباط: حزب بنكيران قوي جدا على المستوى الانتخابي الشعبي، شمال البلاد وجنوبها، حزب الاستقلال ضعيف جدا في المدينتين، وأخيرا ظهور مثير للأصالة والمعاصرة الذي حاز مقعدا بطنجة وصارع بقوة العدالة والتنمية بمراكش. متاعب شباط لا زالت مستمرة... ولا يمكنه الاستمرار في هذا الاتجاه، حيث لا يتوفر على أوراق للتفاوض داخل حزبه وخارجه... أخذا بعين الاعتبار هذا الإطار العام، قرر شباط النزول بثقله لقلب الموازين والتأكيد لقواعد حزبه وللرأي العام على قدرته على الصمود وتحقيق المعجزات. نظمت بعد محطتي طنجةومراكش... انتخابات جزئية خلال شهر دجنبر 2012 بدائرة إنزكان أيت ملول بجهة سوس ماسة درعة الأمازيغية كانت فرصة سانحة للظفر بالمقعد الانتخابي من طرف مرشح شباط، وهو في نفس الوقت رئيس بلدية إنزكان؛ لكن إرادة ناخبي وناخبات الجنوب كانت أقوى من حسابات شباط ومخططاته وأحلامه. لقد كانت هذه الدائرة امتحانا مباشرا لشباط وبنكيران اللذين نزلا بثقلهما وحضورهما الشخصي لإدارة المعركة الانتخابية، مصحوبين بكل القياديين، ومن ضمنهم وزراء الحزبين وقياديون بارزون. وحسب بعض المواقع الإلكترونية المحلية، فقد حضر إلى دائرة الموت أكثر من 80 مسؤولا وطنيا وجهويا ومحليا من الحزبين !! كانت، بالفعل، معركة فاصلة ما بين مرحلتين، مرحلة التعايش الحكومي ومرحلة الحرب المفتوحة ما بين شباط وبنكيران. وقد نزلت نتائج هذه الدائرة التي سماها أهل سوس ب«دائرة الموت» كالصاعقة على شباط، حيث فاز مرشح حزب العدالة والتنمية بالمقعد بفارق كبير جدا على منافسه الاستقلالي، حيث حصل الأول على 17819 صوتا فيما حصل غريمه على 7365 صوتا بفارق 10454 صوتا!! أما مرشح الاتحاد الاشتراكي فحصل بالكاد على 759 صوتا!! ألم أقل لكم إنها أرقام أكثر من مذهلة. «دائرة الموت» أكدت لشباط نهائيا أنه لا مفر من إيجاد مخرج لهذا الوضع وخلط الأوراق وتغيير الاستراتيجية واتخاذ قرارات شجاعة، بما فيها إمكانية الانسحاب من الحكومة والتفرغ للمعارضة وبناء الذات الحزبية أو إضعاف بنكيران، ما أمكن، من داخل الأغلبية الحكومية وتحقيق بعض المكاسب على صعيد الفوز لأتباعه ببعض الحقائب الوزارية... الحقيقة أن الانتخابات الجزئية أكدت بالملموس لكل الأحزاب قوة تنظيم وتأطير وإشعاع حزب العدالة والتنمية رغم مرور أكثر من سنة على قيادته للحكومة. هذا الوضع الانتخابي المهزوز لحزب الاستقلال ولأحزاب معارضة أخرى، باستثناء حزب الأصالة والمعاصرة، سيتضح جليا ونهائيا خلال الانتخابات الجزئية لفبراير 2013 بكل من مدن ودوائر دمنات وسطات وسيدي قاسم واليوسفية ومولاي يعقوب التي ستكون كارثية بالنسبة إلى الاستقلال والمعارضة الحكومية...