- بدأت مشوارك المهني كمختص في أفلام الرسوم المتحركة قبل أن تقرر التعمق في البروباغاندا التطبيقية. ما سبب هذا الانتقال؟ وما هي أهم أسس البروباغاندا التطبيقية؟ كثيرا ما أشبه تجربتي بتجربة «أليس في بلاد العجائب»؛ فقد عشت بين عالمين ظاهرهما التناقض، عالم الرسوم المتحركة البريء وعالم البروباغاندا الموحش. بعد انتقالي من الدراسة في معهد الفنون الجميلة بتطوان إلى فرنسا للتخصص في إخراج أفلام الرسوم المتحركة، كانت أحلامي يقودها الانبهار بعالم «والت ديزني» العجائبي. لكن تزامن فترة تكويني مع أحداث 11 سبتمبر2001 الرهيبة جعلني أعيش سلسلة من المفاجآت غير السارة، فلم أكن قبلها كثير الاهتمام بالأمور السياسية ولم أكن مهتما بالصراعات الإيديولوجية. فكانت أولى المفاجآت التي واجهتني حالة السعار الإعلامي والعداء المنفلت لدى النخب الفرنسية ضد الإسلام والمسلمين، وبشكل مكثف... لم أكن أعلم آنذاك أدنى شيء عن حملات البروباغاندا المنظمة وكانت منطلقاتي، مثل كثير من المسلمين، مبنية على تصور خاطئ مفاده أن الحالة التي أصابت المؤسسات الغربية من جراء الحادث مجرد ردود فعل عنيفة متلبسة بالجهل بحضارة الإسلام. فقررت أن يكون فيلم تخرجي حول الأندلس، لكني فوجئت بالتضييق من إدارة المؤسسة السينمائية التي كنت أتابع فيها تكويني، وبضغوط لأغير من شكل الفيلم، كانت تلك هي أولى تجاربي مع مشاكل الرقابة التي يمارسها الغرب داخل مؤسساته. التحقت فيما بعد بسلك الدراسات المعمقة للتعرف عن كثب على النظريات السينمائية والإعلامية، وكان أول لقاء لي بعالم البروباغاندا المظلم مع أول المحاضرات المخصصة له. يومها اكتشفت أني أضع يدي على كنز ثمين، مفتاح للكثير من الألغاز التي اكتنفت أحداث القرن العشرين. لم يكن تخصصي الأصلي بعيدا عن تخصصي الجديد، فكلاهما ينفذ إلى أعماق البشر؛ الأول يغازل الخيال والثاني يتلاعب باللاوعي، الأول يقدم التسلية للجماهير والثاني يستغل حالة التخدير الجماعي التي تصيبهم من جراء التحكم في الغرائز. وقد وصف هذه الحالة مؤرخ البروباغاندا الشهير تشاخوتين في كتابه «اغتصاب الجماهير» (Le Viol des foules)، هكذا تصبح أكثر الصور براءة مجرد انعكاسات مظلمة لعالم السياسة، الذي لا مبدأ فيه سوى “المبدأ الميكيافيلي” القديم: الغاية تبرر الوسيلة. مجال اشتغالك الأول كان هو مجال الإعلام، كيف تنظر إلى العلاقة بين السينما والسياسة؟ وما دور السينما في نشر الصور النمطية وتثبيتها في العقول؟ نجاح البروباغاندا رهين بقدرة المؤسسات التي تقوم بها على تطويع تصورات الجماهير وتحويلها إلى مادة قابلة للاشتعال. من ثمة، يتم استعمال الموروث والثقافة المشتركة لإعادة بناء واقع مزيف تغلب عليه العاطفة والرومانسية. لفهم هذه الأساليب، يجب الرجوع إلى تفريق نظري بين قسمين من البروباغاندا. البروباغاندا الاجتماعية وهي طويلة الأمد ناعمة تتسرب عبر ما تستهلكه الجماهير من مواد ثقافية وترفيهية (الكتاب، السينما، المسرح، التلفزيون، المهرجانات الرياضية...)، دور هذا النوع من البروباغاندا هو صناعة تصورات وترسيبها في اللاشعور؛ ليأتي دور النوع الثاني من البروباغاندا، وهي البروباغاندا السياسية وتطبعها الآنية، إذ تظهر وقت الأزمات على شكل حملات تحريضية أو تعبوية لحمل الجماهير على اتباع أحد الخيارات عبر الضغط النفسي المكثف. هذا القسم يعتمد على القسم الأول في تزويده بتلك الصور النمطية الجاهزة (stéréotypes) لاستثارتها عبر أساليب ملتوية من أجل صناعة الإذعان. وعليه، فالسينما قد تكون أكثر الوسائل الثقافية استهلاكا في القرن العشرين ويكفي الرجوع إلى حجم الاستثمارات في هذا المجال، دوليا، لإدراك مدى إقبال الملايين من البشر عليها. مما يؤهلها لتكون مختبرا إيديولوجيا بامتياز. - كمختص في البروباغاندا التطبيقية، ما هو تحليلك لما يقع من أحداث في العالم العربي؟ هل نعيش اليوم صراع الحضارات للألفية الثالثة؟ ما يحدث في العالم العربي هو نتيجة متوقعة لعقود من التسميم المعلوماتي، ساهمت فيه مؤسسات الإعلام المختلفة والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات ومصانع التسلية الهوليودية الضخمة. كثيرا ما يتحدث الأكاديميون عن حقبة تسمى بالحرب الباردة، هذا المصطلح الذي أطلقه الصحفي الأمريكي والتر ليبمان، وهو أحد أشهر خبراء التضليل الأمريكيين (spin doctor)، لكن قلما يتم التدقيق فيه وفي نتائجه، على اعتبار أنه من المسلمات النظرية. لكن إعادة النظر في أحداث تلك الحقبة يجعل من تلك المسلمات محل شك، فهل انتصر حقا المعسكر الليبرالي؟ وهل تحول العالم إلى عالم الأحادية القطبية؟ هناك بعض التفاصيل التاريخية تجعلنا نعيد النظر في كل ذلك. في الوقت الذي كانت التقارير تشير إلى قرب انتصار المعسكر الليبرالي على «إمبراطورية الشر»، كما كانت تسميها حملات البروباغاندا الأمريكية. كانت خلايا التفكير التي تسيطر عليها لوبيات المال والسلاح التابعة في معظمها للمحافظين الجدد تنذر بقرب أفول النجم الأمريكي أيضا، بعد انقضاء حقبة «الثلاثين الذهبية» في منتصف السبعينيات؛ أي بعد أزمة البترول الشهيرة، ومنه أصبح التفكير في إيجاد حلول عاجلة ولو كانت عسكرية كضرورة استراتيجية تكاد تكون مسألة حياة أو موت. ظهر حينها مشروع إعادة القيادة الأمريكية للعالم (American Global Leadership)، المشروع الذي ينبني على طرفين، أحدهما الدبلوماسية الاقتصادية وما يرتبط بها من توسيع دائرة التأثير الإيديولوجي والقيمي على العالم، وطرف ثاني عسكري يبقي للمؤسسة الأمريكية هيبتها أمام القوى الناشئة. لم يكن لهذين الطرفين أي من المصوغات المنطقية لإقناع الرأي العام، إلا باختلاق مبررات وهمية مثل صراع الحضارات الذي أوكلته خلايا التفكير لشخصيات مثل صامويل هانتينغتون وفرانسيس فوكوياما، المعروفين بانتمائهما للمحافظين الجدد وعملهما بشكل عضوي في مراكزهم البحثية. أخذ هؤلاء وغيرهم على عاتقهم مهمة تسويق فكرة الصراع الحضاري محددين نوعية الأعداء الذين تجب محاربتهم؛ وكان على رأسهم العالمين العربي والإسلامي والصين الكنفوشيوسية. في منظوري، اختير العالمان العربي والإسلامي لما تشكله منظومتاهما الدينية والقيمية وبنيتاهما الفتية من مقومات الاستحواذ على الصدارة في كل المجالات إن سقطت المنظومة الغربية الليبرالية. كما كان للصين نصيب لا بأس به من العداء المختلق، بسبب ابتعادها عن التبعية السياسية والاقتصادية للغرب وأسباب أخرى إيديولوجية. - هل يمكن القول بأن جهات خارجية هي من تقف وراء ظهور الاحتجاجات في دول كمصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا...؟ ومن هي تلك الجهات؟ وما هي الآليات التي توظفها لتحقيق أهدافها الخارجية؟ الجواب على سؤالكم يوجد في مشروع إعادة القيادة الأمريكية للعالم. داخل هذا المشروع الضخم الذي تموله الشركات العابرة للقارات، هناك مشاريع جزئية تفصيلية في مقدمتها مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أمام مجلس الشيوخ بعد حرب العراق الأخيرة (2003). أبدت في مشروعها تفاصيل خطيرة للغاية، من بينها رغبة الإدارة الأمريكية في تغيير قيادات المنطقة العربية، بما فيها الدول الحليفة واستبدالها بقيادات جديدة عبر انقلابات «بيضاء» لا يظهر فيها التدخل الأمريكي المباشر. من المطابقات العجيبة التي تؤكد ما نذهب إليه، ظهور تلك التقنيات فيما يعرف سابقا بربيع براغ أو الثورة المخملية (1989)، التي على إثرها تم تقسيم جمهورية تشيكوسلوفاكيا سابقا إلى جمهوريتين (التشيك وسلوفاكيا) تدينان بالولاء للمعكسر الغربي. أقدم الشباب الجامعي آنذاك على استلهام تقنيات طورها الأكاديمي الأمريكي جين شارب، بتعاون مع الاستخبارات الأمريكية «سي اي اي» لإسقاط الحكومات التابعة للمعسكر السوفياتي، دون الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة. بعد قرابة عقد من الزمن، عادت تلك التقنيات للظهور في صربيا مع مؤسسة «اوتبور» التي تدير أكاديمية تحت اسم «كانفاس» لتدريب الشباب على «الثورات السلمية». استطاعت هذه الأكاديمية تدريب الشباب بصربيا على إسقاط الحكومة تمهيدا لتقسيم الدولة طبقا لخرائط أمريكية جديدة. بعد نجاح هذه العملية والتمكن من تقسيم البلقان، أطلقت الاستخبارات الأمريكية العنان لهذه الأكاديمية ولمديرها سيرجيا بوبوفيتش لتدريب العشرات من الشباب في دول أوربا الشرقية، فتمكنوا من إسقاط العديد من الحكومات التابعة للمعكسر السوفياتي سابقا لتصبح خاضعة للقوة الأمريكية. بعد النجاح الملفت، انتقلت هذه المؤسسات للعمل على تدريب مجموعات من الشباب العربي لتقود ثورات على غرار ثورات أوربا الشرقية. من المهم أن نعرف أن تلك التقنيات التي اعتمدتها أوتبور لم تكن لتنجح لولا الدعم المالي والإعلامي الذي يحيط بها من مؤسسات المجتمع المدني مثل مؤسسة «فريدوم هاوس» التابعة لجورج سوروس أحد الوجوه المعروفة للمحافظين الجدد ومؤسسة «بيزنيس اوف ديبلوماتيك اكشن»... كل هذه المؤسسات التي تقول إنها تدعم الديمقراطية تدخل ضمن الدبلوماسية الاقتصادية التي ظهرت مع مشروع إعادة القيادة الأمريكية للعالم. - على ضوء هذه المعطيات ومشروع الشرق الأوسط الكبير ومساعي المحافظين الجدد لتقسيم العالم العربي، ما هي قراءتك للوضع الراهن؟ وكيف يمكن إثبات قيام المحافظين الجدد بتنفيذ برنامجهم بالدول العربية؟ مشروع الشرق الأوسط الكبير أصبح واضح المعالم اليوم بعد الثورات التي عصفت بالعالم العربي، وما خلفته من تدمير. فبعد إسقاط بعض الحكومات، تحولت تلك البلدان إلى حالة من الفوضى تسود فيها الحروب الإثنية والطائفية، وهو ما بشرت به الخرائط التي نشرتها مجلة الجيش الأمريكي «أرمد فورسز» تحت اسم خريطة حدود الدم (blood borders). إن هذه الخرائط المخيفة التي رسمها الجنرال الأمريكي رالف بيترز تمثل خرائط مستحدثة من الخرائط التي طورها المستشرق الأمريكي بيرنارد لويس في نهاية السبعينيات. لكن أخطر ما في الأمر، أن هذا المشروع الإمبريالي الجديد يتوافق والمشروع الصهيوني المعروف بإسرائيل الكبرى، والذي تطابقت رؤيته مع خرائط الشرق الأوسط الكبير، وقد نشرت مجلة «كوفونيم» الإسرائيلية سنة 1982 هذا المشروع تحت عنوان «استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات»، وهو عبارة عن دراسة لدبلوماسي إسرائيلي سابق (أوديد ينون) تقتضي تقسيم العالم العربي والزج به في حروب داخلية قاتلة. في هذه الثورات، ظهر عرابون ووكلاء يمكن اعتبارهم صلة الوصل بين المشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني، من بينهم بيرنار هنري ليفي الذي رأيناه في كل الدول التي انطلقت فيها شرارة الثورات، وقد اعترف في كتابه الأخير بأنه كان وراء تحريض الغرب على دعم ثورة ليبيا، كما اعترف بأشياء أخرى خطيرة مثل دخوله مع فرق يهودية مسلحة إلى مصراتة. لكن لا شك أن تلك المحاولات إن نجحت في بعض المناطق مثل ليبيا، التي أصبح مصيرها مجهولا، قد تتأخر أو تفشل في مناطق أخرى كانت أكثر حنكة في إدارة الصراع عسكريا ودبلوماسيا وإعلاميا ،مثل سوريا، فنجاح أو فشل هذه المشاريع رهين بالتطورات الميدانية. - ما هو ردك على من يقولون بأن ذنب ما يقع من أحداث في العالم العربي على القوى الغربية مجرد ترويج لنظرية المؤامرة، ومجرد تقاعس عن تحمل المسؤولية؟ يقصد بنظرية المؤامرة حالة “بارانويا” مرضية يشعر أصحابها بأن هناك مؤامرة ضدهم، ويبنون مخاوفهم تلك على فرضيات واستنتاجات لا تقوم عليها الحجة، ويحلونها محل الحقيقة. إذا كان كلامنا مرسلا أو غير موثق أو مبنيا للمجهول، حينها تحق لمن يعارضه نسبته لهذه الحالة. لكن كل ما نصفه هو مدون ومعلن يمكن للجميع الرجوع إليه بشكل تفصيلي من مصادره الأصلية. ومن المؤسف أن يقاوم البعض تلك الحقائق بحالة أشد من حالة ما يصفون به غيرهم، وهي النفي المرضي للمشاريع الجيوسياسية الكبيرة ولو رأوها رؤية العين، فإن كان للأجداد عذر عدم الوصول إلى معلومات حول مخطط سايكس بيكو، الذي بموجبه تقاسمت الدول الاستعمارية الدول العربية سنة 1916 فاليوم لا حجة لأحد بعد الكم الهائل من الوثائق والمعلومات حول هذه المشاريع التي تنال من دولنا الواحدة تلو الأخرى.