شكلت الانشقاقات الحزبية في مغرب ما بعد الاستقلال معطى جوهريا في المشهد السياسي، سواء كأداة لتحقيق التوازن بين مختلف المتدخلين في اللعبة السياسية، أو كرد فعل على غياب الديمقراطية الداخلية واستحواذ الرأي الوحيد داخل المؤسسة الحزبية. وفي هذا الخضم نال اليسار المغربي نصيبه من ظاهرة الانشقاقات خاصة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي سيخرج من رحمه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لتنشب بعد ذلك خلافات بين أبرز قيادات الحزب دفعتهم لإنشاء أحزاب سياسية جديدة كرد فعل احتجاجي على عدم استيعاب آرائهم. وفي ظل هذه الانشقاقات بقي المشهد الحزبي المغربي يعيش حالة من البلقنة ترتفع معها، في كل مناسبة انتخابية أو سياسية أصوات، تطالب بضرورة جمع شتات اليسار المغرب وتكوين جبهة يسارية كبيرة تجمع رفاق الأمس وتعيد ترتيب الأوراق الداخلية المبعثرة في خريطة المشهد السياسي المغربي. وإذا كانت الخطوة الأخيرة لإدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي وعبد الكريم بنعتيق، الأمين العام للحزب العمالي، وعبد السلام العزيز، الأمين العام للمؤتمر الوطني الاتحادي بجمع الشتات والعودة إلى الحزب الأصل، فإن المتتبعين لطبيعة هذا الاندماج يرون فيه خطوة شكلية لم تجب عن الأسئلة المؤرقة لوضع اليسار المغربي في خارطة المشهد الحزبي. وفي هذا الصدد يرى مصطفى البراهمة، الكاتب الوطني لحزب النهج الديمقراطي، أن «الحزب كان من المبادرين الأوائل لتأسيس تجمع اليسار الديمقراطي والمؤتمر الوطني السابق والأخير كان شعاره هو جبهة موحدة ضد المخزن ولبناء نظام ديمقراطي، ونحن كنا دائما مع وحدة الحركة اليسارية ومن أجل وحدة الصف الديمقراطي بصفة عامة، وكنا ندعو دائما إلى تشكيل قطب اقتصادي سياسي اجتماعي لمواجهة المخزن وسياسته المخزنية». واعتبر لبراهمة أن «دائرة تحالفات الحزب هي تجمع اليسار والقوى اليسارية، سواء المنظمة أو كأفراد، والدائرة الثانية هي القوى الديمقراطية التي يمكن أن نلتقي معها حول قضايا وملفات، وبالتالي نحن مع تجمع اليسار حول قضايا مبدئية ونحن لا نغلق الباب مستقبلا أمام القوى الديمقراطية التي يمكن أن نتقاسم معها ملفات حول الفساد والاستبداد من أجل الديمقراطية ومحاربة اقتصاد الريع والدفاع عن الحريات بما فيها حرية المعتقد والتنظيم وغيره». وأبرز الكاتب الوطني للنهج الديمقراطي أن «الوحدة طرحناها في تجمع اليسار على أسس مبدئية وبرنامج نضالي يحدد الخصم بشكل واضح وهو الطبيعة المخزنية للدولة، لأنها عائق أمام أي تقدم، والذي يحدد المستوى الثاني هو القوى الديمقراطية التي يمكن أن نتقاسم معها خطوات في هذا الباب في إطار الدفاع عن الديمقراطية ومحاربة اقتصاد الريع والحريات وقد تجمعنا هذه الملفات». ورغم هذا الموقف الذي يبدو فيه نوع من الاستعداد للانخراط مع باقي مكونات اليسار، فإن طبيعة الخلاف حول عدد من القضايا، وأيضا أسباب الانشقاقات ورؤية كل حزب لطبيعة العمل السياسي تبقى حاجزا أمام إمكانية خلق جبهة تجمع الشتات. وفي السياق ذاته يوضح عبد الرحمان بنعمرو، الأمين العام لحزب الطليعة الديمقراطية الاشتراكي، في حديث ل«المساء»، أن «خلق جبهة ممكن ولكن ضمن معايير معينة تستحضر أخطاء الماضي في الوحدة بين اليسار، والأخطاء المرتكبة من قبل بعض الأحزاب المحسوبة على اليسار، وأهم معيار أن يكون اليسار يحمل مبادئ اليسار من قبيل الديمقراطية والاشتراكية، وأن تكون هذه الشعارات مبنية على برنامج نضالي محدد». بنعمرو أضاف أنه لا يقبل «وحدة يسارية هشة شكلية بل يجب أن توافق عليها وناتجة عن قناعة من القواعد الحزبية لليسار وتستحضر الماضي وضمن ورش محدد وخطط محددة نضالية ملموسة، وهذا من متطلبات اليسار وإلا فإذا كان هذا اليسار هشا فسيخلق متاعب بين مكوناته وسينتهي إما إلى الجمود أو التفرقة والاندثار. وفي المقابل أبرز الأمين العام للطليعة أن «العمل على مستوى تحالف اليسار ينبني على الانتقال من هذا التحالف إلى الفدرالية، وهي أكثر تقدما في التنسيق بين مكونات تحالف اليسار وأقل من الاندماج»، مشيرا إلى أن «هناك تدرج في أفق الاندماج التام عبر حزب يساري كبير، وليس إدماج حزب في حزب آخر، بل يجب أن نسعى في إطار التدرج وفي إطار برامج نضالية ملموسة ومواقف واضحة من النظام ومن اختياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويجب أن يكون مبنيا على قناعات من القواعد ويستحضر أخطاء الماضي». وفي المقابل، يضيف بنعمرو، «فنحن مع يسار حقيقي مناضل وواضح الأفق والمواقف ووحدة يسارية مبنية على النضال بما يقتضيه من تضحية ومواقف صريحة، وقبيل تحقيق الاندماج يمكن العمل على إيجاد صيغ تنسيقية بين مكونات اليسار وحتى مع باقي المكونات الديمقراطية والحقوقية في البلاد في معارك محددة من الناحية الزمنية والمكانية». وفي انتظار تحقيق وحدة تضع حدا للبلقنة الحزبية وتهيئ لتقاطبات كبرى بين مكونات اليسار المغربي، تبقى أمام أحزاب اليسار تحديات كبرى بعضها مرتبط بنوعية العمل السياسي الذي ستتحالف أو تندمج من أجله، والإجابة بشكل واضح عن سؤال الهوية والإيديولوجيا، وأخرى مرتبطة بالديمقراطية الداخلية لهذه الأحزاب وقدرتها على استيعاب الآراء المخالفة بداخلها.