الخبراء المتخصصون في شؤون المنطقة العربية يقولون إن الأوان لم يحن بعد للإجابة عن هذا السؤال بدعوى أن الربيع العربي لم يبح بعد بجميع أسراره. غير أن «المركز الفرنسي للبحث حول الاستعلام» حاول كسب تحدي كشف الوجه الحقيقي للتحولات التي تعرفها المنطقة العربية منذ أزيد من سنتين. وقد عمل المركز في كتابه «الوجه الخفي للثورات العربية» على إماطة اللثام عن الأدوار الخفية للعديد من الفاعلين في صناعة التحولات الأخيرة في العالم العربي. يتصدى هذا الكتاب لقضية مثيرة للجدل: حقيقة الأدوار التي لعبها مختلف الفاعلين في المنطقة العربية في توجيه مسار الربيع، الذي تهب رياحه عليها منذ أزيد من سنتين. إذ يسعى إلى دراسة الثورات العربية الأخيرة ورصد كل القراءات التي أعطيت لها، والأبعاد التي منحت لها من قبل الخبراء السياسيين والاقتصاديين والمختصين في علم الاجتماع في مختلف مناطق العالم. هكذا كتب على ظهر غلافه استباقا لأي تهمة بالتحيز إلى أي طرف من الفاعلين الرئيسيين في هذه الأحداث التي تعارف العالم على تسميتها ب«الربيع العربي». يروم هذا الكتاب أيضا، وفق ناشريه، إلى تسليط الضوء على وقائع العالم العربي في مرحلة ما بعد الربيع في الدول التي انتقلت من لحظة الثورة إلى ساحة بناء الدولة الحديثة، وما يصاحب ذلك من صراع حامي الوطيس بين مختلف التيارات. تلزم الإشارة إلى أن لجنة إعداد هذا الكتاب ضمت بالأساس باحثين وصحافيين وخبراء من المنطقة العربية، أو غربيين متخصصين في شؤونها. وكان لافتا عدم مشاركة أي باحث من المغرب في إعداد هذا الكتاب، الذي يعتبر، حقيقة، وثيقة مرجعية في قراءة التحولات التي عرفها العالم العربي في السنتين الأخيرتين. وعموما، ساد إجماع بين جميع المشاركين في إعداد هذا الكتاب على أن الربيع العربي في مجمله حدث عفوي وإيجابي في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. غير أنهم ينطلقون من التسليم بهذه «العفوية» ليبرزوا وجود جهات أخرى كانت لها يد في تأجيج الثورات وإذكاء فتيل الاحتجاجات. وعندما تجتمع كافة المعطيات عن طبيعة المشاركين في الثورات العربية، علانية، وتكشف حقيقة من شاركوا فيها «عن بعد» دون أن يخلفوا أثرا على «الميادين» تكتمل الصورة إلى حد بعيد. وإذا كانت الشعوب العربية، خاصة الشباب منها، وقود الربيع العربي، وهذا أمر معلوم، بل يكاد يكون مسلما به من قبل الجميع، فإن البحث عن باقي الفاعلين، غير المعروفة أدوارهم بما فيه الكفاية، يكمل عملية إماطة اللثام عن الوجه الحقيقي للثورات العربية، خصوصا على مستوى الآليات التي تدخل بها «الفاعلون المجهولون»، والوسائل التي استخدموها للتحكم في مسار الثورات وتوجيهها، عن وعي أو غير وعي، إضافة إلى الانعكاسات السلبية لهذه النوعية من التدخلات على مستقبل دول الربيع في مرحلة ما بعد إسقاط الأنظمة وبناء أسس الدولة من جديد. الإعلام في قفص الاتهام يوجه الكتاب اتهامات صريحة إلى وسائل الإعلام الدولية بنقل وترويج معطيات غير صحيحة يكون لتداولها على الصعيد العالمي أثر مباشر على تغليب موازين القوى في ميدان «المواجهات» بين المحتجين والأنظمة. وتنقسم هذه المعطيات إلى بيانات تخدم مصالح النظام وتدعم استمراريته، وأخرى تدعم مساعي المحتجين لبلوغ أهدافه في أسرع وقت. ورغم أن إبراز مختلف وجهات النظر في مختلف القضايا يظل ضالة الصحافة، وفق الأعراف على الأقل، أينما وجدت، فإن الكتاب يتساءل عن الأسباب الحقيقية التي جعلت من الإعلام العالمي قريبا من المتظاهرين والنظام على حد سواء في مراحل المطالبة بالإصلاحات، وأحيانا أكثر قربا من السلطات منه إلى المحتجين في هذه المرحلة، إلى ما يشبه تبني قضايا المحتجين في مراحل المطالبة بإسقاط الأنظمة. يوجه الكتاب إلى وسائل الإعلام أيضا انتقادات بخصوص حجم التغطية التي أوكلتها إلى هذه الأحداث التي هزت العالم العربي على حين غرة. وقد خص بالذكر، في هذا المجال، قناة «الجزيرة» القطرية التي عملت في كل بؤر الربيع العربي، ولا سيما في ليبيا، على حصر برمجتها على تطورات الوضع، إضافة إلى إحداث قناة خاصة بمصر، الشيء الذي كان له أثره البارز في حشد الدعم الشعبي لبلدان شمال إفريقيا الربيعية الثلاثة في مختلف بقاع العالم. كما يتساءل عن الأسباب التي دفعت هذه القناة إلى لعب كل هذه الأدوار القوية في توجيه مسار الأحداث، خصوصا في ظل الأطماع القطرية غير الخفية على لعب أدوار ريادية في المنطقة وتسلم مشعل قيادة العرب من بلاد الكنانة. ولم يسلم الإعلام الغربي أيضا من هذه الانتقادات. ذلك أن صدمة الغرب عموما باندلاع هذه الأحداث تبدت بوضوح في ضعف اهتمام وسائل إعلامه بها وتأخرها في إيلائها العناية والأهمية التي تستحقها. وفي هذا الإطار، يكشف الكتاب حقائق مثيرة عن وسائل إعلام شهيرة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الأوربية بعثت إلى المنطقة موفدين خاصين لتغطية تلك الأحداث لا يملكون من المعرفة والخبرة ما يكفي لاستيعاب خصوصية هذه المرحلة بالنسبة لمجمل العالم العربي. غير أنه تفادى ذكر أسماء المؤسسات الإعلامية المعنية بهذا الأمر. الدور الجزائري يبرز هذا الكتاب دورا جزائريا لم يعترف به كثير من الخبراء في توجيه مسار الأحداث التي عرفتها المنطقة العربية في السنتين الأخيرتين. إذ يجزم بأن السلطات الجزائرية كانت حريصة على القيام بكل الإجراءات الضرورية واتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة للحيلولة دون انتقال عدوى الاحتجاجات ومطالب إسقاط الأنظمة إلى الجزائر العاصمة. غير أن جهود الجزائريين لم تنصب فقط على مواجهة كل بوادر قيام الاحتجاجات، مهما قلت أهميتها في العاصمة أو في المدن الغربية وبعض الحواضر الجنوبية، بل إن اهتمامها مال بالأساس نحو المنطقة الشمالية الشرقية، القريبة من تونس، أي القبايل، التي دأب أمازيغها على الاحتجاج بشكل دوري في العقدين الأخيرين. لا يتحدث الكتاب عن أي تدخل جزائري في الحالتين المصرية والتونسية، عدا تنسيق كان ضروريا على المناطق الحدودية المشتركة مع تونس، خاصة في الأيام الأخيرة من عهد نظام الرئيس المطاح به زين العابدين بنعلي، والفترة اللاحقة لهروبه من بلاده نحو العربية السعودية. في المقابل يعترف بأن خوف السلطات الجزائرية من انتقال الاحتجاجات إلى بلادها دفعها إلى التدخل بشكل مباشر، وخفي، في الأوضاع في ليبيا، خصوصا في المرحلة التي سبقت إعلان حلف الشمال الأطلسي الحرب على نظام العقيد الليبي السابق معمر القذافي. ودليل هذا التدخل تمكن قوات الثوار من اعتقال جزائريين اتهموا بدعم نظام القذافي عبر الانضمام إلى قواته وقتل عناصر الثوار. وقد اعتقل كثير من الأشخاص الحاملين الجنسية الجزائرية، غير أن سلطات بلادهم ظلت تنفي أن يكونوا توجهوا إلى ليبيا بإيعاز منها أو دعم من أجهزتها. ويبدو، وفق الكتاب، أن تأثير الثورة الليبية على الجزائر كان أكثر وقعا من ثورة الياسمين التونسية. ومرد ذلك إلى تقاسم البلدين حدودا على مستوى الجنوب في منطقة، كانت ولا تزال تعتبر بوابة الدخول إلى ليبيا والخروج منها دون حاجز ولا مراقب. وينطلق الكتاب كذلك من هذا المعطى ليبرز الدور الذي لعبه اندلاع الأزمة في مالي على القضاء على أمل التيارات الجزائرية، خصوصا الإسلامية، في انتقال عدوى الربيع العربي إلى بلادها. إذ أدى بروز الأزمة بمالي، وهذا طبعا قبل التدخل الفرنسي في هذا البلد الإفريقي، إلى إذكاء الحذر الجزائري من «الثورات»، وتسبب في الآن ذاته في تقليص دائرة الحماس للربيع العربي في هذا البلد المغاربي. وعموما، يذهب الكتاب إلى أن عناصر قيام ثورة أو تحول في السلطة في الجزائر غير قائمة إلى حدود الساعة، وتحديدا عبر بوابة الربيع العربي. الدور الخليجي يكاد يسود إجماع في العالم العربي على أهمية الدور الذي لعبته بعض دول الخليج في تأييد الثورات في المنطقة، خاصة في تونس وليبيا، وبشكل أقل حدة في مصر. وهنا، عادة ما يبرز اسم إمارة قطر، الصغيرة جغرافيا عظيمة الطموحات في المنطقة، خصوصا في مجال تمويل الثوار ودعمهم سياسيا في المحافل الدولية، وشد أزرهم عبر ذراعها الإعلامية القوية قناة «الجزيرة». ومعلوم أن قطر لا تخفي دعمها للاحتجاجات، ومعها الشعارات التي رفعت في الربيع العربي في أكثر من دولة في المنطقة. وقد برز ذلك، بشكل جلي، في الاهتمام الكبير الذي أولته هذه الإمارة الخليجية لمرحلة ما بعد ثورة «الياسمين» في تونس. فغادة انهيار نظام الرئيس المطاح به زين العابدين بنعلي، وانتخاب الناشط الحقوقي منصف المرزوقي رئيسا جديدا للبلاد، حطت طائرة حمد بن خليفة آل ثاني بمطار قرطاج في أول زيارة يقوم بها زعيم دولة إلى تونس عقب الإطاحة بنظام بنعلي. وفي ليبيا، كانت قطر حاضرة بقوة بثقلها السياسي ودعمها للعمليات العسكرية المنفذة من قبل حلف الشمال الأطلسي ضد قوات القذافي. كما سجلت حضورا إعلاميا بارزا، كما أسلفت الإشارة، على غرار جميع الثورات العربية. لكن الكتاب يدخل إلى دائرة الفاعلين في صناعة التحولات الأخيرة في المنطقة فاعلا خليجيا أثيرت بشأن دوره في الربيع العربي تساؤلات كثيرة. إنه المملكة العربية السعودية. بيد أن ثمة تباينا كبيرا بين انخراط قطر في دعم الربيع العربي وتأييد الاحتجاجات وطريقة صناع القرار في الرياض في التعامل مع تلك التطورات. فإذا كانت قطر عبرت علانية عن دعمها لتلك الاحتجاجات ومطالب المشاركين فيها، فإن العربية السعودية تعاملت بتحفظ كبير مع تلك الأحداث. وإذا كانت صورة العربية السعودية تقترن في أعين التونسيين في الوقت الراهن بإيواء رئيسهم السابق زين العابدين بنعلي، فإن الكتاب يكشف أن الرياض لم تتوان في تقديم الدعم المالي للثوار في معظم الدول العربية التي قامت فيها ثورات في سياق الربيع الذي هبت ريحه على المنطقة قبل أزيد من سنتين. وكان لافتا عدم إيلاء الكتاب اهتماما كبيرا إلى طريقة تعامل الأنظمة في الخليج مع الاحتجاجات التي قامت في دولة البحرين، العضو في مجلس التعاون الخليجي. ومعلوم أن الدول الخليجية حركت قواتها المسماة «درع الجزيرة» لاحتواء الوضع في البحرين قبل أن تنفلت الأمور من قبضة سلطات المنامة. الأدوار الغربية يثير الكتاب في هذا الباب أدوار ثلاث دول رئيسية هي الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا. ورغم الجزم بالطابع العفوي لثورات الربيع العربي، فإن هذا الكتاب يسلم في الآن ذاته بأن الدوال الغربية لعبت دورا مركزيا على أكثر من صعيد في توجيه مسار الأحداث في دول الربيع العربي. وتبرز مركزية الدور الغربي في هذا الإطار، وفق الكتاب دائما، في الضغط الذي قامت به بعض العواصم الغربية، خاصة واشنطن وبرلين وباريس، من أجل الإبقاء على الوضع في دول الربيع في مستوى غير منفلت من السيطرة. ويؤكد الكتاب أن العواصم سالفة الذكر لعبت دورا كبيرا في تطور الاحتجاجات في المنطقة دون الحاجة إلى التدخل بشكل مباشرة في توجيه مسار الأحداث. ويكشف في هذا الإطار عن دور خفي تمثل في استعانة بعض الدول الغربية بحلفائها في المنطقة العربية، من قائمة الدول التي لم تطلها رياح الربيع، من أجل متابعة مستجدات الوضع في دول الربيع وإبقائه تحت السيطرة. وهنا برز الحديث عن تنسيق غربي عربي من أجل تجاوز هذه المرحلة الحساسة من التاريخ الحديث للمنطقة العربية بأقل الخسائر الممكنة. وقد تعاملت الدول الغربية، ومعها منظمة الأممالمتحدة، أول الأمر، بغير قليل من التحفظ مع الربيع العربي. وقد كان هذا شأنها إزاء ثورتي «الفل» المصرية، و»الياسمين» التونسية، حتى إن هذه الأخيرة أسقطت ميشال أليو ماري من منصب وزارة الدفاع بفرنسا، الذي عمرت فيه طويلا، بسبب تصريحات اعتبرت ماسة بالثوار التونسيين وكادت تحدث أزمة بين فرنساوتونسالجديدة. غير أن الدول الغربية سرعان ما رفعت درجة اهتمامها بالتحولات التي يشهدها العالم العربي، خصوصا بعد أن تحولت الثورات في بعض المناطق من سلمية إلى مواجهات مفتوحة على جميع الاحتمالات طرفاها الثوار وعناصر أو قوات الأنظمة القائمة. وقد كانت هذه حالة ليبيا التي اضطر فيها حلف الشمال الأطلسي إلى التدخل عسكريا عبر سلاحه الجوي من أجل وضع حد لغطرسة قوات النظام المنهار وحسم المعركة لصالح الثوار. وتكرر التدخل نفسه، ولكن بشكل مختلف كليا، في تعامل الأممالمتحدة مع ثورة السوريين ضد نظام الرئيس بشار الأسد. ففي مرحلة أولى، استعانت الأممالمتحدة، بتنسيق وتعاون مع جامعة الدول العربية، بآلية مراقبة احترام حقوق الإنسان، قبل أن تعمد المنظمتان، الأممية والعربية، إلى تعيين مبعوث خاص لهما لإيجاد حل لهذه الأزمة. وهي المهمة التي فشل فيها كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، لتناط فيما بعد بالجزائري الأخضر الإبراهيمي، الذي لم يستطع تحقيق تقدم كبير على جبهة الحل السلمي لهذه الأزمة. كما يتحدث الكتاب أيضا عن الدور التركي البارز في المنطقة، ويدرجه في خانة الاهتمام الغربي بالربيع العربي. لكنه يقر بأن حسابات تركيا في المنطقة مختلفة، في جوانب كثيرة، عن الدول الغربية. ذلك أن أنقرة تسعى إلى استغلال المعطيات الجديدة التي أفرزها الربيع العربي لحجز موقع لها في قائمة الدول الأكثر تأثيرا في المنطقة العربية. وقد برز الدور التركي بشكل كبير في الحالة السورية، لأسباب عدة أبرزها الحدود المشتركة بين تركيا وسوريا.