ترتهن إشكالية تحديث الثقافة المغربية، ومنها الأدب العربي بالمغرب، بإشكالية العلاقة بالآخر الغربي، التي لم تكن دائما منطلقة من اختيار حر. وإذا كان الوجه الاستعماري الحديث للغرب المسيحي والتقني يمنح هذه العلاقة طابعا صراعيا، لا يخلو من قدرية تاريخية، فإن المثقف المغربي جنح، منذ عشرينيات القرن الماضي، إلى بلورة ردود أفعال وأجوبة، لتصريف ثقافي لمضايق اللحظة. وقد كانت الأجوبة متأثرة، في كثير من الأحيان، بهذا الشرط السيكولوجي، الذي جعل الذات تعلو على التاريخ، وتقفز إلى مطلق زمني يقع في الماضي أو في المستقبل. الشيء الذي استدعى في سياق ثقافي معاصر، بلورة خطاب نقدي، يُخضع خطابات التحديث المغربية والعربية لممارسة تفكيكية من منطلقات تاريخية، فلسفية وشعرية. اختبار تحديث الثقافة المغربية انطلق، إذن، من شرط العلاقة بالآخر الغربي. وقد وجد هذا الاختبار في شرطه التاريخي، وفي عامل اللغة والدين، ما جعله يعثر في الفضاء العربي على جغرافية ثقافية قومية، سبقت إلى اختبار أسئلة النهضة منذ منتصف القرن التاسع عشر. ولم تكن العلاقة بالأخ العربي الأكبر(المشرق) تخلو أحيانا من توتر، مستدعى من قلب الماضي. لذلك، فالثقافة المغربية، بقدر ما وجدت في المشرق العربي، من خلال بعض أصوات وبرامج التحديث، امتدادا وسندا قوميا للجرح، بقدر ما عثرت في مرآته الثقافية، على ما يحيي صورة نرجسية، مكتفية بحدود انعكاس وجهها الشخصي وبأصداء رنينها الخاص. ولعل هذا الشرط التاريخي والسيكولوجي المُعقد هو ما جعل أيضا برنامج التحديث، لا يعكف فقط على جمع وتدوين ما يثبت النبوغ المغربي، ولكنه يستعجل أيضا نقد الخطاب المشرقي الذي راكم، في كثير من تمظهرات ثقافته التحديثية، حجبا تجعل مطلب النهضة، حيث تشع أنوار العقل والخيال، مشروعا مؤجلا باستمرار. ولنا أن نفترض أنه بقدر ما كان الصراع حول التاريخ (الماضي)، بقدر ما كان خطاب التحديث المغربي يأوي إلى نواة فكرية تقليدية، متصلبة حينا، وتوفيقية انتقائية أحيانا أخرى. وبقدر ما كان الصراع حول المستقبل، بقدر ما كان خطاب التحديث ينزلق فوق شروط التاريخ، مُختَرَقا بميتافيزيقا التقدم. وكان الحاضر، في كل الأحوال، يطفو فوق زمن مائع بلا وعي يعقل تاريخيته. لذلك كان الانتقال من زمن إلى آخر، أشبهَ بسباحة حرة تثبت صفاء النبع، ووحدة الماء، ونفاسة ما يهجع في أعماقه من كنوز، تنتظر من يطلع بها إلى الأمة، أو من ينتظرها بكل بساطة عند الشاطئ. برامج تحديث الخطاب الأدبي بالمغرب يعتبر الأدب أحد المجالات الرمزية الحيوية، التي طالها سؤال التحديث الثقافي بالمغرب. ومثلما استدعى المشرق العربي، ضمن سياق برنامجه التحديثي الأول، صورة من الشعر لترميم شقوق الذات القومية، في مواجهة غطرسة الغرب الثقافي، استدعى المغرب بدوره الصورةَََ ذاتَها، مبلورا بذلك برنامج التقليدية الذي تبنى اختيارات إصلاحية انبعاثية، في مواجهة «تأخر وجمود»، جعلا الحاضر في ملكية الغرب المسيحي المدجج بأنواع من السلاح، وباستيهامات الخيال الاستشراقي، وبإرادة السيطرة على مصادر الثروة، المادية والرمزية. إنه الشرط الذي رهنَ الشاعر المغربي بدور الداعية المُصلح، فيما قيَّد الأدب بمهمة تحرير الحاضر، ووصلِه بماض لا تاريخي يُكرس مفهوما دائريا للزمن. ولم يكن الأدب عموما، يتجسد، في برنامج التقليدية، ضمن جنس تعبيري آخر غير الشعر والعلوم المصاحبة له، والخطاب النقدي المسيج لحده المفهومي القبلي الصارم (الوزن، القافية، المعنى)، ولوظيفته الثقافية التي جعلت منه قديما ديوانا حاميا للغة، مسكن الوحي، وموطن الذاكرة الجماعية. وبالرغم مما يكشف عنه الخطاب النقدي الوصفي للشاعر الزعيم علال الفاسي، من توسع لمفهوم الأدب، جعله يستجلب خصائص الخطاب الفكري المنطقي، فإن ممارسته النصية كشاعر ترد إلى الشعر وضعيته المُهيمنة في الرؤية إلى الأدب كخطاب مخترق بأشواق الأمة إلى «البعث والإحياء». ويُمكن أن نتوقف، ضمن برنامج التقليدية، عند ثلاثة أصوات شعرية، بلورت، في ما نعتقد، تصورا يتواشج في الدعوة إلى «أدب قومي». تصور علال الفاسي يعتبر الأدب أهم «فنون المعرفة»، الأولى «بالتنشيط والاهتمام»، في تلك المرحلة، لأنه «ينظم طريقة التفكير الصحيح، ويمرن على البحث والاستنتاج ورعاية المقدمات والأشكال». ومتى تمكنت الأمة من ذلك «انفتح لها باب البعث وانزاح عن وجهها ستار العمى». هذا التصور العقلي للأدب، يتعايش، في الواقع، في ذهن علال الفاسي، مع مفهوم مستعار من برنامج الرومانسية العربية، الأدب، بموجبه «فن يُعرب عمّا في الكون من حق وجمال بأسلوب عال فصيح، وغايته هي إدراك ما في الكون من مخابئ الحق والجمال، وتمتيع النفوس بها والعمل على السمو بالروح إلى منازلها». ولعل الأصداء اللاواعية، التي ترن في هذا التعريف، تشده أكثر إلى الخطاب الشعري الرومانسي منه إلى الخطاب النثري. وهما معا خطابان ظلا يحتفظان، في وعي التقليدية، بما يفصلهما عن بعضهما البعض. لكن هذا التعايش، الذي هو سمة عربية مع ذلك، هو ما وسم تقليدية علال الفاسي بانفتاح وانتقائية تأخذ بالتواصل، لكنها تراعي صرامة الحدود، ولعلها الخاصية «السحرية» التي جعلت وعيه الشعري يخلو من تمزق. تصور عبد الله كنون ينظر إلى الأدب ك «عمل وطني»، يجعل الكاتب لا يحفر فقط في أعماق القصيدة، بحثا عن «متلاشيات» الزمن الشعري العربي القديم، وإنما يحفر أيضا، على نحو متكامل، في أعماق التاريخ الوطني، بحثا عن مصادر «النبوغ المغربي»، لرفع «الضيم» عن البلاد، و بيان «اللبنة التي وضعها المغرب في صرح الأدب المغربي». إنه تصور معبأ بوساوس قومية، تجعل مؤرخ الأدب ينظر إلى الممارسة الأدبية كممارسة لحقيقة طواها الماضي وسورها الزمن بحجاب، يزداد سُمْكُه اطرادا كلما تفكك الزمن من عقاله، ومضى هادرا باتجاه اللحظة الحاضرة، وعلى الكاتب الشاعر مؤرخ الأدب أن يوقف هذا الزمن ليباشر فعل تفكيك للحجب، حتى تظهر الحقيقة مكتملة وناصعة. إنها حقيقة مستعادة، تربط الأدب بماض مستعاد، يجعل الشعراء يستأنفون نبوغا تجسّد مرة على نحو أكمل في الزمن القديم. ولعل حسن الاستقبال الذي عرفه كتاب عبد الله كنون، من طرف «أمير البيان العربي» شكيب أرسلان، وكبير المستشرقين كارل بروكلمان، ينهض حجة تؤكد نبوغا شخصيا في البحث والاستقصاء والتصنيف، يكشف عن نبوغ جماعي، يرتبط بأدب الأمة وماضيها الحضاري المطمور. تصور المختار السوسي يكشف هذا الفقيه الشاعر عن إحساس متوتر بالزمن الحاضر ب«القطر» المغربي الذي «هجم عليه هذا العصر المُسرع هجوما مباغتا، فإذا به بين عشية وضحاها كأنما انقلب رأسا على عقب». إن زمن «الحضارة الغربية العجيبة» بما هو زمن تقدم موسوم ب«التوحش» المادي، يهدد الهوية المغربية بالفساد والانجراف، كلما تزحزحت عن استقرار وسم كينونتها في الزمن الماضي. ولعل عنف التحولات السريعة هو ما جعل المختار السوسي يستنكر: «كدنا نكون غرباء في طور شيخوختنا في المغرب المستقل». إن الشعور بالغربة يتعايش داخل ذات الوعي، مع الإحساس بصدمة الحداثة: «وقع لنا ما وقع لأصحاب الكهف يوم رجعوا إلى الحياة، فوجدوا كل ما يعرفونه قد تغير تماما». وتكشف أليغوريا «أهل الكهف» عن صدمة وعي مغترِب يسعى نحو استعادة عافيته وانسجامه، عبر ممارسة انتقائية، تؤالف بين «محاسن أمس واليوم»، كحكمة تلين الزمن وتحمي الأمة من انجراف «الاندفاعات العمياء». ولهذا، فالبرنامج المستعجل، بالنسبة إلى المختار السوسي، يتمثل في «المحافظة» على اللغة العربية وآدابها: كنز المغرب الموروث، وحماية الذاكرة الجماعية، عبر «إيجاد مراجع للتاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا». يكتمل برنامج التقليدية المغربية، في الرؤية إلى الماضي كمستودع للمثل الشعري والثقافي الأعلى، الذي يُسعف الأمة، بإحياء خطاب مقاومة يصون الهوية ويحمي الذاكرة. وبقدر ما انطوى وعي علال الفاسي على تعايش بين تصور منطقي وآخر تعبيري رومانسي للممارسة الأدبية، بقدر ما رسخ عبد الله كنون والمختار السوسي تصورا، يعثر في التاريخ الأدبي والثقافي، العام والخاص، على نبوغ يسعف ترميم الذاكرة، واستبدال صورة الحاضر «الفاسدة» بفسيفساء مختارة من نصوص الماضي. ولم يكشف الوعي التقليدي عن توتر تجاه زمن يملك الآخر ناصيته، إلا ليرسخ منظورا لا زمنيا معافى من كل تمزق، مادام قد عثر في فعل الإحياء والمحافظة والتدوين على برنامج ثقافي وشعري يطمئن إليه. ملاحظة: النصوص المستشهد بها مستمدة جميعها من كتاب: «نصوص من الثقافة المغربية الحديثة» (انتقاء وتقديم: عبد الجليل ناظم/ جلال الحكماوي)، دار توبقال 2008