«حتى الطرق الصّحراوية النائية يمكن أن تتسبب في حوادث سير قاتلة».. بهذه العبارة وصف الفيلسوف و عالِم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي وفاة صديقَيْه بول باسكون وأحمد عاريف.. في ليلة 22 أبريل من سنة 1985 تعرّض هاذان الباحثان المغربيان لحادثة سير قاتلة على طريق صحراوية بين منطقتي ساني ونواكشوط في موريتانيا، عندما كانا بصدد مهمّة علمية مشترَكة بين كل من منظمة التغذية العالمية «فاو» ومعهد الزراعة والبيطرة في الرباط. وتتضارب الروايات حول ظروف ذلك الحادث الأليم، منها ما يقول باصطدام سيارتهم بأحد الكثبان الرملية، ومنها ما يحكي عن صدمهما جملا كان جاثما على الطريق.. المؤكد هو ضياع عالِم اجتماع مغربي أعطى الكثير لبلده المغرب، ورفيقه الباحث أحمد، الذي كان عمره 28 سنة فقط لحظة الحادثة.. بعد الوفاة الغامضة نشرت مجلة «لام أليف» تؤبّن بول باسكون: «لقد اختفى في رمال موريتانيا في الوقت الذي ذاع صيته وشهرته العلمية، وفي الوقت الذي بتنا في حاجة إليه أكثرَ من أي وقت مضى، لم يتبق لنا منه غير إيمانه والمثال الذي كرّس من أجله حياته».. الوداع الأخير ودّع أحمد عاريف أهله في لحظات مؤثرة، ودّعت الأم المسكينة ابنها لآخر مرة، في حين يتشبث الابن، ذو الثلاث سنوات، بوالده وهو يبكي: «بابا، ما تمشيشْ وتْخلّيني».. لقد كان جميع أفراد العائلة متحفظين على تلك الرّحلة «الملعونة»، خاصة أن عاريف لم يكن قد امتثل تماما للشفاء من وعكة صحية ألمّت به بسبب التهاب اللوزتين، اللتين كان ينوي إزالتهما بواسطة عملية جراحية بعد عودته المأمولة.. تحكي أم عاريف ل«المساء» عن المَشاهد الأخيرة من حياة ابنها أحمد وصديقه بول باسكون، بعد مرور 28 سنة على وفاة ابنها، وكأنّ جراح الفراق قد فُتحت لتوها من جديد. خرج المسافران بول وأحمد من بيت الأخير في جو مشحون بالمَشاعر المؤثرة، لكنّ ذلك الجو لم يمنع بول من التعبير المفرِط عن فرحه بالتصفيق والتصفير، خاصة أنه كان يتخوف من عدم اصطحاب أحمد في زيارة تتبّع المشروع والوقوف على مراحل تطوره، هذا المشروع النموذجي الذي حوّل إحدى مناطق صحراء موريتانيا إلى ضيعات زراعية، حيث أحالا رمالها إلى خضرة تنتج الفواكه والخضر وسائر المزروعات التي لم تألفها البيئة الصحراوية من قبلُ، بعد أن فشلت كل المشاريع السابقة التي قادتها منظمة هولندية، رغم تبنيها أحدثَ تكنولوجيا الرّي والفلاحة آنذاك، حيث كانت الرمال تتسبب في إتلاف المضخّات المائية وطمر الآبار.. لكن الدراسة والخبرة اللتين أولاها بول وعاريف للمشروع وتبنيهما وسائلَ تقليدية تنسجم مع المناخ الصّحراوي للمنطقة حالتا دون المآلات السابقة للمشاريع الفلاحية. كان بول باسكون وأحمد عاريف قد تعاقدا مع فلاح بسيط من سوس بأجْر مُغر، بمقاييس ذلك الوقت: أربعة آلاف درهم شهريا.. كان ذلك الفلاح المسمى محمد بلكايد (توفي مؤخرا) يحترف أكثرَ من مهنة: حدادة، بناء، نِجارة، حفر الآبار، فلاحة.. وقاموا جميعهم بحفر آبار وبناء قوالب إسمنتية فوق مداخلها لكي لا تنفذ إليها رمال العواصف الرّملية، مستعينين بإطارات مطاطية لعجلات كبيرة تساعد في رفع المياه وبدواليب ميكانيكية تحرّكها الحمير، التي طالما استمتعت براحتها قبل وصول هاذين الباحثين، اللذين أحالا راحتها عملا مضنيا لرفع المياه اللازمة للسّقي، يقول أب عاريف مازحا.. انخرط هذا المشروع الفلاحي، الذي كان بشراكة بين كل من منظمة التغذية العالمية ومعهد الزراعة والبيطرة، في إطار سياسة المنظمة الدولية لتعاون جنوب -جنوب بغية تحقيق الأمن الغذائيّ لشعوب دول العالم الثالث، واستفاد من التجارب العملاقة لبول باسكون في منطقتي الحوز وسبو، التي آتت أكلها عقدَين قبل ذلك. لم تكن تلك السّفرية هي الأولى، فقد اعتاد بول وعاريف تنظيم زيارات دورية لتتبع المشروع الذي رعياه وكأنه وليد، إلى أن شبّ واشتدّ عوده، فإضافة إلى نقل التقنيات التقليدية الملائمة للمنطقة فلاحيا، اجتهدا كثيرا في تدريب السّكان البدو على المهارات الفلاحية والتدخل إيجابيا، في طبيعة عيشهم، الذي كان في السابق قائما على التنقل والانتجاع، بحثا عن المياه والكلأ الشّحيح في صحراء موريتانيا. الفاجعة بعد وصول بول وعاريف إلى نواكشوط جوا، وجدا في انتظارهما المهندس الفلاحي الموريتاني، الذي كان متعاونا معهما في إطار المشاريع الفلاحية المنجَزة هناك، فكانت الوجهة منطقة «العصابة»، التي تقع على بعد 700 كيلومتر شرق نواكشوط.. لكنّ المثير هو السّجال الحاد الذي دار بين كل من المهندس الموريتاني والسّائق المستأجَر، الذي رفض اصطحابهم لأسباب مجهولة، رغم تعوده على فعل ذلك في السابق.. وبعد إلحاح المهندس وتهديده السائق بعدم استئجار خدماته مستقبلا، رضخ هذا الأخير وقبِل نقلهم إلى منطقة المشروع الفلاحي.. لقد كانوا خمسة أفراد على متن سيارة «الجيب»، ذلك النوع الوحيد من المرْكبات القادر على خوض غمار الطرق الصّحراوية. أخذ المهندس الموريتاني مكانه بجانب السائق، أما بول وأحمد فاستقلا المقاعد الخلفية، في حين كان خامسهم، وهو فتى موريتاني يساعد السائق، قد أخذ مكانه في الخلف، بجانب الأمتعة، التي كانت عبارة عن صندوق حديديّ كبير، اعتاد بول وأحمد أن يضعا فيه لوازمها والمؤونة الغذائية واحتياطي المياه اللازمة لرحلتهما الصّحراوية. انطلقت الرحلة بعد عصر يوم 21 أبريل سنة 1985. كان المهندس الموريتاني يطالع كتابا، فيما أحمد عاريف وبول باسكون يتصفحان وثائق المشروع في صمت رهيب كذاك الذي يسبق ال»كارثة».. هذا ما ورد في شهادة المهندس الموريتاني التي تضمّنها المحضر الرّسمي للحادثة. فجأة، وعلى بعد 120 كيلومترا من نواكشوط، ارتطمت السيارة بأحد الكثبان الرملية، لتصعد وتنحدر عموديا، مما تسبب في انقلابها.. لقي بول باسكون حتفه على الفور بعد تحطم رأسه. ولقي المصير نفسَه الفتى مساعد السائق، فقد قضى هو الآخر إلى جانب بول لحظة الحادثة. أما عاريف فقد بقي على قيد الحياة في تلك الطريق «المقطوعة» لأكثرَ من عشر ساعات، حيث لم يلفظ أنفاسه متأثرا بنزيف داخليّ إلا بعد وصوله إلى المستشفى في نواكشوط، في حين لم يُصَب المهندس الموريتاني والسائق إلا برضوخ وإصابات خفيفة.. تشييع الجثامين.. مصادَرة حميمية الأجساد المسجّاة وصل الجثمانان إلى مطار محمد الخامس في الدارالبيضاء بعد ثلاثة أيام من الحادثة، واستقبلا استقبالا رسميا، حضره عدد من الشخصيات الأمنية والعسكرية، وأطر عن وزارة الفلاحة، إلى جانب أصدقاء الرّاحلَين في معهد الزراعة والبيطرة . أخذ الموكب الرّسمي للجثمانين طريقه في اتجاه مدينة الرباط، وعند وصوله مدخل منطقة عين السبع في الدارالبيضاء، افترق إلى قسمين، قسم اتجه بجثمان أحمد عاريف إلى منزل العائلة في عين السبع، في حين واصل القسم الآخر المسير صوب الرباط. وُوري جثمان بول باسكون في مقبرة «باكس» في الرباط، وأحمد عاريف في مقبرة الشهداء في الدارالبيضاء. كان الوداع الأخير لأحمد عارف «سرياليا»، كما صرّح أحد إخوته ل»المساء»، بفعل اختلاط الحزن بالدهشة بالحضور الرّسمي غير المألوف على العائلة.. وهو ما جعل أفرادَ عائلة عاريف يطرحون أكثرَ من علامة استفهام عن هذه الوفاة. تحكي والدة عاريف ل«المساء» قائلة: «بقيتُ بعد مرور أكثر من ستة أشهر على دفن ابني أؤكد لزوجي وأبنائي ومعارفي أنّ أحمد ما زال على قيد الحياة، وأن التابوت التي شُيّع لا يضمّ جثمانه».. عندما وصل جثمان أحمد عاريف إلى منزل العائلة «لبث بينهم قرابة الساعتين في مكان خُصّص في حديقة المنزل وسط أجواء مفعمة ب»الرسميات»، التي فرضها حضور شخصيات أمنية وعسكرية كبيرة»، يحكي أفراد العائلة يحكي أحد إخوة الراحل بامتعاض ويضيف: «لم نتمكن على إلقاء النظرة الأخيرة على محيا الراحل، بسبب تشميع التابوت وعدم وضع نافذة صغيرة على واجهته، تسمح لنا بإلقاء النظرة الأخيرة عليه». يصمت بين الفينة والأخرى، ليكمل روايته والحسرة بادية على وجهه «لقد رحل أحمد وسط الذهول والصدمة التي خلفها رحيله وسط عائلته وأصدقائه، وكأنه خطف مرتين، مرة بموته، ومرة أخرى بمصادرة الحميمة المفترضة مع جسده قبل تشييعه، وذلك بسبب ثقل الترتيبات الرسمية». إن هول الصدمة على العائلة، جعلها لا تستسيغ فكرة وفاة ابنها المثقف «الذي طالما أشاد به الصغير قبل الكبير، بالنظر لدماثة خلقه وعدم تردده في تقديم المساعدات لكل محتاج، إضافة إلى وساطاته الاجتماعية في حل مشاكل الخصومات والنزاعات التي كان يقصده أطرافها لطلب التحكيم بينهم» وتضيف الأم : «لقد كان معرضا لشتى المغريات المادية، لكن أخلاقه العالية جعلته دائما مترفعا، لا يهمه غير الإخلاص لعمله...» باسكون المغربي ألقى مناخ الاختطافات والاختفاءات القسرية لسنوات «الجمر والرصاص» بظلاله على عائلة أحمد عاريف، خصوصا أن الدولة المغربية كانت تضع خطوطا حمراءَ أمام معارضيها وغيرهم من المثقفين حتى لا يلجوا البادية المغربية، التي كانت مجالَ اشتغال عاريف وباسكون، كما غذت ذلك الشكَّ فاجعة الاختفاء الغامض لابني بول باسكون: جيل ونادين، في الصّحراء، قبل رحيله بتسع سنوات.. كان بول باسكون يتميز طيلة حياته بطابع الحذر الشّديد والاعتناء بأدقّ تفاصيل مُعدّاته والسيارات التي كان يستقلها -كما تضمّنت يوميات سفرياته- حذر وحيطة لم يأتيا من فراغ.. وكأن لسان حاله كان يردد مقولة الفيلسوف الإنجليزي الشهير طوماس هوبس «أنا وُلَْدت والخوف توأمان»، فقد أمضى جزءا من طفولته متخفيا عن أنظار سلطات الحماية الموالية لنظام فيشي، بعيدا عن أعين العسس الاستعماري ومُخبريه، وزاد من حدة هذا الحذر الاختفاء الغامض لابنيه الوحيدَيْن في الصّحراء، ناهيك عن مواقفه السياسية «الحمراء» التي كانت تنهل من معجم المُعارَضة الفكرية والعلمية لبنيات التسلط الاقتصادي والسياسي الاجتماعي في المغرب، تلك المواجهة المستميتة التي تعبّر عنها جليا مقالاته حول الإصلاح الزراعيّ والمسألة الفلاحية وطبيعة نمط الإنتاج في المغرب، إضافة إلى علاقة مركز السلطة وهوامشه عبر دراسته نموذج زاوية «إليغ»، عاصمة السملاليين في الجنوب. لقد كان الراحل شغوفا بالمغرب، الذي ازداد في أحد سهوله وحمل جنسيته في ما بعد، حيث رأى النور يوم 13 أبريل من سنة 1932 من أبوَين فرنسيين في منطقة تقع بين «الضويات» و«وادي النجا»، في سهل سايس، وهي المنطقة التي تحولت إلى ضيعة مَلكية بعد الاستقلال.. تحكي هذه المنطقة طفولته المبكرة، كما تبرز فشل الجهود التي بذلها الراحل باسكون في إحلال العدالة والحكامة في تدبير واستغلال البنية العقارية والفلاحية في المغرب. وكان جديه في السابق معمرين «بسيطين غارقين في الدّيون، يعيشان على الحد الأدنى.. علاوة على أنهما لم ينجحا في المجال الفلاحي، مما اضطرهما إلى الابتعاد عنه قبيل الاستقلال».. أما والده فقد اشتغل مهندسا في الأشغال العمومية داخل إدارة الحماية، وقد سبق أن كُلف بإنجاز سد على «واد كير»، وهو المشروع الذي توقف إتمامه بسبب خوف السلطات الفرنسية في الجزائر من تأثير المشروع على سقي واحات توات وتيديكلت، وغداة الحرب العالمية الثانية فُرِضت الإقامة الجبرية على والدَيه بسبب مناهضتهما نظام فيشي الموالي للنازية، حيث سوف يحاصر والده في بوذنيب (في الجنوب الشرقي للمغرب).. أما والدته فقد فرِضت عليها الإقامة الإجبارية في ميدلت، فاضطرّ بول إلى المكوث في إحدى داخليات فاس لوحده طيلة فترة الحرب حتى الإنزال الأمريكيّ على شواطئ إفريقيا الشمالية سنة 1942. وقد بقي معزولا عن أقرانه الفرنسيين، ما عدا عن أصدقائه المغاربة الذين عوّضوه الدفء الأسَري المفقود، فانكبّ على تعلم اللغة العربية، جاعلا منها لغته الأجنبية الثانية، وهو الأمر الذي سوف يؤثر لاحقا في مساره الفكري والعلميّ، ويسمح له بفهم متقدّم ل»شفرات» المجتمع المغربي، وكذا بالاطلاع على الوثائق التاريخية للزوايا والجماعات التي قام بدراستها. الاختفاء الغامض لابنَي باسكون قبل تسع سنوات من وفاة أحمد عاريف وبول باسكون، وبالضبط يوم 27 دجنبر من سنة 1976، سيقرر الابنان الوحيدان لبول باسكون، نادين (18 سنة) وجيل (19 سنة) التوجه في رحلة استجمام رفقة أصدقائهم، وهم الإخوة جون (19 سنة) وبياتريس غييو (17 سنة) ابنا المستشار السياسي في السفارة الفرنسية آنذاك، وفؤاد الفايز، ابن إطار في إدارة البريد، وكوليت بلانشوت.. كانت وجهتهم البحيرة الساحلية «خنيفس»، التي توجد بين طرفاية وطنطان، قرب «رأس جوبي» في الجنوب المغربي، والتي اعتاد الابنان باسكون الاستجمام فيها رفقة والدهما، المُغرَم بالطبيعة العذراء للجنوب. لكنْ لم يكن في حسبان هؤلاء الفتية أنّ تلك الرحلة السياحية سوف تسحبهم بعيدا داخل رمال الصّحراء، التي بدأت تشتعل فيها مواجهات عسكرية شرِسة بين القوات المسلحة الملكية، من جهة، وميلشيات البوليزاريو والقوات الجزائرية، من جهة أخرى. لقد كانت مغامرة غيرَ محسوبة العواقب أكثرَ منها رحلة ترفيهية للاستمتاع بسحر تلك المنطقة السّاحلية.. وفي ثاني يناير، بدأ القلق يدبّ إلى نفوس أسر هؤلاء الشباب، الذين كانت عودتهم مرتقبة قبل ذاك التاريخ. وبسرعة البرق، شاعت فرضية اختطاف الشباب الذين كانوا على متن الحافلة الصّغيرة التي أقلتهم من الرباط إلى البحيرة، من طرف كوماندو تابع لجبهة البوليزاريو. مرد تلك الإشاعة هو سيطرة البوليزاريو على تلك المنطقة في تلك الفترة، وتبعا لذلك السيناريو المشؤوم، تحرّكت السلطات الفرنسية للاتصال بفرع الجبهة في باريس، الذي أكد عدم تواجد الفتية في حوزتهم، وجاء في بيانهم الرسمي للسلطات الصادر يوم 12 يناير كما يلي: «عندما نعتقل أحدا ما، فإننا لا نخفيه، والجبهة لا علاقة لها بالحادث».. وبعد أيام قليلة، أصدرت الجبهة بيانا آخَرَ تعترف فيه بمسؤوليتها عن خطف سبعة فرنسيين، مع تكذيب قاطع لتهمة خطف فتية الحافلة التي كان على متنها أبناء باسكون ورفاقهم.. في خضمّ تلك الأجواء الصّعبة، التي لم يكن يطبعها غيرُ أزيز الرّصاص ودويّ المَدافع في الصّحراء، قادت الشرطة المغربية تحقيقا جديا لسبر مصير الفتية العالقين ف الصّحراء، والذين فند ضياعُهم الرّوايات الرسمية حول «الجنوب الهادئ والخالي من كل صراع مع الجماعات المسلحة».. أما في فرنسا فقد أصبحت قضية هؤلاء الفتية قضية رأيٍ عامّ، ما دفع أحد الصّحافيين البارزين آنذاك، وهو فرانسيس هيلد، من مجلة «لونوفيل أوبسيرفاتور»، إلى إنجاز تحقيق وتتبّع الحافلة المنكوبة. ويحكي الصحافي الصعوبات التي لاقاها في مهمته، متمثلة في التضييق عليه أحيانا، وفي منعه أحيانا أخرى من ملاقاة الشّهود النادرين في المنطقة، وهم الصّيادون الذين غادروا بُحيرة «خنيفس» بعد الحادث ولم يتبق غير شباكهم ومُحرّكات قواربهم، كما مُنع أيضا من ملاقاة حارس الكوخ الذي أقام داخله الفتية الضائعون، بدعوى ثرثرته «وكلامه الزائد».. توجه الصحافي هيلد من أكادير على متن سيارة تابعة للدرك الملكي، ولمّا وصل إلى طانطان سجل استغرابه «هلع» السلطات والعسكريين المرابطين في المنطقة، الذين وفروا له مروحية عسكرية للتنقل إلى «البحيرة المشؤومة»، وعند وصوله تم تطويق المنطقة برمّتها بحزام من العسكريين، مع استنفار تام لمُعدّاتهم العسكرية ومناظيرهم، التي كانت تراقب كل المنطقة خوفا على الضيف «غير المرغوب فيه». لقد عاين الصحافي الكوخ المشارف على البحيرة وسجّل الملاحظة نفسَها التي أفاده بها باسكون -الأب، وهي أنّ الكوخ لا يحمل أيَّ آثار لعراك أو اقتحام من طرف أشخاص ما، فجميع الأواني وأغراض الشباب داخله مرتَّبة وتشير إلى أنّ اختفاءهم كان خارج منطقة البحيرة، على الطريق، التي تبعد أمتارا قليلة من الكوخ. «ربما يكون البدو الرّحل هم من خطفوا الشباب؟».. تلك كانت العابرة التي نبس بها الضابط المرافق للصحافي هيلد، لكنّ الجيش المغربي سبق أن قام بترحيله هؤلاء الرّحّل عن تلك المنطقة! ربما التحقوا بالميلشيات المسلحة للبوليزاريو بعد خطف الحافلة التي كانت تقل الشباب؟ كل تلك الأسئلة راودت الصحافي والعسكريين المرافقين له. لكن الرواية الرسمية أكدت مغادرة الشباب الكوخ «بشكل عادي» يوم فاتح يناير على الساعة السابعة مساء تقريبا، دون أن يتم رصد أي أثر لهم في طرفاية، جنوبا، أو بفي طنطان، شمالا، لقد اختفوا في الشرق، حيث كانت ميلشيات الجبهة تسيطر. وتبقى فرضية اختطاف شباب الحافلة من لدن البوليزاريو هي الأرجح، حسب رواية «علي»، حارس الكوخ، للسلطات، والذي مُنع الصحافي من لقائه، حيث كان هذا الحارس قد أكد مرور سيارتين ذاتا دفع رباعي في المنطقة، كانتا تحملان على متنهما رجالا مسلحين ينتمون في الغالب إلى جبهة البوليزاريو، اصطحبوا الحافلة بعد إطلاقهم أعيرة نارية في السماء... في يوم 13 يناير، بثت إذاعة البوليزاريو نبأ اختطاف فرنسيين في المنطقة نفسِها، أحدهما يحمل بطاقة دبلوماسية، وهي الوثيقة التي تم إيجادها لاحقا في حوزة جنديّ مغربي لقي حتفه في إحدى المواجهات العسكرية.. تعود البطاقة ل جون غييو، موقعة باسم عمر بن شكران، ذلك كان جزءا من التصريحات والتصريحات المضادة لإذاعة البوليزاريو والسلطات الجزائرية، التي أكدت، من جانبها، وفاة الشباب بعد أن علقوا في إحدى المعارك بين كل مقاتلي الجبهة والقوات المسلحة الملكية، وهي الرواية التي رفضها المسؤولون المغاربة، على اعتبار أنّ هؤلاء الفتية ضاعوا في مناطق تسيطر عليها جبهة البوليزاريو. سجل الصحافي المحقق امتعاضه من تلك التصريحات، التي لم تفد في شيء، عدا في تسليط الضوء على الوضعية السياسية والعسكرية الصّعبة التي تعيشها المنطقة حديثا في ذاك التاريخ (1976). كما سجل مؤاخذته على عامل طانطان، الذي سمح بولوج السياح منطقة تحدق بها أخطار بالغة دون توفير أدنى شروط الحماية لهم.. وأمام ضيق أفق التحقيق الذي قاده ذلك الصحافي الفرنسي، أصدرت مجموعة من الشخصيات الفرنسية الوازنة نداء إلى الأطراف المعنية، يدعو إلى الإفصاح عن مصير الشباب الضائعين وسط الصحراء، كما أكدوا فيه ضرورة فتح تحقيق بخصوص بطاقة أحدهم، التي وجدت في الصّحراء. ومن أهمّ الشخصيات الفرنسية التي وقعت ذلك النداء نذكر: لويس أراغون، جاك بيرك، فرانسوا شاتولي، جون دانييل، جون دريش، شارل أندري جوليان، جون لكوتير، ثيودور مونود، جرمان تيليون وفانسون مونتيل وآخرين.. إلى حدود كتابة هذه الأسطر، ما يزال مصير هؤلاء الشباب -ومعهم أبناء الراحل باسكون- مجهولا، لقد أصيب بول باسكون إثر هذا الحادث بجزَع كبير ألمّ به، لكنّ ذلك لم يمنعه من مواصلة مشواره العلميّ الفريد، لينطلق -بهمّة أقوى- في الانكباب على فهم وتحليل النسق الاجتماعيّ المغربي، قائلا على صفحات مجلة «لام أليف»، في سنة 1978: «بعد أن أخذت التداريب وتيرة متسارعة، الآن، والآن فقط، يمكنني فقط الانخراط في تفكير نظريّ، إنني أستطيع فعل ذلك، في هذا الوقت بالضبط»..