في مجموعة عبد اللطيف اللعبي الأخيرة، «مغامرات حالم عنيد»، يَتمّ اعتماد عُدّة غنيّة بتنوّعها في بناء القصيدة: الذّاكرة، السُّخرية المَرِحة، الفكاهة شبه السّوداء، التّأمّل المبني على إدراك اللحظة أو الظّاهرة أو المشهد أو المُعْطى الموضوعي العامّ من خلال آليات تصويرية، استرجاعيّة، سرديّة، ذهنيّة... تتشكّل المجموعة من قسمين كبيرين: «الكتاب الأوّل»، و«الكتاب الثّاني». ٭ يتكوّن الكتاب الأوّل، بدَوره، من أقسام صُغرى، كلّ منها يتضمّن عددا من القصائد. أوّل هذه الأقسام يَحملُ عنوان: طاولة ممسوحة، صغيرة. يبدو نعتُ «صغيرة»، هنا، كإشارة لا تخلو من بَعضِ التّفكّه إلى أنّ مسح الطّاولة لا يحمل لدى الشّاعر المعنى الذي اعْتُمِدَ به في الفلسفة الدّيكارتية. وبالفعل، فإنّ بعضا مما تتوخّاه الذّات الشّاعرة هو استقصاء «دُوَار اللانهائي/ مدى جسامة الألم/ عواصف الحُبّ المُعاكَسَة...» (ص 11). ولأنّ هذا الاستقصاء شعريّ الطّابع، فهو نسبيّ المُحصّل، قابل للاغتناء، يعتمد الكلمات، وفي كلَّ مرّة، يشحنها بطاقة مُتَجَدّدة: «في المادّة السّوداء/ للكلمات/ يحتفظ السّرّي/ بسرّه» (ص 12). في هذا النطاق، لا يتردّدُ الشّاعر في «تعنيف» نفسِه بَعْضَ الشّيء، بسبب احتمال عدم معاملتها للكلمة بما يلزم من «لياقة» و«لباقة»، فهذه الأخيرة – الكلمة- هي بمثابة «طائر منتوف الرّيش» (ص 21 )، تجدُرُ «ملامستُه» بحدب، وليس «إدخالُه إلى المعدة/ وكَتمُ الأصوات النّاجمة/ عن الازدراد...» (ص 21 ). إنّ الذّات الشّاعرة هي، طبعا، «مُجَرَّدُ جسد/ له رأس/ ومستتبعاته» (ص 11 )، وقد يَحدُثُ أن تَحُدّ منطقة ما في هذا الجسد من الغلواء الميتافيزيقيّة للرّأس، كما يظهر ذلك من خلال قصيدة مكتوبة برُوح فَكِهة، نعلم من مطلعها أنّ ما سيُسرَدُ علينا ليس «بالقِصّة الصّاخبة»... بعدها، نَجِدُ أنفسنا إزاء رجُلٍ -يَبدو أنّه الشّاعر نفسه، بذاته المُجَسّمة أو المُتَخَيّلة- يستيقظ في يوم ما، فلا يعودُ يَعْرِفُ شيئا عن شَخصِه أو عن زمان ومكان وجوده أو لُغَتِه... لكنّه لا يرتعب، وإنّما تستبدُّ به الرَّغبة في البقاء على حاله الجديدة لزمن طويل، بل وبصورة نهائيّة إن أمكن. ثمّ تنْحلُّ عُقدة القِصَّة، بمفعولِ «حاجة مُلِحّة»، وتكون العِبْرة المُسْتَخْلَصة هي التّالية: «أيّتُها المثانة، كم أنتِ عدوّة للميتافيزيقا!»، هذه العبارة تُحاكي، بسخرية مرِحة أسلَفْتُ الكلام عنها، قولة نيوتن: «أيّتها الطّبيعة، كم أنتِ معادية للميتافيزيقا!». هذا النّزوع إلى السّخريّة -التي قد تكونُ مُبَطَّنة، أيضا، بأسى مكتوم، تعلمتِ الذّاتُ كيف تُجالِدُه- نَجِدُه في قصائد أخرى يتوجّه فيها الشّاعر إلى نفسه، جاعلا هذه الأخيرة موضوعا للسَّبْر، الأمر الذي يفضي إلى التّساؤل عن الهُوِيّة، وعن الزّمن والذّاكرة والصّيرورة... لنقرأ: «ها أنتَ تقف، تتمشّى قليلا لتتأكّد أنك لاتزال أنت، أي ذلك الكائن الذي يمشي على قدمين، القصير القامة، الذي تقوّس ظهره منذ وقت، بذراعيه اللتين تنوسان إلى جانبيه -هو الذي تبدو له الأذرع ضرْبا من النّشاز، فكأنّها، عند الآخرين، قد أضيفت إلى الأجساد- ورأسِه، رأسِ كائن في طفرة، ما بين العصفور والحصان، بفمه المُحكم الإغلاق، فليس ينفتح إلا حين تتحرّك الأصابع فوق الصّفحة، بتاريخه الذي كان عاصفا فيما مضى، وآل إلى سكون متصاعد الرّتابة... إنّ هُويّة مثل هاته تبعثُ فيك القلق، إذ تشعر أنّها تنزاح وتبتعد عنك. فكيف يمكن أن تكون في نفس الوقت هذا وذاك؟..» (ص 83). في عدد من قصائد هذا «الكتاب الأوّل»، تَتِمّ مساءلة شعريّة للذّات - وللآخر، من خلالها- تتعلّقُ بخصوصيات وضعِ إنسان عصِرنا. تتّخذُ واحدةٌ من هذه القصائد تيمةً لها ردّةَ فعل شخص ما، يُمكنُ أن يَكون الشاعر أو غيره، إزاء الصّور الشّاهدة على القتل والدّمار، التي تعرضها علينا قنوات التّلفزيون كلَّ يوم. « إنّه وقتُ العشاء/ ها هي الصّور المعلنُ أنّها لا تُحتمل/ ينتقل المرء بناظريه إلى وِجهة أخرى... وإذ تنتهي الوجبة/ يحدثُ أن يتساءل/عمّا إذا لم يكن قد أكل/ لحْمَ مثيله/ وبتدقيق أكبر/ لحمَ أطفاله...» (ص 41). ثمّ ما الذي يَحدث، بَعْدَها؟ يَتِمّ الإعلانُ عن عرض «مباراة في كُرَة القدم»، أو «شريط جديد»، فَيُقْصى من الذّهن ما كان «يُعَكّر الصَّفو» وأصبحَ، فجأة، مُجَرَّد «هواجس صغيرة»! (ص 41). فهل دخل الرُّعب الذي يزخر به جحيم زماننا في حَيّز المألوفِ والقابلِ للاحتمال؟ هل أصبحتْ مشاهد الدّم البشريّ المُراق معتادة، روتينية، في حياتنا اليومية؟ هذا لا يؤدّي، طبعا، إلى استقالة جماعية من الأمل.. الحُلم. ف«الحالمون» لن يشاؤوا أن يتغيّروا، ولا يُمكنُهم ذلك على أيّ حال. وهم ليسوا في حاجة إلى الكثير. «ما يحتاجونه هو، فحسب، قليل من الماء/ وشعاع شمس/ وكِسْرَةُ خبز/ ساخنة إن أمكن/ وأن تكون قد تناهتْ إلى آذانهم ولو لِمرّة واحدة/ ولو في حياة سابقة / النّبرات التي تنضح بالحبّ / في أي من اللغات... » (ص 59). وهم بيننا «أكثرَ عددا ممّا نَظُنّ»... ٭ «الكتاب الثّاني» يَتضمّن قصائد تندرج تحت عنوان عامّ: « مغامراتُ حالم عنيد »، وهو، أيضا، عنوانُ المجموعة ككلّ. ليست «المغامرات» هنا بالبُطوليّة، فهي عبارة عن أحداث يعيشُها الشّاعر العائدّ إلى وطنه لفترة، لها فرادتُها بالنّسبة إليه، وقد تتخلّلُها مُنَغّصات وشيء من النّكَد. أولى قصائد هذا القسم الثّاني تصفُ لنا وصول الشّاعر إلى الرّباط، وآخرها تتعلّق بعودَتِه إلى باريس. تبتدئ القصيدة الأولى بالشّكل التّالي: «الرّباط/ ها أنتَ تغادر المطار / وفورا، تتصرّف مثل البَعْض ممّن يَحلو لك/ أن تضْحك من سُلوكِهِم / ترغبُ في مكالمة زوجتك/... /تقول إنّ الشّمس مشرقة/ حتّى قبل أن ترفع عينيك إلى السّماء...» ( ص 97 ). مرّة أخرى، نجد أنفسنا إزاء تباعد عن الذّات، مبَطّن بسخرية تشحذ الحِسّ النّقدي والقُدْرَةَ على التقاط الجزئيات الصّغيرة... نتتبّع «مغامرات» الشّاعر المُختلفة في بلده الأصليّ. فهنا يلتقي صديقا قديما، وتحضر الذّكرى وتتبادلُ مع المعيش إضاءاتٍ تكتسب معها اللحظة كثافة تعمل القصيدة على تجسيدها، وهناك يَجِدُ نفسه أمام بيت كان قد أقام به قبل سنوات عديدة، ومنه اقتيدَ إلى التّعذيب، فَالسّجن... للسّرْد، في هذه المَجموعة، حضور قويّ. ففي قصيدة «الشّارد، والأكثر شرودا»، مثلا، يتبَدّى لنا السّارد -يُمكننا أن نتحدّثَ عن سارد في الكثير من قصائد المجموعة- رفقة صديق، شاعر أيضا. قصْد التّحادُث بارتياح، يمضيان إلى أحد المقاهي. نُدرك أنّ «الأحداث» تدور في مدينة وجدة. ما إن يُفصح الصّديقان لواحد من النُّدُل عن طلباتهما حتّى ينشبَ شِجار بين نادل آخر وأحد الزّبائن. يتدخّل بعض الحاضرين للحيلولة دون التّطوّرات الدّرامية المُمْكِنة للمشهد. «في تلك الأثناء/ تكون قهوتك قد أصبحت فاترة وبلا طعم/ مثلما كأس الماء التي تغمس فيها شفتيك/ لذا، في هذه المرّة / لا تبادرُ إلى تسديد الحساب...» (ص 136 ). يغادر السّارد وصديقه المَقهى. لكنّ هذا الأخير لم يَعُدْ يَتذكّرُ أين تَرَك سيّارته، وَلِذا يَقتادُ صاحبَنا في طواف طويل يمتدّ لما يَرْبو على الرُبْعِ ساعة، عبر«أزقّة لم تعد، فجأة، تبعثُ على الاطمئنان»! بشكل تلقائي، يتِمّ في ذهن السّارد رَبْط بين هذا الضّياع وبين «شروده» هو لحظةَ تَسْديد الحساب. لذا فرفيقه يَبْدو له «كأنّما بلسان حاله يُريد أن يقول / ها هو الشّارد قد التقى / بمن هو أكثر منه / شرودا»! (ص 136، 137). أشير، أيضا، إلى أنّ المجموعة لا تزخر بالصّور ذات الطّابع الحُلمي، لكنها، بالمقابل، لا تخلو من قصائد تتضمَّن سردًا لأحلام، تُخيّم عليه أجواءُ فكاهةٍ شِبْهِ سوْداء. ففي قصيدة «الحقيبة» (ص 140 )، مثلا، يتوجّه الشّاعر إلى نفسه، في المَطلع، بالصّورة التّالية: «عَشِيّةَ سفرك / تفتح حقيبتك لتضع فيها، بدءا / الأشياء التي يُحْتَمَل أن تسْهُوَ عنها...»، لكنه يكتشف أنّ هذه الحقيبة ممتلئة، سَلَفا، بأشياء متنافرة: «كيس يحتوي على كرَيّات زجاجيّة / جلابية أبيك القديمة / وهي كلّ ما ورِثْتَ منه من متاع / قارورة العسل / المماثلة لتلك التي انكسرت يوما ما / في حقيبة أخرى، خلال سفرة إلى إسبانيا / لمْ يَسُدْها الهدوء...»، وإضافة إلى كُلّ هذا، هنالك، أيضا، «جُبّة الرّاهب التي كُنتَ قد ارْتَدَيْت / لتلعب دورك / في مسرحية « بنادق الأمّ كرار»...». يَبْدو لنا الأمر على جانبٍ من الغرائبيّة، ثمّ يصِل إلى أوج غرائبيته حين نقرأ أن من بين ما يوجد في هذه الحقيبة، هنالك، أيضا... «قائمتا الطّائر الأوحد» الذي قام الشّاعر بذبحه في حياته (ذات يوم بعيد من زمن مضى)! بَعْدها، سنكتشف أنّ الأمر يَتَعَلّقُ بحُلم، إذ، في النّهاية، يَفتح صاحِبُنا عينا، ويُدرك أنّ الفجر لم يحُلّ بعد بضوئه الغائم، «ليُبَدّدَ الوحوش». إنّ ما يَتجلّى في نهاية المطاف، من خلال هذه المجموعة، هو مقدرة الشّاعر على تجديد دماء قصيدته.