هل جرّب أحدكم أن يكون من هواة «حل المشاكل»؟ إنها هواية ساذجة وطريفة مررنا بها جميعا يوم كنا لا نرى من الدنيا إلا الأراجيح والطيور والمروج والغيوم الشفافة المسافرة، بمعنى يوم كنا لا نرى شيئا أو نكاد، وما أن استفقنا من غيبوبتنا الحلوة حتى انذهلنا مما رأينا وسمعنا وعانينا، إلا أن الاستفاقة من الحلم اللذيذ ليست مرهونة بعمر محدد لأن بعض الناس يظلون طوال أعمارهم القصار نائمين في عسل الوهم أو مسرنمين على الدوام. وبالتالي سعداء بكونهم حلاّلي مشاكل ومالكي عِصِي الساحرات التي كل صعب معها يهون. فهم، لغشاوة وعمى ألوان، لا يرون من الكوب نصف الفارغ إلا الامتلاء وما عداه لا يعول عليه. هؤلاء أشخاص وديعون جدا، أعمارهم غضة في الغالب، ومستوياتهم التعليمية متواضعة كما هي تجاربهم في الحياة. ولأنهم لم يلدغوا من الجحر اللدغة الأولى فإن العالم في نظرهم يظل أقرب إلى الأنشودة، وإذا ما شابته نغمة نشاز فيكفيه منهم إيماءة صغيرة كي يتدوزن السلّم على مقام «ياليل ياعين». هم حساسون جدا كفراشات الزميل حميد ركاطة، دموعهم سخية إذا ما دعا الداعي أو حلت بشخص داهية، يشاركونه في المصاب بخاطرة لا يحكمها إيقاع سوى حسن النية وبضع كلمات مقدودة من مسكوك الكلام. هم إنسانيون جدا إلى الحد الذي ينصحون فيه الجوعى بالصوم عن الطعام تلافيا لزيادة نسبة الكوليسترول في الدم وتخسيسا لأوزان قصائدهم. أما العِطاش فلهم رخصة التيمم إذا ما عز الماء. وقد يذهبون أبعد من أنوفهم قليلا في تقديم المساعدات البلاغية- ذات اليمين وذات الشمال - للحيارى، وتخليص المغلوبين على أمرهم من مشاكل الحياة ببعض اللوم والتقريع الخفيف. فالفقراء ما كان عليهم أن يكونوا فقراء، سيما أن الفقر صنو الكفر- والعياذ بالله- فلمَ الفقر؟ وإمعانا في اللطف فهم مستعدون دوما لتزويد غيرهم- في رسائل شخصية- بنصائح غير قابلة للنشر ولا للتذييع تتضمن بعض الأمثال القديمة والأدعية وأشعار المتنبي في هجو كافور، شريطة بعث ظرف بطابع بريد والانتظار....في القائمة، أو العنوان الإلكتروني لمن ولج عتبة الألفية الثالثة وألفية ابن مالك. هم أشخاص خبيرون في حل المشاكل، يقتحمونها عنوة كما لو كانت شبكة للكلمات المتقاطعة من الدرجة العاشرة، بأضداد ومرادفات وكلمات معكوسة وأخرى متشابهة ومبعثرة، حتى أن في «سيرهم الشخصية» العطرة لا ينسون إضافة هذه المزية -مزية حل المشاكل- إلى مجمل خبراتهم ومؤهلاتهم الذاتية مادام ذلك لايكلفهم سوى الادعاء وتصريف الأوهام، وهم بهذا سعداء حد الزهو على «المعذبين في الأرض» الذين، بخلافهم، لا يعرفون كيف يتدبرون الأمور بحكمة وذكاء. فالحياة، حياة حلالي المشاكل، لا علاقة لها بما قاله في حقها زهير ابن أبي سلمى (تعب كلها الحياة)، بل هي جميلة حسب عبارة الشاعر التركي ناظم حكمت، طبعا هم لا يعرفون زهيرا ولا ناظما. الحياة لديهم قطعة موسيقى وكفى وهم عصافيرها المغردة. فتبًّا للغربان الناعقة وتبّا للبُوم الناعبة. الحياة كما يرونها ويعيشونها سلسة وبلا نتوءات، فقط لأنهم لم يدخلوها بعد ولم يعيشوها، وإلا فإن الحياة أكبر من نظرتهم الطفولية الصغيرة وديونها- على الناس- أكبر من الجدولة. كاتب