سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بنعبد الرازق: «هذه حقيقة قضية الدم الملوث والعفورة اعترف لي بأني كنت مُجرّدَ ضحية» قال إنّ البصري أقنع الحسن الثاني بأنه كان يتاجر في الأعضاء البشرية ليبرر اعتقاله
ضحايا الحملة التطهيرية كثر.. منهم من امتلكوا الشّجاعة ليكشفوا بعضا من المعاناة التي عاشوها، وكثيرون فضّلوا التواري عن الأنظار، بحثا عن بعض السّكينة.. الأمثلة كثيرة عن أناس ذنبهم الوحيد أنهم وُجدوا في المكان والزّمان الخاطئين، ومن بين هؤلاء الصيدلي منصف بنعبد الرازق، الذي شكلت قضيته واحدة من أغرب القضايا التي أفرزتها حملة الاعتقالات الواسعة التي أشرفت عليها اللجن المحلية لمحاربة التهريب.. قضية أسالت كثيرا من المداد طيلة أشهر طويلة، واختلطت فيها حسابات السياسة والرّغبة في الانتقام بالدلائل العلمية ورأي الخبراء، حتى وصل صداها إلى خارج الحدود.. هل كان بنعبد الرازق مجرّدَ بريء التهمته الآلة الجهنمية التي كان البصري يقودها ضد مناوئيه؟ أم كان بالفعل، كما أصرّت البلاغات الحكومية ومسؤولون، من بينهم أحمد العلمي، وزير الصحة آنذاك، على ترديده من أنه كان يُهدّد صحة المغاربة من خلال تهريبه مشتقات دم ملوث بفيروس السيدا والتهاب الكبد، بتواطؤ مع بعض الجمركيين؟.. وما هي حقيقة الاتهامات التي بسطها الصيدليّ أمام هيأة المحكمة من أنه قد أدى ثمنَ رفضه «مُساوَمات» عدد من المسؤولين مقابل منحه ترخيصا باستيراد المواد الطبية؟ في الحوار الثاني يحكي بنعبد الرازق بعضا مما بقي عالقا في ذاكرته من محنة الاعتقال والمحاكمة، وضمنه نورد إيضاحات للبروفسور عبد الله بنسليمان، مدير معهد باستور، في أول خروج إعلاميّ له، بعدما تخلص من ثقل «السرّ المهني».. - ما الذي قاد صيدليا مثلك إلى حملة التطهير لسنة 1996؟ تابعتُ دراستي في مجال الصيدلة في فرنسا، وحينما عدت إلى المغرب، في سنة 1978، قضيت سنتين في وزارة الصحة في إطار الخدمة المدنية، ثم فتحت صيدلية في عين السبع، ولأنّ تكويني كان في مجال الصناعة الصيدلية فقد كانت أمنيتي أن أنشئ مختبرا صيدليا، وهو ما شرعت فيه ابتداء من سنة 1993، حيث أنشأت شركة «أنجيفارم»، وحصلت على تراخيصَ من الجهات المعنية ووقعت عقدين، الأول مع المختبر الإسباني «غريفوس» والثاني مع المختبر الهندي «تورينت»، وكان مُقرَّرا أن نفتتح معملا في تطوان، بشراكة مع المختبر الإسباني على أساس تصنيع قارورات «الصّيروم»، بنوعَيْه، من البلاستيك بدل قنينات الزّجاج التي كانت تستعمل آنذاك، وهو المشروع الذي كان بشراكة مع صيادلة آخرين، وكان المختبر يُسيَّر من طرف مجلس إدارة، وتم تعيين صيدلي مسؤول هو منصف برادة، وشرعنا في العمل.. وتم استيراد أول شحنة في أوائل سنة 1995، وعرفتْ إقبالا كبيرا من طرف المصحّات، ما دفعنا إلى أن نطلب شحنة ثانية خلال شهر دجنبر 1995، وفي انتظار أن يشرع مصنع تطوان في الاشتغال، قرّرتُ أن أخزّن الكميات المُستورَدة في مخزن في عين السبع، يملكه صهري، وكان يستغله في السابق لصناعة الألبسة.. إلى هنا كانت الأمور عادية.. إلى أن اتصل بي أحد الأشخاص في إحدى الليالي وأخبرني أنّ المخزن قد تم تطويقه، ثم اقتحامه من طرف العشرات من رجال الأمن بحضور كاميرات التلفزيون الرسمية، وكانت الساعة تشير حينها إلى الحادية عشرة والنصف ليلا، وفي اليوم الموالي اكتشفتُ أنه تم تشميع المخزن، ووجدتُ رسالة تخبرني بضرورة الانتقال إلى كوميسارية عين السبع، وهذا ما قمت به، رفقة صهري، على اعتبار أنه مالك المخزن، وقدّمتُ للمحقق كل الوثائق التي تثبت حيازتي شحنة «الصيروم»، فسألَنا عن بعض الآلات المُهمَلة التي كانت في المخزن، فأكد صهري أنه اقتناها ضمن التجهيزات التي كانت في المخزن، ولديه ما يثبت ذلك، فتم احتجازه، وفي مساء اليوم نفسه استقبلني بوشعيب أرميل، المدير العام للأمن الوطني حاليا، وكان حينها واليا للأمن، وطمأنني بأنْ لا علاقة لي بالموضوع، وبأني لستُ موضوعَ أي متابعة من طرف الجمارك أو النيابة العامة، وما علينا إلا أن يقدّم صهري الوثائق المطلوبة.. ولأنّ صهري كان مريضا بالقلب فقد اضطررنا في اليوم الموالي إلى أن ننقله إلى مصحة، بعد تقديم وثيقة طبية وقعها طبيب عموميّ، وهنا بدأت الأمور تأخذ منحى آخر، إذ بتاريخ 30 دجنبر تم استدعائي وسألني المحقق عن صهري فأخبرته أنه ما يزال في المصحّة، فأمرني بمرافقتهم إلى المخفر، لأفاجَأ بقرار اعتقالي، دون أن أعرف لأي تهمة.. فقضيتُ يومين تخللتها حصصُ استنطاق، وكان المحققون يرفضون أن يسجلوا كثيراً من المعطيات التي أخبرهم بها. - رغم تأكيد إدارة الجمارك أنّ وضعيتك سليمة تجاهها قرّرتِ النيابة العامة متابعتك؟ بالفعل، تم تقديمي إلى نائب وكيل الملك جمال سرحان، الذي رفض اعتقالي نظرا إلى غياب المتابعة، وقال لي بالحرف: «إذا لم تكن أي متابعة في حقك من طرف الجمارك فملفك فارغ ولن يتمّ اعتقالك».. وفي يوم ثاني يناير تم نقلي إلى إدارة الجمارك، وهناك رفض المسؤولون تمكينهم من قرار المُتابَعة بحجّة أنّ وضعيتي سليمة تجاه هذه الإدارة، لأفاجَأ، بعد ذلك، بتقديمي أمام وكيل ملك جديد لم يكن سوى نور الدين الرياحي، الذي خاطبني بأسلوب حاط من الكرامة.. ورغم تقديم إدارة الجمارك أمام المحكمة وثيقة تثبت عدم متابعتي بأي تهمة فقد بقيت معتقلا بسبب تهمة أجهلها، إلى أن نقلت في أحد الأيام إلى مقر شركتي، وظل مفتشو الشرطة يُدققون في الوثائق إلى أن تقدّم أحدهم -لم يسبق لي أن رأيته- إلى الثلاجة وأخذ عيّنات «الغاماغلوبيلين» التي كنت أحتفظ بها، وهي العملية التي شرحتُ للمحققين كل تفاصيلها وكيف تمت تحت إشراف معهد باستور.. كما حَجَزَ علب العازل الطبي التي كنتُ أحتفظ بها في مكان خاص في انتظار تدميرها بسبب انتهاء مدة صلاحيتها، وهذا موثق لأني كنت وضعت طلبا رسميا بذلك.. بعد أيام، تم نقلي في التاسعة ليلا إلى موقف السيارات التابع للمحكمة، وكان شخصٌ ينقل إليّ سؤالا تلو الآخر من شخص داخل سيارة، لم أتبين هويته.. وكان يسألني أسئلة مُحدَّدة تدور كلها حول مادة «الغاماغلوبيلين» والمضادات التي كنت بصدد استيرادها، وعدد من الأسئلة العلمية المُحدَّدة، وهي العملية التي استمرّت إلى حدود الواحدة صباحا. - أمام المحكمة تمّت متابعتك بتهم «ثقيلة»، وكنت دائما تنفي تورّطك في أي منها؟ أثناء محاكمتي فوجئت بعدد من التّهم، كانت أولها اتهامي بالتهريب واستغلال مخزن عشوائيّ، فصدر حكم ضدي بسنة سجنا نافذا وبغرامة، بعد ذلك توبعت في ملف جديد وبتهمة جديدة، وتم فيه إقحام ثلاثة جمركيين، وأقسم بالله إنه لم تكن تربطني بهم أيُّ علاقة، وتم دمجه مع ملف العوازل الطبية منتهية الصلاحية، وحكمت عليّ المحكمة اعتمادا على ظهير الغش في المواد الغذائية، وكأنّ العازل الطبي مادة غذائية يستهلكها المواطنون!.. وقرّرت المحكمة سجني 5 سنوات إضافية، مع أدائي الغرامة، كما حكمت على الجمركيين أيضا. - شكل ملف مادة «الغاماغلوبيلين» أبرزَ تهمة توبعتَ بها؟ سيشهد التاريخ أنّ الملف كان أكبرَ فضيحة تورَّط فيها منتسبون إلى القضاء ووزارة الصحة وجزء كبير من المسؤولين في دواليب الدولة، ضمنهم وزير الصحة آنذاك مولاي أحمد العلوي، ومدير معهد باستور.. وإلى الآن لا أستطيع أن أفهم على أي أسس استند بلاغ وزارة الصحة بتاريخ 29 يناير 1996، وكيف تمت متابعتي بتهمة إدخال عيّنات ملوثة بفيروس السيدا والتهاب الكبد.. وكيف انتقلت التهمة بداية من التهريب واستعمال مخزن لا تتوفر فيه الشروط إلى تهمة بهذه الخطورة، وصدر فيها حكم بسجني 9 سنوات.. ولكني فهمت -لاحقا- أنهم تورّطوا في ملفي، ولهذا كان من الضروري «إلباسي» قضية كبيرة ليُبرّروا اعتقالي.. وللتاريخ، أذكر الموقف الشّجاع الذي أبان عنه عدد من الأساتذة، منهم حكيمة حميش، التي كانت حينها رئيسة قسم الأمراض الجرثومية في ابن رشد، والراحلة نفيسة بنشمسي، رئيسة قسم أمراض الدم في المستشفى الجامعي نفسه، حتى إنهما تعرّضتا لتهديدات من طرف وزير الصحة.. وقد تمكنتا -في وقت لاحق- من الاتقاء بوليّ العهد آنذاك، وشرحتا له حقيقة ملفي وسلامة موقفي، كما أكدتا زيف المعطيات التي كان وزير الصحة أحمد العلمي يُقدّمها، واستحالة أن تتحول عيّنات من مُضادّات الأجسام إلى فيروس.. وهي الحقيقة التي أكدها العديد من الخبراء الذين أدْلوا بدلوهم في قضيتي، وأكدتها تقرير صادر عن المختبر الإسباني، وتقرير آخر من مختبر أمريكي.. وللأسف، ركز وزير الصحة على تقرير صادر عن معهد باستور، ونحن نعرف القدرات المحدودة للمعهد مقارنة مع معاهد عالمية أكدت صواب موقفي وموقف الزّملاء اللذين ساندوني. - من بين التبريرات التي قُدِّمت للحسن الثاني حين سأل عن ملفك أنك كنتَ تتاجر في الأعضاء البشرية!؟ لقد تأكدتُ من أنّ الأمر كان مجرّدَ وسيلة للتخلص مني بعدما تبيّن أنّ من اعتقلوني تورّطوا في قضيتي، والغريب أنهم قالوا للحسن الثاني إنهم لم يشاؤوا أن يكشفوا هذه الحقيقة حتى لا يبثّوا الفزع في نفوس المواطنين.. واتّضح لي أنهم كانوا يسْعَون إلى متابعتي أمام غرفة الجنايات، إلا أن الطيب الشرقاوي رفض متابعتي لأنه كان مقتنعا بغياب ما يُدينني ولا وجود لضحايا أو شكاية ضدي، والظاهر أنهم كانوا يحتاجون إلى «كبش فداء»، مثلما فعلوا مع الكوميسير ثابت.. المؤسف أنني وجدتُ نفسي ضحية حسابات سياسية، وحتى معارفي ممن كانوا مُقرَّبين من الحسن الثاني، وهما عبد اللطيف العراقي وإدريس السلاوي، لم يستطيعا فعل شيء لتأكيد براءتي، وربما كان ما وقع لي مجرّدَ رغبة من البصري في الانتقام مني لأنني قريبهما.. واليوم بعد 18 سنة، فقدتُ كل ما تعبت سنوات لتحقيقه، ودُمّر زواجي وفقدت ابني البكر.. ومما زاد من تأزيم وضعيتي أنني لجأتُ إلى هيئة الإنصاف والمصالحة، واستقبلني الراحل إدريس بنزكري وتسلم ملفي، لكني صُدمت بعد عشر سنوات للأسلوب الجافّ الذي حدّثني به أحمد حرزني حين لجأتُ إليه أبحث عن جواب لمآل ملفي.. كما صُدمت أكثرَ برد الهيئة، الذي تأخر عقد من الزمن، حيث تم تبليغي بكل بساطة أنّ ملفي لا يدخل ضمن اختصاصاتها.. - أثرتَ أمام المحققين والمحكمة أنك كنت ضحية مساومات من طرف مدير معهد باستور آنذاك، ومن طرف بعض المسؤولين، ما هي حقيقة هذه الاتهامات؟ فعلا، ذكرت أنني تعرّضتُ للمساومة من طرف مدير معهد «باستور»، الذي رافقني في زيارتي إلى مقر الشركة الإسبانية في برشلونة، وطلب مني 20 في المائة كعمولة ليسمح بدخول العينات التي كنت أنوي استيرادها، كما كان يصرّ على أخذ حصة 50 في المائة من شركة «أنجيفارم»، التي كنت رئيس مجلس إدارتها، وأتذكر أنه حين زيارتنا لمقرّ الشركة الإسبانية في برشلونة كان يُردّد على مسامعي «إننا نقف على منجم من الذهب».. وللأسف كان المحققون يرفضون تسجيل تصريحاتي، وفي المقابل تعرّضتُ لمعاملة سيئة وتم تجريدي من ملابسي وتهديدي ب»التعلاقْ» وباغتصابي عن طريق «القرْعة».. كما كان المحققون يُهدّدونني بالتعرض لأفراد عائلتي بسوء، وحتى القاضي الذي كان ينظر في ملفي لم يأخذ تصريحاتي هذه بعين الاعتبار. - ألم تبحث، بعد استفادتك من العفو الملكيّ، عن إجابات عن حقيقة ملفك لدى بعض المسؤولين عن الحملة؟ التقيت العفورة في لقاء عابر، وأخبرني بنفسه أن «الدّقة جاتكْ مْن بني ملال».. ولاحقا عرفت أنّ صهري عاش واشتغل في هذه المدينة على غرار أخيه، وربما كانت لهما خلافات مع شخصية نافذة هناك.. وفي مناسبة أخرى التقيت نور الدين الرياحي، الذي كان نائبا لوكيل الملك في ملفي، وقال لي: «أنا كنت مُجرّدَ منفذ للتعليمات، وهذه طبيعة مهمّتي ولا يمكنني مخالفة الأوامر، دون أن يُفصح عمن كان يُملي عليه هذه الأوامر»..