الأمطار التي تساقطت على المغرب هذا العام تعتبر غير مسبوقة في السنوات والعقود الأخيرة، والأرض التي عانت طويلا من تبعات الجفاف يبدو أنها عوضت كل أيام القحط السابقة، لكن المشكلة هي أنه لو عاد الجفاف إلى المغرب عاما أو عامين لوجد المغاربة أنفسهم يبحثون عن ماء للشرب. يقال الآن إن كل سدود المغرب ممتلئة، وفي الإحصائيات يبدو المغرب وكأنه لن يعطش من الآن فصاعدا، لكن إذا لم تسقط الأمطار العام المقبل سيبدأ المغاربة في النظر إلى صنابير منازلهم كأنهم ينظرون إلى عصافير ملونة يخافون أن تموت. لماذا نخاف، إذن، أن نعطش مع أننا نتوفر على كل هذه السدود؟ الجواب يبدو واضحا، فالإحصائيات والأرقام التي تقول لنا إن كل أو أغلب السدود ممتلئة، لا تقول لنا بأي شيء بالضبط هي ممتلئة هذه السدود.. هل بالماء أم بالطين أم بالماء والطين معا؟ بناء السدود فكرة جميلة، حتى إن الحسن الثاني كان يفخر بأنه باني السدود، لكنه في غمرة انشغالاته التي لا تنتهي، ربما نسي أمر تعهُّدها بالصيانة اللازمة، والنتيجة أنها امتلأت بالوحل، كما امتلأت أشياء كثيرة في عهده. وعندما داهمنا الجفاف في سنوات الثمانينيات، عطش الناس في كثير من المناطق وصاروا يستيقظون فجرا لكي يملؤوا كل شيء بالماء الذي لم يكن يستمر في الانسياب عبر الصنابير إلا ما يقارب نصف ساعة. والغريب أن إطلاق الماء في الصنابير كان يتم فجرا، وهي عادة غريبة لتعذيب رعايا مخلصين في بلد باني السدود. بنى المغرب سمعته الاقتصادية، لوقت طويل، على قضية السدود، وبدا كأنه بلد فلاحي لا يشق له غبار، وعندما تقدم لطلب الانضمام إلى السوق الأوربية المشتركة (الاتحاد الأوربي حاليا)، فإنه فعل ذلك من منطلق أنه بلد فلاحي قوي، وأنه بفضل فلاحته سيدخل السوق الأوربية من بابها الواسع. لكن الذي حدث هو أن كل تلك السدود وكل تلك الفلاحة لم تشفع لنا حتى لكي نطعم أنفسنا بأنفسنا، وصرنا ننتظر أن تطعمنا «ماما أمريكا» قمحا كلما ضنّت علينا السماء ببعض المطر، ولا زلنا إلى اليوم نصدر أحسن ما عندنا إلى باقي العالم، ويكتفي الناس بأكل ما يسر الله لهم في بلدهم الفلاحي. المغرب بنى، أيضا، وهما كبيرا على أنه بلد شاطئي ممتد الأطراف، وقليلة هي البلدان التي تتوفر على شواطئ طويلة عريضة مثل المغرب. لكن الغريب أن المغاربة هم أكثر الناس شكوى من غلاء السمك، وأكثر الأسماك وفرة في الشواطئ المغربية، وهي السردين، لا يقل سعرها عن عشرين درهما في الأيام العادية، أما في رمضان وبعض المناسبات فإنها تلبس قفطانا وتجلس فوق العمّارية وتقول لنا «اللّي لحقْني ياكلْني». بحارنا تشبه سدودنا، لقد اعتقدنا أنها مصدر خير وغذاء، لكنها امتلأت بالطين، طين الفساد والمحسوبية وكل أشكال الموبقات، ويندر أن تجد مغربيا يستمتع فعلا بأنواع السمك الموجودة في بحار بلاده. وكما جعلنا من خيراتنا الفلاحية مادة للتصدير فقط، فكذلك حدث مع أسماكنا، ولكن بشكل أفظع هذه المرة، لأنه بعدما كانت عبارة «بيع الحوت في الماء» مجرد استعارة لغوية خيالية، طبقناها في الواقع، وصار كبار الفاسدين يبيعون سمكنا وهو في الماء؛ ولم نكتف ببيع السمك، بل جزأنا بحارنا أطرافا وبعناها الإسبان والبرطقيز والروس والفرنسيين واليابانيين والكوريين وغيرهم. ما فعلناه في مجال الفلاحة والبحر فعلناه أيضا في مجالات أخرى كثيرة. لقد خلق المغرب تعددية حزبية وسياسية منذ أيام استقلاله الأولى، ثم تناسلت الأحزاب كما يتناسل البطيخ الأصفر صيفا في ثنايا الحقول؛ وبعد ذلك تبين أن التعددية الحزبية تشبه السدود، أي أن جزأها الظاهر ماء، بينما باطنها مجرد وحل، لذلك عندما تأتي أول مرحلة اختبار لهذه التعددية، يظهر أن جميع الأحزاب، تقريبا، هي مجرد حزب واحد مهمته التصفيق. هكذا اكتشفنا، بعد فوات الأوان طبعا، أننا بلد قرر اعتماد سياسة الحزب الوحيد، لكن عبر شطر الحزب الوحيد إلى عدة أشطر وجعله يبدو وكأنه عدة أحزاب مختلفة ومتباينة. الوطن يشبه سدا مملوءا بماء يهب الحياة للأرض وللناس أجمعين، لكن حين يمتلئ بالطين فإنه يتحول إلى مستنقع يزرع الموت في أوصال الأرض وأوصال الناس أجمعين. لدينا وطن فيه خير كثير، لكن الفساد أكل كلّ الخير تماما كما أكل الطين السد.