بمجرد ما تطأ قدماك كريان سنطرال بالحي المحمدي في الدارالبيضاء، تشعر أن للحياة طعم آخر، وسط ذلك الركام من الحجارة والأتربة والأزبال المتناثرة هنا وهناك، دمار وخراب أصاب الكريان وكأن زلزالا ضربه، براريك هدمت عن آخرها بعدما رحل سكانها إلى منطقة الهراويين، تاركين وراءهم ماض مليء بالأسى والألم. في وسط ذلك الدمار، مازالت العديد من الأسر تواصل حياتها الكئيبة داخل بيوت من القصدير، لا تقيها برد الشتاء ولا حرارة الصيف، ورغم ذلك فإنها ترفض الخروج من الكريان رغم الحلول المقدمة لها، لأنها ببساطة «غير منصفة»، فهي مصرة على العيش في الكريان رغم أوضاعه «المزرية» حتى الموت، عوض التكدس في شقة واحدة. الركام البشري على بعد خطوات من قيسارية الحي المحمدي وبالقرب من مدرسة «الإمام البخاري»، يقع كريان سنطرال على مساحة تقدر بقرابة 34 هكتارا، يحيط به الباعة المتجولون من كل جانب، لكن بمجرد ما أن يرخي الليل سدوله، يتحول الكريان إلى بؤرة سوداء تخيف سكانه وحتى المارين منه، فهو، حسب السكان، أضحى ملجأ للمنحرفين الذين وجدوا في ذلك الخراب ضالتهم لبيع المخدرات للقاصرين. بالقرب من ذلك الركام الحجري والبشري، وجدت أحد السكان وهو يقوم بحمل أمتعته فوق عربة، بعد أن استفاد من نصف بقعة أرضية سلمت له بمنطقة الهراويين بعمالة مديونة، مرفوقا بابنه الذي يساعده في حمل الأمتعة وعلامات السرور بادية على محياه الطفولي، بعد أن جاءت لحظة فراقه للكريان الذي لعب فيه رفقة رفاقه وسط دروبه الضيقة، «عشت هنا حياتي، تزوجت وولدت، وقضيت في هذا المكان أجمل اللحظات وأتعسها، لكن اليوم سأغادره بعد أن اكتملت شقتي في الهراويين», يقول عبد الكريم حظ عبد الكريم كان أحسن من غيره من الأسر التي مازالت جدران القصدير تؤويها في كريان سنطرال، أغلبها أسر مركبة تتكون من أبناء متزوجين مثقلين بأبناء، يريدون السكن ولا شيء غيره، أطفالهم أًصيبوا ب«الحساسية» وبأمراض جلدية بسبب العيش وسط الأزبال، في بيئة غير صحية. احتشد السكان وطوقوني من كل جانب، كل يحكي قصته مع غدر الزمن وقهره، منهم من عايش فترة الاستعمار ومازال صوت الرصاص يدوي في أذنيه، ولم يظفر كغيره بحقه في السكن. تقول سمية: «أنا وراجلي ساكنين مع والديه وأولادهم وما يمكنش نمشيو في برطمة وحدة، احنا مكرفسين هنا مع وليداتنا، بغيناهم يديروا لينا حل». وفي خضم هذا الحديث، قامت فاطمة، من مواليد الستينات بكريان سنطرال، بإدخالي منزلها لإطلاعي على وثائقها والشكايات التي قدمتها والاستدعاءات التي تلقتها، دخلت المنزل الصغير المكون من طابقين، تسكن فيه أربع أخوات، يعانين نفس الحيف ولم يستفدن من بقعة أرضية كما يطلبن. فاطمة، أرملة وأم لفتاة في سن التمدرس، «لا تتخيلي حجم المعاناة والضرر الذي نعيش فيه، ولكن لا يمكن أن نجتمع جميعا في شقة واحدة، احنا هنا كل واحد عندو طابق بوحدو»، تضيف فاطمة، «احنا حكرونا ماصابوش عندنا الرجالة وحكرونا، قالوا لأختي دي معاك خواتاتك»، تحدثت فاطمة بأسى عن التدويرة والرشوة، « لي ماعندوش الفلوس في هاد الكريان بقا خلا» تتابع أختها نعيمة، «ماغنديو غير شبر وربعة الصباع، وماعرفنا نلحقوا لهاد البقعة ولا مانلحقوش»، ولكن الذي يمكن أن أقول هو: «احنا مظلومين». أخرجت فاطمة حزمة أوراقها وبدأت تسرد قصتها، كسيدة, يتيمة الأبوين، وعاشت بالكريان سنوات طفولتها وشبابها، وعاشت أجمل لحظات الحياة وأحلكها. على مر سنين، تقول، تعاقبت على هذا الكريان وجوه لكثير من المسؤولين والقياد والباشوات، كل واحد منهم يعد السكان ويمنيهم بالعيش الكريم واللائق . سنة 2004، تم إحصاؤها مع الأسر المتضررة وظلت منذ ذلك التاريخ وفي كل إحصاء جديد تخرج حزمة أوراقها من جديد، لكنها اليوم تقابل برد «إنها ما محصياش» . أختها خدوج توصلت باستدعاء مفاده أنها استفادت من نصف بقعة، بعد أن تقوم بالبحث عن الشريك والشخص الثالث الذي يصطلح عليه بالعامية ب «مول الشكارة»، وسيكون نصيبها فقط شقة، وتضيف «قالوا ليا ندي معايا خواتاتي»، تنتفض فاطمة «احنا اهنا ومامفاهمينش عاد إلى جمعونا في شقة وحدة» . في حديثها، أصرت فاطمة على بقعة كاملة، وعليها أن تبحث عن الشريك لتظفر هي وابنتها بشقة، وإلا فهي لن تخرج من الكريان، «قاومنا الاستعمار ومستعدين نموتو اهنا». حل مرفوض العديد من الأسر مازالت لم ترحل من كريان سنطرال بالحي المحمدي، لأنها أسر مركبة من «الوالدين والأبناء والأحفاد»، عكس الأسر النووية، فكل شخص تم إحصاؤه واستفاد يقتسم مع شخص آخر بقعة أرضية بغية تشييدها معا، أو يتفقان مع شخص ثالث يتكلف بجميع المصاريف ويكون نصيبه شقة ومحل تجاري، إضافة إلى نصيبه في السطح . هذا الحل مرفوض من قبل جل الأسر المركبة، التي فضلت البقاء في الكريان رغم الوضع المزري الذي تعيشه، لأنه في نظرها خير لها من التكدس في شقة واحدة. قالت إحدى السيدات ل»المساء» إنهم أكثر من مرة كانوا عرضة للتهديد والوعيد من قبل السلطة، «قالوا لينا بأنهم غيقطعو علينا الما والضو وهناك من يقول بأنهم غيديرو لينا كيفما دارو لكريان السكويلة ولكن احنا هنا باقين وخا يقتلونا». وحسب مصدر مسؤول، فإن الكريان يضم 6400 براكة وإن الرخص التي تم توزيعها عددها محدد في حوالي 2600 رخصة، وما تبقى من البراريك، يضيف المصدر، حوالي 800 براكة، وهناك من السكان من هدمت براكته ومازال لم يتسلم الرخصة. في ظل هذه الظروف «البئيسة»، فإن الحياة مستمرة داخل الكريان بشكل عادي، لكن في وضع يرثى له، يغيب فيه الأمن وتنتشر فيه السرقة والجريمة، فالسكان لا ينامون ليلا بسبب شجار مدمني الكحول والمخدرات.ويتابع جواد (30 سنة)، «أنا عندي أخ متزوج ولديه ابنتان وأختي مطلقة، وكلنا نقطن في براكة واحدة والسلطة باغا تجمعنا في شقة». بينما يقول قاموس، صاحب محل سابق بالكريان: «هنا الناس كاين للي راضي بالوضع وكاين للي باغي يمشي فحالو، ولكن مانكدبش عليك كاينة الخشونة» قاموس، شخص استفاد من محل تجاري بمنطقة الهراويين ويأتي للكريان لزيارة أصدقائه القدامى. أما بالنسبة لمصالح الأمن، فلم تخف تخوفها من الإجرام الذي انتشر والذي يهددها، مطالبة بتسريع وتيرة إيجاد حلول منصفة لكل الأسر المركبة. وتعبيرا من السكان عن رفضهم للحلول المقترحة، وردا منهم على الإنذارات التي توصلوا بها والتي صدرت سنة 2012 عن اللجنة المحلية للمواكبة الاجتماعية حول مشروع إعادة إيواء قاطني «كريان سنطرال»، خاضوا وقفات احتجاجية جابوا فيها شوارع العاصمة الاقتصادية ونظموا خلالها مسيرة إلى القصر الملكي قوبلت بمنع السلطات. مطالب مؤجلة ازداد الوضع تعقيدا داخل كريان سنطرال، فبعد أن كان السكان القدامى وأبناؤهم ينتظرون مشروع إعادة إسكانهم بفارغ الصبر، خيم اليأس على وجوههم «الشاحبة» وملوا تكرار نفس العبارات لمدة تجاوزت الثلاثين سنة، تهميش وإهمال كان له وقع سيء على نفسياتهم التي قالوا دمرها «الانتظار». بالنسبة لسعيد عتيق، فاعل حقوقي ورئيس جمعية «الشهاب»، فإن ملف ترحيل ما تبقى من سكان كريان سنطرال عصي على الحل، إلا وفق استراتيجية واضحة المعالم يجب أن تتداخل فيها عدة جهات، فالكريان عرف عدة مشاريع منذ سنوات الثمانينيات، مشاريع سكنية ضخمة لم يستفد منها أصحاب الكريان بالطريقة الصحيحة، حيث يقول: «عرفت تلك المشاريع عدة «اختلالات» وبسببها دخل مسؤولون للسجن ومن ضمنها مشروع الحسن الثاني الذي أغرق المسؤولون عنه السكان في ديون أضحوا معها مهددين بالإفراغ» . كما أن العديد من قاطني كريان سنطرال، الذين انتقلوا للعيش في منطقة الهراويين في الدارالبيضاء يعانون العديد من المشاكل أيضا، فالمشروع السكني بها يعرف عدة نواقص تتعلق أولا بمساحة البقع الممنوحة للسكان، وأيضا عدم توفير البنية التحتية اللازمة لها، حيث يضيف «عندما تم إطلاعهم على التصميم النهائي للمشروع الذي بني في منطقة الهراويين، كان يضم آنذاك عدة مرافق اجتماعية من مدارس وثانويات وفضاءات خضراء، لكن الواقع الحالي بالهراويين يكذب ذلك وينفيه». و أشار سعيد إلى أن السكن في هذه المنطقة ليس بالأمر السهل، فعلى المستفيد أن يدفع 40000 درهم خاصة بالشقة و4000 درهم كرسوم للتسجيل والتحفيظ و4000 درهم خاصة بالتصميم، موضحا أنه في وقت سابق، سبق وذكر بأن المتضررين من السكان سيستفيدون من صندوق للضمان سيمنح لهم قروضا نظرا للمشاكل التي يخلقها إدخال شخص ثالث يتكلف ببناء المنزل، لكن ذلك لم يتحقق. وفي اللقاءات التي عقدت مع المسؤولين، كما قال، لم يتم إطلاعهم على حيثيات الملف وتفاصيله كما طالبت بذلك الرسالة الملكية. واعتبر المتحدث أن من ضمن النقط العالقة، والتي تؤجل القضاء على هذا الكريان، الأسر المركبة التي تعاني ظروفا اجتماعية واقتصادية صعبة، وكذا إعادة إحصاء الساكنة الحالية الموجودة في الكريان، لأن الكثيرين منهم حرمتهم، السلطة، على حد قوله، من الوثائق الرسمية رغم قدمهم في الكريان، موضحا أن ترحيل السكان يجب أن يعجل به حتى يرد الاعتبار لتلك المنطقة التي أكدت لهم السلطات أنها ستكون عبارة عن مساحات خضراء، سيتم نصب تمثال تذكاري فيها، رمزا لمقاومة سكان كريان سنطرال، نظرا لافتقار الحي المحمدي لمثل هذه الفضاءات. شهادة الهدم المشاكل التي يغوص فيها سكان كريان سنطرال كثيرة ومتفرقة، والحلول التي قدمت لهم يعتبرها أحد الفاعلين الجمعويين طلب عدم ذكر اسمه، مجرد «حلول ترقيعية». ومن ضمن المشاكل التي يعيشها سكان الكريان، مشكل يتعلق ب100 ساكن سابق في إطار برنامج إعادة إسكان دور الصفيح، استوفوا الشروط المطلوبة وقاموا بأداء مبلغ 4 ملايين وحددت لهم الأرض والرقم، ولكن لم يتمكنوا من البناء فوق أرضهم بالهراويين، لأنهم لم يجلبوا شهادة الهدم . هؤلاء السكان كانوا يستقرون في منازل ليست في ملكيتهم، فيتسائل الفاعل الجمعوي «كيف سيهدمونها؟» هذا الذي يعيشه هؤلاء المتضررون تجاوز السنتين ولم تجد له السلطات المعنية حلا يذكر، فمن هؤلاء الأسر من اكترى بيتا بثمن لا يستطيع تسديده، ومنهم من يعيش في الشارع، ومنهم من آوته بعض العائلات في قرى خارج الدارالبيضاء رغم تمدرس أبنائه في مناطق أخرى. هؤلاء المتضررون المائة تقريبا، مستوفون لجميع الشروط، قبلوا الانتقال إلى منطقة الهراويين على الرغم من غياب مجموعة من المرافق بها، ورغم ذلك واجهوا صعوبات إدارية لم يتمكنوا بسببها من البناء. لهذا فالحل المتبقي هو منحهم شهادة إبراء الذمة، مقابل التزام هذه الأسر بعدم العودة إلى دور الصفيح مرة أخرى. وأوضح أن عدة لقاءات جمعتهم مع مسؤولين بالعمالة دون أن تتوج بأي حل، وما يزيد الطين بلة هو أن استفادة بعض الأسر وحرمان أخرى، خلق نوعا من الاحتقان بين الأسر، جعل بعض هؤلاء المستفيدين الذين لم يتمكنوا من البناء فوق أراضيهم، يرفضون العودة للكريان من جديد، ومنهم من رضخ لذلك بعد أن عجز عن أداء السومة الكرائية، ليجد «البراكة» قد احتلت من قبل بعض الأسر، وهنا يدخل الطرفان في نزاع كبير تتدخل فيه السلطة والسكان. رحبة الزرع ليس سكان الكريان فقط من يطالبون بإعادة الإيواء، بل حتى أصحاب المحلات التجارية التي توجد بالقرب من الكريان يطالبون بالاستفادة، حتى يغادروا المكان. فأغلب سكان الكريان يزاولون التجارة ويستغلون المساحات الفارغة بجنباته لبيع «المسمن والبغرير» والملابس النسائية، وأغلبهم من النساء. بالقرب من الكريان كانت هناك عدة محلات يستغلها أصحابها لبيع الحبوب، الآن بعد قرار الترحيل استفادوا من محلات في منطقة الهراويين، لكنها لم تسلم لهم بعد، ولكن استفادتهم منها كانت مقابل هدم تلك الأكواخ التي كانوا يزاولون فيها تجارتهم بالرحبة «المشهورة» لمدة 80 سنة. أحد التجار التقيته في ذلك الصباح وهو يجلس تحت أشعة الشمس الحارقة بقبعته البدوية، تحدث عن الأزمة التي أصابتهم بعد الهدم الذي طال محلاتهم، قال: «أصبحنا مثل المتشردين» وأضاف «تنجيو نبيعو ونشريو هنا غير السبت والأحد، باقي الأيام تتجي السلطات وتمنعنا وتقول ما بقا لينا حق»، ويتابع «صحيح مابقا لينا حق في المحلات ولكن باقي لينا الحق في المعاش» . 30 سنة هي المدة التي قضاها المتحدث في ذلك المكان، كان محله يحتوي على حوالي 100 كيس من حبوب القمح، الآن أصبح يأتي بالكمية التي سيبيعها فقط، مما أثر بشكل سلبي على مدخوله المادي .