صدرت أواخر 2012 الترجمة العربية لكتاب «انقراض العالم الثالث: أسطورة التنمية وقوى التدمير الخفية»، الذي صدر بالإنجليزية في 2010، حيث يطرح كاتبه الدبلوماسي البيروفي أوزفالدو دي ريفيرو، سؤالا مثيرا للجدل: هل انقرض العالم الثالث؟. كما يشير إلى الأسباب التي حالت دون نهضة الدول النامية، خصوصا التي نشأت منتصف القرن العشرين في إطار تصفية الاستعمار، ويرصد العوامل التي تحرم الدول ذاتها في الوقت الراهن من تحقيق حلم/وهم التنمية، رغم الجهود التي تبذلها في سبيل تحقيق هذا الهدف. قبل سنوات قليلة كان الخطاب الدولي حافلا بمفاهيم عرف تداولها انخفاضا ملحوظا في الفترة الأخيرة، ومنها العالم الثالث. وقد التقط البيروفي أوزفالدو دي ريفيرو- الذي خبر العمل الدبلوماسي الدولي عندما كان سفيرا لبلاده بمنظمة الأممالمتحدة، واطلع عن قرب على أوضاع دول من العالم الثالث عين بها سفيرا للبيرو في العقدين الأخيرين- هذا التراجع في توظيف هذا المصطلح، فانبرى إلى طرح التساؤل عما إذا كان انخفاض تداول المصطلح دليلا على انقراض أو سيران في طريق الانقراض للشيء الذي يطلق عليه. ينطلق الكتاب من التسليم بأن «الدول القومية التي ظهرت في القرن التاسع عشر في أمريكا اللاتينية متخلفة، واعتبار جميع تلك التي تشكلت في آسيا وإفريقيا في القرن العشرين، وبعد مرور ما يربو من نصف قرن على قيامها، مجرد مشاريع دول قومية غير مكتملة وغير قابلة للنمو» قبل أن يخلص إلى أنها «مجرد أشباه دول قومية»، وهو ما يعني أن العالم الذي تشكله قابل للانهيار والانقراض. ومن ثمة ينتقل إلى الغوص في الأسباب التي «تحرم» الدول النامية من التنمية، وتجعلها أسيرة التخلف والفقر. أفول الدولة القومية أذكت الثورتان الفرنسية والأمريكية حلم شعوب عدة في مختلف بلاد العالم في تأسيس دول قومية على غرار فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية. لكن سرعان ما تحول هذا الحلم إلى وهم، وفق وصف أوزفالدو دي ريفيرو. «كان وهم الدولة القومية الديمقراطية التي تضمن للشعب رفاهيته وسعادته، جوهريا، نتاج الثورتين الأمريكية والفرنسية، ثم بدأ ذلك الوهم (الحلم)، بعد تلك الحقبة، يتجذر في أنحاء أخرى من العالم». ومع ذلك، ظل هذا الحلم/الوهم بعيد المنال في مناطق كثيرة من العالم، خصوصا في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وحتى في أوربا، وتحديدا شطرها الشرقي، لم يبرز هذا النوع من الدول بقوة إلا بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها و«تدمير الإمبراطوريتين متعددتي الأعراق النمساوية/الهنغارية والعثمانية»، فاسحة المجال ل«ظهور دول جديدة في البلقان والشرق الأوسط». وبعد الحرب العالمية الثانية، عاد الحلم/الوهم ليتوهج من جديد وتتقد شعلة الأمل في تحققه لدى جماعات بشرية عديدة في مختلف بقاع المعمور. وانضبطت هذه الولادة الثانية للدول القومية بضوابط وقواعد ومفاهيم جديدة أطرها السياق الناجم عن الحرب العالمية الثانية وتوجه العالم، عبر آلية منظمة الأممالمتحدة، التي شكلها المنتصرون في هذه الحرب، نحو تصفية الاستعمار. وكان بديهيا أن تكون المناطق الخاضعة للاستعمار حتى منتصف القرن العشرين تربة خصبة لبروز هذه الدول التي ستخرج إلى حيز الوجود دون أن تتوفر لها الإمكانيات الضرورية لتحقيق النمو والازدهار. وتتمثل المبادئ التي أدت إلى بروز هذه الدول في إعمال مبدأ حق تقرير المصير، والاعتراف به دوليا، وسيلة سياسية لتكوين الدول دون إيلاء أي اعتبار لقابلية تلك الدول الجديدة للحياة، وقدرتها على تحقيق التنمية، وابتكار نظام حكم فعال. وهنا، يخلص دي ريفيرو إلى أن العديد من الدول التي سعت إلى الانعتاق من الاستعمار طلبا للكرامة، وجدت «نفسها في أوضاع أسوأ مما كانت عليه حينما كانت مستعمرات». ومن هذا المنطلق، يتضح أن ما يعرف بدول العالم الثالث ولد فاقدا لفرص اللحاق بركب التنمية نتيجة قيامها أساسا على ما يسميه الكاتب «التجسيد الإيديولوجي لمبدأ تقرير المصير». ورغم إعلانه دعمه الشخصي لاستقلال البلاد ونبذه الاستعمار، فقد خلص إلى أن التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي كانت منشودة في دول العالم الثالث غداة حصولها على الاستقلال «مجرد أسطورة تروج لها الطبقات السياسية والتقنوقراطيات الدولية في هذه البلدان الفقيرة، فبعد خمسين عاما من التجارب على التنمية، ومليارات الدولارات من الإعانات، مازالت غالبية هذه الدول متخلفة». وفي السياق ذاته، يثير الكاتب عاملا يعتبره حاسما في استمرار تخلف دول العالم الثالث وعدم قدرته على تحقيق التنمية. إنه السيادة غير المكتملة أو ما يسميه حرفيا «السيادة المليئة بالثقوب». وتعد التبعية لقوى دولية كبرى واقتصادية عالمية قوية والارتهان إلى الطلب الخارجي أبرز معالم هذه السيادة الهشة، خصوصا على المستوى الاقتصادي. الأرستقراطية الجديدة تمتاز الشركات العابرة للقارات أو متعددة الجنسيات بحرصها الشديد على انتقاء الأماكن التي تستثمر فيها أموالها. تهتم فقط بالعوامل التي قد تمكنها من تحقيق أعلى أرباح ممكنة دون التعرض لأي مخاطر تذكر. وتدرس توزيع استثماراتها عبر العالم على أساس معايير دقيقة لا تمت إلى الروح الوطنية بصلة، وتتمثل بالأساس في توفر (البلد وجهة الاستثمار) على القدرات التقنية والإنتاجية، وانخفاض أجور اليد العاملة، والإمكانيات التكنولوجية، والبنيات التحتية الجيدة، والأسواق الداخلية المزدهرة، والاستقرار السياسي والأمن. وهذه عوامل لم تتوفر، حسب الكاتب، سوى في منطقة آسيا المحيط الهادي، وتحديدا في بلدان الصين والهند وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وماليرزيا والفلبين وتايلاند. وتأتي بعدها استثمارات أقل أهمية، في بعض دول أمريكا اللاتينية وبعض البلدان الشيوعية سابقا من قبيل البرازيل وتشيلي وكوستاريكا وجمهورية التشيك وبولندا والمجر. وفي المقابل، لا تتلقى بقية دول أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا سوى نصيب قليل للغاية من هذه الاستثمارات الدولية العابرة للقارات، رغم كل الإصلاحات التي أقرتها للتوجه نحو اقتصاد السوق وتقديمها حوافز هامة لتشجيع الاستثمار، فإنها تظل في أعين الشركات متعددة الجنسيات «فاقدة للظروف المطلوبة لجني الأرباح المأمولة. ويطلق أزفالدو دي ريفيرو اسما جديدا على هذه الشركات متعددة الجنسيات التي تمتاز بنفوذ عابر للقارات. إنه «الأرستقراطية الجديدة»، لكونها «تتمتع بسطوة عالمية آخذة في التزايد، في حين لا تضطلع في المقابل بأي مسؤوليات دولية». علما أنها تمارس سلطتها أيضا على الدول الكبرى عبر جماعات الضغط التي تكونها للدفاع عن مصالحها. وتقف هذه الشركات، وفق الكاتب، وراء عدد لا يستهان به من المعضلات التي تواجه الدول النامية وتحول دون لحاقها بركب التنمية. ومن أبرز هذه المعضلات البطالة والإضرار بالبيئة والتحكم في توزيع نصيب هام من الاستثمارات الدولية، حسب معايير تكفل لها تحقيق أكبر الأرباح الممكنة. الدول العازلة تتساوى جميع دول العالم الثالث في الافتقار إلى حظوظ وافرة لتحقيق التنمية المنشودة واللحاق بركب الدول المتقدمة. غير أن ثمة نوعا فريدا من نوعه من الدول النامية جعلها موقعها بالنسبة للعالم الغربي محط اهتمام من قبل القوى الكبرى في العالم. ويتعلق الأمر بالدول المصدرة للنفط، إلى جانب كبار منتجي الحبوب في العالم، والبلدان المجاورة للقوى الصناعية الكبرى. وتضم القائمة الدول الواقعة على مضايق أو ممرات حيوية بالنسبة للاقتصاد العالمي، مثل مصر وبنما اللتين تمر من قناتيهما «السويس» و«بنما» نسبة كبيرة من سلع التجارة العالمية.وكذا الدول المجاورة لبعض القوى الصناعية الكبرى. وهذه حالة دول المغرب العربي بالنسبة لأوربا، وكذلك المكسيك بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية. ويؤكد مؤلف هذا الكتاب أن انتهاء الحرب الباردة أضفى على بعض الدول ميزة استراتيجية فريدة من نوعها في مجال العلاقات الدولية. إذ «بانتهاء الحرب الباردة غدا المصدر الوحيد للميزة الاستراتيجية لبعض تلك البلاد هو الخطر الذي يمثله عدم الاستقرار فيها على جيرانها الأغنياء». ومن هذا المنطلق، لم تجد الدول الغنية بدا من «مساعدة جاراتها الفقيرة حتى تستقر الأوضاع فيها، ومن ثمة تتحاشى تلك البلاد موجات الهجرات غير الشرعية أو حتى موجات اللاجئين». والواقع أن هذه المساعدات لا تسهم بفعالية، وفق دي ريفيرو، في بعث الأمل في تحقيق التنمية الشاملة بالدول النامية/المتخلفة، وإنما تفضي إلى تكوين «دول عازلة» عبارة عن مناطق لاحتواء تنامي الهجرة من الدول الأكثر فقرا إلى الأكثر غنى. ومعلوم أن هذه التقنية ليست جديدة في قاموس العلاقات الدولية. إذ سبق أن لجأت إليها الإمبراطورية الرومانية قبل عقود كثيرة عندما أقامت جدرانا عازلة بين مناطق النفوذ الروماني الزاهرة وأماكن تركز باقي الحضارات، خصوصا في إفريقيا، المتخلفة. ويجزم الكاتب بأن دولا كثيرة ستحيي المنهج الروماني في التعامل مع الدول المتخلفة في القرن الواحد والعشرين عبر «دعم استقرار جاراتها الفقيرة بواسطة القروض والاستثمارات لتحيلها إلى دول عازلة». ويضرب دي أولفيرا مثلا بدول المغرب العربي، التي تكتسب هذا النوع من الميزة الاستراتيجية، على حد تعبيره، بصفتها الجارات الفقيرة لدول أوربا الواقعة بحوض البحر الأبيض المتوسط. وقد توقع دي أولفيرا أن يؤدي النمو الديموغرافي السريع في المغرب العربي خلال العقد المقبل إلى زيادة معدلات البطالة، خصوصا في صفوف الشباب. وعليه، خلص إلى أنه «سيكون لزاما على أوربا، عاجلا أم آجلا، العمل على حفظ استقرار أوضاع تلك البلدان، ليس فقط من أجل احتواء التيارات الأصولية (على غرار ما يحدث في مالي) والهجرة غير الشرعية من المنطقة في اتجاه القارة الأوربية، بل أيضا من أجل تحويلها إلى دول عازلة بالنسبة إلى مناطق إفريقيا الجنوبية التي تتضاعف أعداد سكانها». وينطبق الشيء نفسه على المكسيك التي تتخذها الولاياتالمتحدةالأمريكية منطقة عازلة تقيها شر الهجرة السرية القادمة إليها من جنوب القارة الأمريكية الفقيرة نسبيا مقارنة بالشمال. ويرى دي ريفيرو أن المكسيك اكتسبت بدورها ميزة استراتيجية كدولة عازلة عندما قررت واشنطن المراهنة على دعم الاستقرار فيها كوسيلة لتحاشي موجات الهجرة من المكسيك وباقي دول وسط القارة الأمريكيةوجنوبها. وتتجلى هذه الميزة الاستراتيجية التي تتمتع بها المكسيك كجارة فقيرة ودولة عازلة، حسب الكاتب نفسه، في إقامة منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، إضافة إلى «الإغاثة المالية الضخمة التي قدمتها حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية لدولة المكسيك سنة 1998 للحيلولة دون إفلاسها». غير أن هذه الدول الغنية تواجه صعوبات حقيقية في تقييم مدى نجاعة «سياسة الدولة العازلة» في الحد من تقاطر المهاجرين السريين عليها. ولذلك لا تعدو أن تكون هذه السياسة مسكنات لأنها مجرد جدران وقائية، ولا تتصدى للسبب الرئيس الثاوي وراء تنامي الهجرة السرية المتمثل في غياب التنمية. التنمية المستحيلة هل يمكن أن تتحقق التنمية في دول العالم الثالث؟ يجيب أوزفالدو دي ريفيرو عن هذا السؤال بالسلب، في غياب مؤشرات تعكس قدرة الدول النامية على تحقيق النهضة وكسب رهان التنمية على المديين القريب والمتوسط. وبالنسبة إلى هذا الكاتب، يبدو العالم الثالث، في ظل الأوضاع الراهنة، أقرب إلى حتفه منه إلى النهضة والتنمية، ولذلك تحدث بشكل صريح عما أسماه «استحالة التنمية». ومن هذا المنطلق، خصص الكاتب فصلا كاملا للحديث عن «إلدورادو» التنمية في العالم الثالث. ولأن التنمية لا تتحقق إلا بتوفر الثروة، فقد عرف ال«إلدورادو» بصفته «موطنا وهميا للثروة». واستهل هذا الفصل بالمطلع التالي: «قد يخطئ المنظرون الذين يتعاطون مع مفاهيم ثروة الأمم، والتقنوقراطيون المتخصصون في التخطيط لزيادة الإنتاج، ورفع مستويات المعيشة في جهودهم لتصميم نموذج للتنمية، لكنهم لا يساورهم أدنى شك حول فرص التنمية ذاتها، إذ يعتقدون أن مجرد التفكير في استحالة التنمية هو تفكير في غير المتخيل». يجد التسليم باستحالة تحقق التنمية في العالم الثالث مسوغات وجوده في عدم تمكن الدول النامية من التخلص من فقرها وتخلفها رغم كل الجهود التي بذلتها، خصوصا في العقود الأربعة الماضية، باستثناء أربع تجارب، وفق الكاتب ذاته، الذي أوضح أنه «في السنوات الأربعين الأخيرة لم تتمكن سوى دولتان صغيرتان فقط، هما كوريا الجنوبية وتايوان، من التقدم إلى مصاف المجتمعات الصناعية المتقدمة تكنولوجيا، فبعد أن كانتا في مرحلة سابقة مجتمعات زراعية، نجحتا في التغلب على أوضاع الفقر التي كانت سائدة بهما، ورفع مستويات المعيشة خالقتين طبقة وسطى مهيمنة». ومع ذلك، تشوب النموذجان الكوري الجنوبي والتايواني نواقص عديدة تجلعهما دون النماذج الأوربية والأمريكية، خصوصا على مستوى إقرار الديمقراطية، والجهود العلمية، والخصوصيات الثقافية والاجتماعية. ثمة أيضا نموذجان ناجحان في آسيا دائما، هما سنغافورة وهونغ كونغ «اللتان قاربت مستويات المعيشة فيهما نظيراتها في الديمقراطية الرأسمالية المتقدمة». غير أن دي ريفيرو يثير الانتباه إلى الاستفادة من عوامل رئيسية عجلت بالتحاقهما بركب التنمية. وتتمثل هذه العوامل بالأساس في عدم معاناتهما من العراقيل نفسها التي تعترض قطار التنمية في باقي دول العالم الثالث، خاصة المشاكل العويصة الناجمة عن الانفجار السكاني. ويختم دي ريفيرو كتابه بإطلاق دعوة إلى الدول المتقدمة بالكف عن التعاطي مع «الآخرين»، وهم أساسا دول العالم الثالث ك«أنواع متخلفة»، مؤكدا على ضرورة إعادة النظر في الاعتقاد السائد بأن تغيير النظم الاقتصادية والاجتماعية بالدول يمكنها من تحقيق التنمية. وطالب بإرساء دعائم منطق جديد في سياسة الدول المتقدمة تجاه نظيرتها النامية يحضر فيها الهاجس التنموي أكثر من الرهان على المساعدات والإعانات للحفاظ على الوضع القائم وتجنيب القوى المتقدمة تداعيات التخلف والفقر في العالم الثالث. المنطق الجديد يقوم على ابتكار آليات لدعم العالم الثالث قبل أن ينقرض. ولم تمنعه هذه الدعوة من التأكيد على قناعته ب«أن التنمية (عندما يتعلق الأمر بالعالم الثالث) لا تتعدى كونها أسطورة تساعد الدول المتخلفة على إخفاء أوضاعها التعيسة، والدول المتقدمة على إٍراحة ضمائرها».