مرت، منذ شهر تقريبا، ذكرى مولد الرحالة المغربي، الطنجي، الشهير «ابن بطوطة»، الذي يُجمع عددٌ من المصادر، في مقدمتها «الإنسيكلوبيديا العالمية»، على أنه ولد يوم 24 فبراير من سنة 1304 (فيما تضاربت المصادر حول سنة وفاته ومكانها، بين من يقول إنها كانت في طنجة ومن يقول إنها كانت في مراكش). بل إن ذات الإنسيكلوبيديا ستختاره واحدا من أهم شخصيات العالم في القرن ال14؛ فيما خصصت له مجلة «التايم» الأمريكية عددا مزدوجا صيف 2011، كواحد من أهم رجالات العالمين العربي والإسلامي، الذي سعى إلى الانفتاح على البشرية، من خلال رحلاته الأربع الكبرى إلى آسيا وإفريقيا وأوربا، مثلما أنه كان العربي والمسلم الوحيد الذي خصصت له حلقة كاملة، ضمن الحلقات ال26، للسلسلة التلفزيونية الفرنسية الشهيرة «المستكشفون»، إلى جانب الإمبراطور اليوناني الشهير الإسكندر الأكبر، والقائد المغولي جنكيزخان، والرحالة البرتغالي فاسكو ديغاما والمستكشف البريطاني جيمس كوك. «ابن بطوطة» الذي رأى النور في طنجة في عهد بني مرين، والذي قطع 120 ألف كيلومتر مشيا على الأقدام، أو راكبا دابة، أو مبحرا في سفينة، على مدى 28 سنة كاملة، هل نحن في تصالح معه، هل نستحقه، أم إننا في الواقع في خصومة مع ذكراه؟.. إنه السؤال الذي يطرحه المرء بغير قليل من الإحساس بالمرارة، ليس فقط لأنه يحق لنا الاعتزاز بمنجزه الباهر، الذي جعل منه أكبر رحالة في التاريخ، بشهادة كبريات مدارس الجغرافية، والذي جعل كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» واحدا من أكثر الكتب مبيعا في لغات العالم الحية، خاصة الإنجليزية.. بل، أساسا، لأن الحاجة ماسة، اليوم، إلى إعادة تمثل شخصية ذلك الرحالة المغربي، عنوانا لمعنى الانفتاح وللرغبة في اكتشاف الناس والثقافات.. وأن النظر إلى الآخر لا يجب أن يحكمه منطق التعالي بل منطق التواصل.. وكم أجيالنا العربية اليوم في حاجة إلى تمثل سيرة مثل سيرة ابن بطوطة، ترجمانا على أن الإنسان القوي ليس ذلك المحتمي بالسلاح والجاه أو المدعي للاستثناء عن العالمين، بل هو ذلك المتشرب لمعنى تجارب الآخرين، كتجربة إنسانية في الحياة، المنصت لصوتها المختلف. ومن خلال تمثل مثل هذه السيرة، سينتصر الإنسان اليوم على وهم «صراع الحضارات» أو «نهاية التاريخ» اللذين يبرر بهما كل من هنتنغتون وفوكو ياما ذلك السعي الحثيث لجماعات مالية عالمية إلى قيادة شعوب كاملة إلى التصادم المدمر، تماما، مثلما تقاد النعاج إلى المسالخ. إن قوة ابن بطوطة كامنة في أنه كوني.. وأن كل ثقافات وحضارات العالم تجد نفسها فيه، وتعتبره منتميا إلى أفق أحلامها في الحياة.. أي ذلك الأفق المنتصر للإنسان في الأول والأخير.. لأن سيرة ذلك الرحالة المغربي قد علمت البشرية بأن معنى التعايش ليست فاتورته بالضرورة هي الانسلاخ عن الهوية، بل هي في التعايش بين الهويات المتعددة، وفي مكرمة تقبل الآخر، في اختلافه كما هو.. وأساسا في التعلم من بعضها البعض، لأن ابن طنجة، حين كان يلج إلى بلاط إمبراطور الصين، في أواسط القرن ال14، مثله مثل فاسكو ديغاما، وأبهر بتداول الأوراق المالية هناك بدلا من النقود المسكوكة؛ حين كان يلج إلى ذلك البلاط، فليس من أجل أن يصبح بوذيا بالضرورة، بل من أجل الاكتشاف والتعلم.. وبفضل اختلافه الحضاري، أمر إمبراطور الصين رسامه الخاص بأن يرسم له لوحة عن هذا المغربي المتميز، لباسا وملامح وسلوكا.. وحين كان يلج إلى ملك الفولغا الروسي في برد سيبيريا القتال، إنما كان ينقل إليه معاني حضارته المغربية، وكان يقف مشدوها أمام تجمد ماء الوضوء الساخن بسرعة في لحيته، وأمام الصوم الطويل في نهارات الشمال الطويلة، وكيف أن أذان المغرب والعشاء والفجر متلاحقة بسرعة هناك، لأن الليل قصير جدا، مما علمه أن الحياة ليست ساعة معان واحدة نهائية، بل إنها متوالية مفتوحة للتعلم. ونفس الحال وقف عليه في ماليزيا والهند والفلبين وأفغانستان وتركيا وإيران والعراق وفلسطين والشام وبلاد الحجاز، وهو ذات ما تعلمه في بلاد زنجبار والصومال واليمن وظفار وتمبكتو. إن سيرة ابن بطوطة هي درس، نحتاجه اليوم أكثر، عن كون قوة أية حضارة هي في الإنصات للآخر، وفي التعايش الذي لا علاقة له بمنطق التبعية، بل ذاك المنتصر لمنطق التكامل. وما يغري في هذه السيرة، وفي قصة هذا الطنجاوي الأمازيغي المغربي، كما مجدتها العشرات من الدراسات عبر كبريات جامعات العام، أنها ترجمت في زمنها قلقا مغربيا، عربيا إسلاميا، أمام بدايات الاندحار التواصلي الحضاري لأمة العرب المسلمين، وأن ركوب الآفاق لفهم الآخر والتواصل معه والإفادة منه هي الحل.. أليس زمنه زمن ابن خلدون، ذلك الذي أغلقت فيه بلاد العرب على نفسها باب التاريخ ودخلت في سبات طويل.. ويحق لنا السؤال عن كيف استغلت أوربا رحلة فاسكو ديغاما وماركو بولو وماجلان، من أجل اكتشاف الآخر وارتياد الأسواق، فيما ظلت تجربة رحلات ابن بطوطة، نائمة منسية بين دفتي كتابه لأربعة قرون كاملة؟.. ماذا لو استغل السياسي والتاجر والعالم والفقيه حينها، نتائج تلك الكشوفات التي عاد بها الرجل من رحلاته الطويلة، لنسج طريق للحرير وللمصالح، ألن يكون الحال غير الحال والوعي غير الوعي؟ إننا، بهذا المعنى، في حاجة ملحة مرة أخرى إلى تمثل سيرة ابن بطوطة، التي مثير كيف أنها لم تغر بعد مخرجي السينما والتلفزيون، ولا سمح لها بأن تكون مادة مركزية في نظمنا التعليمية.. تمثلها بغاية توسيع هوامش مكرمة التكامل مع العالم، انطلاقا من خصوصيتنا.. لأنه كم هو مؤسف حين نتأمل شكل تعاملنا مع سيرته الباهرة، فإننا أشبه بالمصاب بالعمى التاريخي، لأنه ما أكثر العنبر النائم في ذاكرتنا الجماعية، فيما نختار أن نترك روائح الانغلاق وحدها التي تملأ الخياشم.