عندما كنا صغارا، كان في حينا شاب بلا عمل، مهنته الشجار وتدخين الحشيش، لكن سكان الحي جميعهم يحترمونه لأنهم لا يملكون خيارا آخر على الأرجح، يكفي تأمل عضلاته المفتولة كي تقتنع بسرعة بأن باستطاعته تغيير معالم وجه من يعكر له المزاج، ولم تكن الأمثلة التطبيقية ما ينقص، لذلك كان مصطفى يقضي أسابيع طويلة في السجن كل عام كأنه في عطلة، دون أن يستغرب أحد، بما في ذلك عائلته. كان مثل تلك الشخصيات المشهورة في أفلام الويسترن، التي ما إن تمر حتى يصمت الجميع في توجس، خوفا مما لا تحمد عقباه. لكن مصطفى كان طيبا وبريئا من الداخل، مثل طفل، والدليل أنه كان يتعامل معنا -نحن الصغار- بكثير من اللطف والدماثة، بل يحدث أن يفرق علينا الحلوى أو ينفحنا ببعض القطع النقدية. من جانبنا، كنا نحرص على تحيته بحرارة كلما رأيناه يمشي مرحا، ناشرا يديه إلى الأسفل تحت ثقل العضلات، كأنه يحمل سطلين ثقيلين: «صباح لخير باصطّاف»... ويرد علينا السلام بابتسامة عريضة. كان حلم كثير من أطفال الحي أن يصبحوا مثله عندما يكبرون، أي أن يغادروا الدراسة ويتفرغوا للمعارك وتدخين الحشيش وقضاء شهور محترمة في السجن، حيث كان «باصطّاف» يمضي نصف السنة بفضل المعارك و«بلاوي» أخرى لم نكن نفهمها في تلك السنوات البعيدة. ولأن المدينة صغيرة والعائلة طيبة، كان «المخزني» الذي يحرس السجن يسمح ل»باصطاف» بأن يغادر الزنزانة في الثانية عشرة بعد الزوال، كي يأكل «الدواز» مع الأسرة، ثم يعود بعد الظهر كأي سجين محترم ليقضي ليلته وراء القضبان. الشرط الوحيد الذي كان يلح عليه الحارس الشهم هو أن يتجنب مصطفى الذهاب إلى البيت عبر الشارع الرئيسي، تفاديا لعيون «البركاكة» الحقراء، لأنه كان يصنع معروفا ولا يريد أن يرجع عليه ب«بومزوي». «باصطاف» كان يحرص على تطبيق بنود الاتفاق، كأي شخص مسؤول، يسلك طريقا جانبية تمر عبر حقول التفاح وبساتين الذرة تفاديا للشبهات. ورغم أن سكان الحي كانوا يعرفون، فإن الجميع كان يتكتم على سبيل التضامن، في انتظار أن يقضي مدة العقوبة ويغادر السجن... غادرنا نحن الحي والمدينة، وبقيت أسأل عن أصدقاء الطفولة كلما استطعت إلى ذلك سبيلا. كان من بينهم واحد يسمى عزيز، تحول إلى «مخزني» عندما كبر، وجعلته الأقدار العابثة حارس سجن في مدينة صغيرة شرق المملكة. ذات يوم قال لي الأصدقاء إنه موجود في السجن، وعندما سألت باندهاش عن السبب، أخبروني بأنه تعاطف مع المعتقلين وأطلق سراحهم... واضح أن قصة «باصطاف» أثرت فينا كثيرا، وضيعت مستقبل عزيز! ما أشبه اليوم بالبارحة. تذكرت قصة «باصطاف» وأنا أتأمل خروج خالد عليوة من السجن للمشاركة في تشييع جثمان والدته لمدة أربعة أيام، وما رافقها من بهرجة وزيارات رسمية ورسائل تعزية، إحداها خرجت من القصر. طبعا، لا يسعنا إلا أن نتعاطف مع السجين الذي فقد أمه وهو وراء القضبان، ولا يضير العدالة أن تكون مقترنة بالرحمة، والقضاء أن يكون له قلب. في النهاية، من اتخذ القرار يشبه «المخزني» الطيب، الذي كان يغامر بوظيفته كي يترك «باصطاف» يتناول وجبة الغداء مع أمه، مع فرق جوهري: «المخزني» كان يعرف أنه يخرق القانون، لذلك كان يحرص على أن تظل لفتته سرية، كي لا يثير الفتنة، أما «بّاخالد» فقد غادر الزنزانة ب«الهايلالة»، رغم أن الأمر يتعلق بخروج مزدوج: من السجن وعن القانون. على المستوى الإنساني، لا يسع الواحد إلا أن يعبر عن تعاطفه مع عليوة، لكن على المستوى القانوني نحتاج إلى من يتضامن معنا كي نفهم: هل سيتم، من الآن فصاعدا، إطلاق كل السجناء الذين يفقدون أمهاتهم وهم وراء القضبان أم إن المسألة ترتبط فقط بالمعتقلين «هاي كلاس»؟ وأيهما نصدق: الرسالة الملكية التي عزت الرجل مؤكدة ضمنيا أنه مازال «جديرا بالثقة» أم القاضي الذي سجنه كي لا يفر خلال المدة التي يستغرقها التحقيق بحجة أنه «غير جدير بالثقة»؟ ألا تعتبر رسالة التعزية التي توصل بها من القصر تأثيرا على القضاء؟ ولو لم تكن هذه الرسالة، هل كان السياسيون، وفي مقدمتهم الوزير الأول، سيتسابقون لتقديم التعازي إلى عليوة، الذي تلاحقه -للتذكير- تهم ثقيلة بالفساد المالي واستغلال النفوذ؟ المضحك أن وزير العدل والحريات، الذي ظل يقيم الدنيا ولا يقعدها أيام المعارضة، سرط لسانه ودس رأسه في الرمل، واكتفى بأن دفع عن نفسه «تهمة» تمتيع «المتهم» بسراح الأيام الأربعة. ولعل النصيحة التي يمكن تقديمها إلى القاضي المكلف بملف عليوة هي نفض يديه من القضية، يستحسن أن يترك «بّاخالد» في بيته ويكتفي بملفات «باصطّاف» وبقية المواطنين البسطاء!