الأسلحة البيولوجية التي كان يطورها صدام حسين، المختبرات المتنقلة التي كان يتم داخلها زرع الجمرة الخبيثة، والطاعون، وفيروس الجذري... كل تلك المعلومات التي استخدمتها أمريكا، منذ عشر سنوات، كذريعة لغزو العراق، خرجت من مخيلة مواطن عراقي... فمن هو هذا المخبر الذي منح جورج بوش الحكاية الوهمية التي كان ينتظرها بفارغ الصبر، وسهل احتلال أمريكا للعراق؟ إنها أكبر كذبة في تاريخ التجسس الاستخباراتي، وأكثرها دموية كذلك. إنها الخدعة المتخيلة التي كان وراءها شخص مغمور، وتم استغلالها كذريعة محورية لاستعمار العراق، منذ عشر سنوات. ظهرت هذه القضية الاستثنائية للعلن يوم ال 5 من فبراير 2003 داخل مقر الأممالمتحدة. وفي ذلك اليوم، وفي خطابه الشهير، أعلن وزير خارجية أمريكا، كولين باول، أمام العالم: «لا يوجد أدنى شك بأن صدام حسين يمتلك الأسلحة البيولوجية» وبأنه «يمتلك القدرة على إنتاج المزيد من تلك الأسلحة» بأعداد تكفي للفتك ب «مئات الآلاف من الأشخاص». لكن كيف كان العراق يقوم بتطوير تلك الأسلحة؟ بفضل «مختبرات متنقلة» سرية كانت تقوم بصناعة مواد بشعة مثل «الطاعون، والغرغرينا، والجمرة الخبيثة، وفيروس الجذري». وبكامل الثقة، أضاف المسؤول الأمريكي: «لدينا وصف أولي» عن هذه المنشآت المميتة، أو على الأقل كما كان يعتقد. أما مصدر تلك المعلومات المفزعة، وأحد أهم الدلائل التي اعتمدت عليها إدارة جورج بوش لشن حربها على صدام حسين، فكان، كما أكد ذلك باول أمام جمعية الأممالمتحدة، «لاجئ يقيم في الوقت الراهن ببلد آخر، وذلك في ظل وجود معلومات أكيدة تفيد بأن صدام حسين سيعمد إلى اغتياله إذا علم بمكان اختبائه». كان الأمر يتعلق ب «شاهد مباشر هو مهندس عراقي متخصص في الكيمياء كان مسؤولا عن أحد تلك المختبرات»، و«رجل كان متواجدا أثناء مراحل إنتاج المواد البيولوجية». يا لها من كذبة عظيمة... من هو بالتحديد هذا الشخص الذي سرب هذه المعلومات الهامة جدا؟ خلال شهر فبراير 2003، كان قلة من الأشخاص يعدون على رؤوس الأصابع يعرفون هويته الحقيقية، ومساره ومكان إقامته. وحتى كولين باول نفسه لم يكن على ثقة تامة حول هويته؛ إذ تم تزويده فقط باسمه السري، «كورفبول»، واسم الجهة التي تتعامل معه، المخابرات الألمانية. «في تلك الفترة، لم أكن في حاجة لمعرفة المزيد،» يقول اليوم وزير الخارجية السابق لمجلة «لونوفيل أوبسيرفاتور». «لقد جزمت بكل تأكيد بأن وكالة المخابرات المركزية قامت باستجوابه، وقامت بالتأكد من كل ادعاءاته.» يا لها من غلطة... الخيوط الأولى بعد مرور عشر سنوات، أصبحت تعرف الآن هوية هذا العراقي الذي منح الذريعة المثالية للمحافظين الجدد بأمريكا، المهووسين بصدام حسين لغزو وطنه الأم. يدعى هذا الشخص رافد الجنابي، وحسب آخر أخباره، فهو يعيش بشقة صغيرة مع زوجته وابنتيه بكارلسروه، بألمانيا ... حل رافد بمطار ميونيخ شهر نونبر 1999، ثلاث سنوات قبل خطاب وزير الخارجية الأمريكي، وقبل ذلك استطاع الخروج من العراق بمساعدة من أحد الأشخاص، وقام بشراء جواز سفر مزور من المغرب، حسب ما صرح به. وكانت الرباط إحدى مراحل رحلته نحو أوروبا. وبعدما أوقفته الشرطة الألمانية، أرسل مباشرة إلى مركز للإيواء مخصص للأشخاص الراغبين في الحصول على حق اللجوء بألمانيا. وبذلك أصبح هذا الرجل الشاب (كان يبلغ آنذاك 31 سنة) واحدا من العراقيين المغمورين البالغ عددهم 60 ألفا، الذين كانوا ينتظرون الحصول على رخص الإقامة بشكل دائم. فهم هذا الأخير على نحو جيد بأن فرص حصوله على رخصة الإقامة ضئيلة جدا، ولن يتم ذلك قبل مرور عدة سنوات. وحتى لحظة حصوله على الترخيص، كان يتعين عليه تمضية وقته داخل مركز الإيواء الممتلئ عن آخره، أو البحث عن حل آخر للخروج من ذلك الوضع. ومثل أي شخص يرغب في الحصول على حق اللجوء، كان يتعين على رافد، منذ لحظة وصوله، تقديم توضيحات بشأن حياته السابقة لأحد العاملين بالمركز. «أنا مهندس متخصص في الكيمياء، حاصل على دبلوم من جامعة بغداد،» يقول. «كنت أعمل داخل مصنع للأسمدة الفلاحية بمنطقة جرف الندف، تبعد حوالي 70 كيلومترا عن بغداد.» للوهلة الأولى بدا مثل أي شاب عراقي، كان يرغب في الهروب من بلاد تسحقها الدكتاتورية والعقوبات الدولية. وبعد مرور بضعة أيام، طلب ملاقاة أحد المسؤولين؛ حيث قال إن لديه أمورا يرغب في البوح بها. وفي الواقع، كما أكد ذلك، فقصة الأسمدة ليست سوى غطاء يحجب أنشطة أخرى، حيث لا يتبع المصنع المتواجد بجرف الندف لوزارة الفلاحة، وإنما هو خاضع لوزارة الدفاع. وحسب تصريحاته، فالمصنع جزء من برنامج خفي للأسلحة البيولوجية كان يعلم بجميع أسراره. كما أبدى استعداده للبوح بكل المعلومات التي يعرفها. المراكز السرية داخل مركز الإيواء بدأت تتسارع الأحداث، ليتم ربط الاتصال بمصالح المخابرات، في أعلى مستوى. ومنذ ذلك الحين، لم يعد رافد يستجوب من قبل موظف مغمور، ولكن من قبل شخص يدعى د. بول، الذي قدم نفسه كمفتش بالأممالمتحدة، مختص في أسلحة الدمار الشامل. وفي الواقع كان ذلك الشخص رئيس قسم الحد من انتشار الأسلحة بصفوف المخابرات الألمانية. وفي البداية، ساورت هذا الضابط المتمرس الكثير من الشكوك حول صحة المعلومات، لكن بعد مرور بضعة أيام، بدأ يتقرب من رافد. وصل ذلك التقرب إلى درجة جعلت الضابط الألماني غير مهتم ب «الوقوع في حب مصدره»، كما يقال في لغة المخابرات. وقد كان الشاب العراقي، الذي يتحدث بحماس شديد، محركا ذراعيه ومدخنا السيجارة تلو الأخرى، مقنعا بشكل كبير، وأكثر إقناعا بسبب عدم توصل العراقيين بأي معلومات حول العراق منذ طرد صدام حسين للمفتشين الدوليين قبل سنة تقريبا. وأمام الضابط الذي كان مكلفا بالقضية، أكد رافد بأنه حل أولا في دفعة جامعة بغداد سنة 1994، وبأنه بسبب تفوقه، تم اختياره للعمل بشكل سري لدى هيئة الصناعة العسكرية، أحد أهم مراكز القرار، الذي كان يسيره صهر صدام حسين. «لقد اشتغلت في البداية داخل مركز الحكم»، كما قال لدى إثارة الموضوع. لدى سماعه لاسم المركز اطمأن د. بول أكثر؛ فبهذا المكان بالذات اكتشف فريق أممي مكلف بتتبع الأسلحة المحرمة بالعراق، منذ بضع سنوات بقايا دجاج نفق جراء حقنه بمادة التوكسين السامة. وكان ذلك الموقع أهم مركز سري لصنع الأسلحة البيولوجية، قبل تدميره من قبل الأممالمتحدة سنة 1996. «داخل الحكم، كنت المسؤول طوال عامين عن اقتناء قطع الغيار. أستطيع وصف المكان وذكر أسماء المسؤولين.» وبعد التأكد من جميع المعلومات التي صرح بها، توضح بأنها تتطابق مع معلومات سابقة. بعد ذلك، قامت مصالح المخابرات الألمانية بإرسال بيان موجز عن المصدر المعجزة إلى حليفتها الأمريكية المعتادة، وكالة الاستخبارات العسكرية الأمريكية، التي تمتلك قاعدة كبيرة بميونيخ منذ خمسينيات القرن الماضي... وفي رمشة عين، تغيرت وضعية المهندس العراقي بشكل جذري؛ حيث انتهى زمن مركز الإيواء المكتظ باللاجئين، وتم توفير شقة مجهزة له، وتم منحه تأمينا على المرض، وسيارة من نوع مرسيدس (طالما حلم بامتلاكها)، زيادة على حراس شخصيين، وبطاقة لاجئ سياسي. فضلا عن ذلك، تم تكليف خمسة ضباط متقاعدين من جهاز المخابرات بجعل ظروف عيشه في أفضل حال. وقام هؤلاء بأخذه لزيارة المدينة واكتشاف جميع الأمور الجميلة... وحسب الصحافي بوب دروغين، فقد فاقت كلفة تلك الخدمة الألمانية مليون أورو سنة 2000. المختبرات المتنقلة مقابل تلك الامتيازات الخاصة، قام المهندس العراقي بالتحدث كثيرا. وقال إن فكرة مشروع المختبرات المتحركة ولدت سنة 1995. فعندما أدرك بأن هيئة الأممالمتحدة ستتمكن من اكتشاف مركز الحكم، وفق ما حكاه للضابط الألماني، قام صهر صدام حسين بأخذ القرار بالاستمرار في البرنامج البيولوجي داخل وحدات لا تستطيع الهيئة الأممية اكتشافها؛ أي داخل شاحنات مكيفة تتجول وسط شوارع بغداد. ولكن أين كان يتم تجميع تلك الشاحنات المخيفة التي كانت تستعمل كمختبرات؟ كان يتم ذلك بالتحديد داخل مصنع الأسمدة المزعوم، بجرف الندف، كما جاء في أقوال رافد. ولكن كيف كان يعلم بذلك؟ لأنه كان المسؤول عن المشروع. كما أوضح بأن التجارب دامت سنتين، وبأن المختبرات الأولى جرى تشغيلها سنة 1997، وزاد بالتأكيد بأنه رأى سبعة منها تشتغل، كانت تنتج مواد مدمرة كالجمرة الخبيثة، وبكتريا البوتوكس، والطاعون. كما أكد بأنه بموازاة جرف الندف، أصدر صدام حسين تعليماته بخلق ستة مواقع أخرى سرية لصنع المختبرات المتنقلة. وقام المهندس الشاب بالبوح بمعلومة رئيسية، تمكن بفضلها من إقناع د. بول؛ فقبل طرد المفتشين الأمميين من العراق، كانت الشاحنات تتجول يوم الجمعة فقط، اليوم الذي يستريح فيه المفتشون من عملهم. كان رافد يتحدث ويتحدث... ويتحدث كثيرا. وبعد مرور عدة أشهر على الاستنطاق، أقر بأن المسؤول عن جرف الندف، المدعو باسل لطيف، لديه ابن وهذا الأخير هو أهم مشتر للمنتجات التي تستعمل في صناعة المواد السامة. لكن ما كان يجهله رافد هو كون المدعو لطيف كان يعيش بدبي، لكن ذلك لم يمنع ضباط المخابرات الألمانية والبريطانية من الذهاب لاستجوابه. لم يقم باسل لطيف فحسب بتكذيب خبر كون المركز الذي كان يديره كان ينتج أسلحة بيولوجية، بل اكتشف الجواسيس بأن ابنه الوحيد لا يتجاوز سنه السادسة عشر. وبعد مواجهته بهذا المعطى الجديد، استشاط المهندس العراقي غضبا، وبدأ يعربد، ورفض الرد على محاوريه. حينها اكتشف د. بول بأن مصدره المحبوب إلى قلبه ربما قد كذب عليه. وعلى أي حال، لم يعد شخصا موثوقا به. الحيثيات بعد مرور بضعة أشهر على غزو العراق، وعندما تأكد بشكل جلي بأن صدام حسين لم يكن يمتلك أسلحة الدمار الشامل، بدأ فريق من وكالة المخابرات المركزية في البحث عن حيثيات قضية المخبر العراقي. وبعد قيامهم باستجواب مجموعة من الأشخاص كانوا يعرفون رافد مسبقا، اكتشفوا بأن المهندس الشاب لم يحصل على الرتبة الأولى في دفعته الجامعية وإنما حل أخيرا، وبأنه اشتغل بضعة أشهر بجرف النجف، لكن كمساعد وليس كمسؤول عن مشروع. كما تأكدوا كذلك من كون هذا الموقع لم يكن سوى مصنع للأسمدة الفلاحية. ومن صديق له منذ الطفولة، توصلوا لكون رافد لم يكن يتوانى عن الكذب منذ صغره... لكن الأسئلة المحيرة التي تظل مطروحة حتى اليوم هي كيف استطاع هذا الشخص خداع المخابرات الألمانية والأمريكية لوقت جد طويل؟ وكيف اختلق قصة المختبرات المتنقلة وجعلها أمرا موثوقا من صحته؟ قامت لجنة من الكونغرس بإجراء تحقيق لمعرفة ما إذا كان رافد، مثل عدد كبير من اللاجئين، زود بالمعلومات ثم أرسل إلى أوروبا من قبل أحمد شلبي، زعيم أحد الأحزاب المعارضة لصدام الذي نجح في نفث سمومه في جزء من الصحافة والمصالح الأمريكية... لكن يظهر لحد الساعة بأن رافد كان يتصرف من تلقاء نفسه، وبأنه قبل مغادرة العراق طالع على الانترنت التقرير الضخم الذي صاغه مفتشو الأممالمتحدة وقاموا بنشره بعد طردهم من البلاد. استطاع من خلال ذلك التقرير تسجيل أسماء المسؤولين عن البرنامج البيولوجي قبل إلغائه، فضلا عن الوصف الدقيق لموقع الحكم. كما استطاع من خلال نفس التقرير الاهتداء إلى كون مفتشي الأممالمتحدة وضعوا يدهم على وثيقة تعود لبداية التسعينيات، اقترح من خلالها أحد مهندسي البرنامج البيولوجي إنشاء مختبرات متنقلة، يسهل بكثير القيام بإخفائها. لكن رافد كان يجهل بأن هذه الفكرة، التي تم اعتبارها «جد معقدة»، تم التخلي عنها. وبالرغم من هذه المستجدات المحرجة، قامت المخابرات الألمانية بداية 2004 بتخصيص مرتب شهري للمخبر العراقي يصل لثلاثة آلاف أورو... ومقابل ذلك تم منعه من التحدث إلى الصحافة، لكن اسمه سيظهر للمرة الأولى سنة 2007 على إحدى القنوات الأمريكية. وحينها اكتشف الرأي العام الألماني أن رافد، الذي وصف ب «الكاذب» من قبل وكالة المخابرات المركزية شهر ماي 2004، كان يحصل على راتب من دولتهم. كانت الفضيحة جد مدوية لدرجة فقدان رافد لمدخوله الشهري. وبعد ذلك حاول تجريب حظه بالعراق، حيث تقدم للانتخابات التشريعية شهر مارس 2010، ولم يحصل سوى على 17 ألف صوت، ليعود خاوي الوفاض إلى ألمانيا. وفي شهر فبراير 2011، سيخص جريدة «الغارديان» البريطانية بأول حوار صحفي له، وخلاله أقر بقيامه بتلفيق قصة المختبرات المتنقلة. «لقد كنت محظوظا، يقول، استطعت اختلاق شيء أدى إلى سقوط صدام.»
أمريكا على الخط
ستقوم المخابرات الألمانية بقطع كافة الاتصالات برافد لمدة وصلت إلى ثلاث سنوات، ليصبح المخبر النجم مجرد عامل مهاجر كسائر الأشخاص. استطاع المواطن العراقي إيجاد عمل لدى أحد مطاعم الوجبات السريعة، وفي شهر مارس 2002 تزوج من فتاة مغربية... كانت القضية ستقف عند هذا الحد، غير أنه منذ لحظة الفراق بين رافد والمصالح السرية الألمانية، وقعت أحداث الحادي عشر من شتنبر واستطاع المحافظون الجدد تولي مقاليد الحكم بواشنطن. وكان يسعى هؤلاء إلى الاستعانة بشهادته، مهما كانت قيمتها. وفي شهر ماي 2002، طلبت وكالة المخابرات المركزية من المخابرات الألمانية معاودة الاتصال بالشاب العراقي. كانت الوكالة الأمريكية قد توصلت بنسخة من المئات من الاستجوابات التي جرت مع المهندس العراقي؛ وأرادت الحصول على المزيد. وبعدما تم استجوابه من جديد، قام رافد بتغيير أقواله؛ حيث قال بأنه في الواقع لم يكن مدير مشروع المختبرات المتنقلة، وبأنه كان مجرد مساعد. كما أقر بأنه لم يعاين إنتاج المواد البيولوجية، وبأنه غادر جرف النجف منذ وقت بعيد. وبعدها استشاط غضبا وكف عن الرد على الهاتف. تم إخبار وكالة المخابرات المركزية بخصوص تصرفه الفظ والمضطرب. لكن، وبعد مرور بضعة أسابيع، وبالتحديد في شهر أكتوبر 2002، وفي أحد التقارير التي قدمت للكونغرس وحظيت بمتابعة إعلامية واسعة، أكدت الوكالة ب «ثقة جد عالية» أن العراق يمتلك وحدات متنقلة لإنتاج الأسلحة البيولوجية. وأمام لجنة برلمانية، قال جورج تينيت، مدير وكالة المخابرات المركزية، إن الوكالة التي يديرها توصلت لهذه المعلومات من أحد «اللاجئين الموثوق به»… كانت القضية ستقف عند هذا الحد، لولا رغبة المكتب المكلف بأسلحة الدمار الشامل داخل وكالة المخابرات المركزية المضي قدما، والاعتقاد بأن ما قاله المخبر العراقي من معلومات صحيح كليا. فكيف عساه معرفة الكثير من التفاصيل؟ لم يكن يملك جورج تينيت الخيار، وفي 18 من دجنبر 2002، كتب رسالة لأوغوست هانينغ، رئيس المخابرات الألمانية، وطلب منه رسميا إذا كان في إمكان وكالة المخابرات المركزية الاستعانة بمعلومات المصدر الذي تتعامل معه ألمانيا. كما طلب منه كذلك قبول استجواب المخبر العراقي من طرف أحد عناصر المخابرات الأمريكية. قام مدير المخابرات بالرد على طلب تينيت بعد مرور يومين. وبالنسبة لاستجواب المواطن العراقي، فقد قال بأن ذلك غير ممكن، لكن في إمكان المخابرات الأمريكية الاستعانة بأقواله، شريطة عدم ذكر الجهة التي حصلت على أقواله، مع التذكير بأن أقوال هذا المصدر لم يتم «التأكد من صحتها». ورغم هذه التحذيرات، أصر البيت الأبيض على استخدام ادعاءات «المهندس» العراقي، في خطاب حالة الاتحاد الذي سيلقيه جورج بوش في ال 28 من يناير 2003. كان بوش يرغب في تعبئة الحس الحربي لدى الكونغرس والرأي العام. كما طلبت واشنطن وجهة نظر رئيس مكتب وكالة المخابرات المركزية ببرلين. رد هذا الأخير في ال 27 من الشهر بكون «الاستعانة بهذا المصدر يطرح الكثير من الإشكاليات». لكن ذلك لم يمنع الرئيس الأمريكي من الحفاظ على الجزء الذي يشير إلى المختبرات المتنقلة في خطابه. وهو نفس الأمر الذي ذهب إليه كولين باول قبل بضعة أيام من ذلك التاريخ، في خطابه الشهير أمام جمعية الأممالمتحدة. «لم يقل لنا تينيت بأن لديه الكثير من التحفظات بشأن المخبر العراقي»، يوضح اليوم الكولونيل ويلكيرسون، الذي ساعد وزير الخارجية في صياغة خطابه. «وفي الواقع، كان متأكدا بأن أمريكا ستجد بعد الحرب أسلحة الدمار الشامل بالعراق، وبأنه جراء ذلك سيتم نسيان كل القصص حول مصدر هذه الأخبار غير الموثوق من صحتها.» * بتصرف عن مجلة «لونوفيل أوبسيرفاتور»