احتضنت، مؤخرا، قاعة الندوات بالمدرسة العليا للأساتذة التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بمارتيل لقاء مع الشاعر ياسين عدنان لقراءة تجربته الشعرية في ديوانه الأخير «دفتر العابر»، في إطار سلسلة «تجارب إبداعية» التي تستضيف أدباء المغرب من مختلف الأجيال. في هذا اللقاء كشف ياسين عدنان عن أن هناك صداقة تربط إبداعه بالمكان الذي يذهب إليه عارياً من الإكليشيهات، متحررا من الأحكام المسبقة. ف«دفتر العابر» ذهاب حر نحو الآخر في محاولة لاستشراف علاقة جديدة بين الأنا والآخر عبر الشعر ومن خلال القصيدة. فالذات بالنسبة إليه لا تكتمل إلا بالآخر. ولهذا كان الذهاب نحو الآخر أهم محركات الخلق الشعري في «دفتر العابر». وليس عبثا أن انطلقت مغامرة «دفتر العابر» من خلال ورشة فنية جمعته بالفنان التشكيلي الفرنسي إيتيان إيفير اشتغلا فيها معا على تيمة السفر. وخلال الورشة التي دامت شهرا كاملا ربح الفرنسي ثلاثين لوحة تشكيلية، فيما ربح ياسين عدنان مشروع هذا الديوان الذي اشتغل عليه لأربع سنوات متتالية. أما بالنسبة إلى الكتابة، فقد أصر ياسين عدنان على التأكيد على أنه لا كتابة بدون قراءة. وهو يتعجب من تزايد أعداد الكُتّاب وممتهني الحرف في البلاد العربية. لكن دون أن يسندوا انتماءهم لعالم الأدب والشعر بالقراءة. فعندما تصير صديقا حقيقيا للأدب، قد يفرحك النص الجميل حتى لو كان مُوقّعا من اسم لا تحبه. فصاحب «مانيكان» بدأ يلتهم قراءة الكتب في خزانة والده رجل التعليم منذ طفولته الأولى، معربا عن إحساسه بالشفقة على الأطفال الذين ولدوا في بيوت ليست بها مكتبات. وأضاف ياسين أن «المكتبة قد تكون مجرد رفٍّ يتيم في شقة صغيرة؛ لكن الأهم هو فكرة المكتبة نفسها التي يجب أن تترسّخ في أذهان أرباب الأسر وفي وجدان أطفالهم. ومن المخجل اليوم أن يفتح المغربي باب بيته أو شقته للضيوف ولا يضايقه غياب رفّ كتب في بيته. فنحن نستغني عن الكتاب ونستغني عن الشعر والأدب، وبعد ذلك نتساءل من أين جاءنا كل هذا العنف الذي بدأ يتكرّس يوما بعد يوم داخل المجتمع، خاصة مع الجيل الجديد من الجرائم التي بدأت تزحف علينا». وقد توقف ياسين عدنان عند الفقر المدقع للتعبير في الشارع المغربي حيث ضعفُ القراءة وضمور الخيال جعل لغة المغاربة في الشارع تضيق وتزداد فقرا يوما عن يوم. في هذا اللقاء تناول الناقد محمد العناز في مداخلته «الخاصية السردية في دفتر العابر: قراءة أولية»، معتبرا أن هذا الديوان تجربة متفردة، ليس في إبداعه الشخصي، ولكن على مستوى القصيدة المغربية والعربية، حيث الديوان يكوِّن قصيدة واحدة مُمْتَدَّةً لا تتجزأ ولا توضع علامات ترقيم تفصل بين أجزائها، وأنها تقوم على وحدة الموضوع، ووحدة البناء، وعلى بناء يستوحي خطابات متعددة تعمل على الدمج في ما بينها من دون التضحية بالنفَس الشعري. هذا إلى جانب التنوع في الأساليب المستعملة من تقرير وتعجب واستفهام وصورة وإيحاء. وأكد العناز أن هذه الخصائص صيغت بطريقة إبداعية متميزة، حيث تتضافر جميعها في سيولة شعرية راقية تجعل المتلقي يتطلع إلى قراءتها دفعة واحدة من دون شعور بالملل أو الرتابة. من جهة أخرى، اعترف ياسين عدنان، الذي يشتغل منذ 2006 معدا ومقدما لأهم برنامج ثقافي حواري في التلفزيون المغربي، أنه شخص مهنتُه السؤال. فالسؤال لديه أهم من الجواب. والسؤال بالنسبة إليه ليس نصف الجواب فقط، بل هو 75 في المائة من الجواب. لكن ما يقض مضجعه هو «أننا نعيش اليوم في زمن عربي لا تشغله الأسئلة بقدر ما يطمئن إلى اجترار الإجابات المكرُورة حتى لو كانت متسرعة أو ملفقة». هذا القلق، جعل ياسين، يتوقف مطولا عند إشكالية انعدام السؤال لدى الشعوب العربية، «فنحن نمارس في المغرب مثلا السياسة والثقافة والفن والرياضة والهندسة والاقتصاد والإعلام والتربية لكن من دون أسئلة، ونتحرك في كل الاتجاهات من دون أسئلة حقيقية، بل أحيانا نتواطأ على السؤال بأن نلوك أسئلة «غلط»، لذلك نكبر جميعاً في هذا البلد قبل الأوان. ففي المحافل الشبابية، بل في المدارس نفسها قد نفاجأ بيافعين وشباب في عمر الورد عوض أن يتركوا الأسئلة تتفتح داخلهم تجدهم قد عُبِّئوا بإيديولوجيات ومواقف شحنهم بها آخرون، مما جعل بعضهم يتحركون في الشارع تماما مثل «قنينات غاز» يمكنها أن تنفجر في أي لحظة. لهذا علينا أن ندافع جميعا عن التلميذ والطالب والجمهور الشاب ليستعيد لياقته، لأنه من العار أن نواصل السير باتجاه المستقبل ونحن على هذه الحال: شعوب يحكمها اليقين والدوغمائية». لهذا بالضبط يعتبر ياسين عدنان أن دور المثقف اليوم هو أن يفسد على المجتمع خموله الفكري المريح واطمئنانه الكسول إلى أجوبته اليقينية بالأسئلة الشائكة.