أتذكر بوبي، أتذكره بحنين كبير لكل الأعزاء الذين كانوا ورحلوا بعيدا إلى عالم البقاء حيث موعد لقاء جماعي ذات قدر. بوبي كان أليفا، مخلصا جدا مهما ابتعدنا عنه، شرسا عنيفا مع الغرباء، نغيب عنه زمنا طويلا ولا ينسانا، يكفيه أن يشتم رائحتنا من بعيد لكي يقفز فرحا مرحبا نابحا في وجوهنا وكأنه يلومنا على طول الغياب. كنا نهابه ونخشى ألا يعرفنا، خاصة وأن الفراق قد يمتد لعام كامل، لكن بوبي كان وفيا للأحبة شغوفا بتجديد اللقاء. كان يملك حاسة غريبة ويطرد ويطارد كل من لا يحبنا، بل ويشعر بشرّ الآخرين نحونا ويزمجر في وجه كل من يقترب منا قبل أن يستأنس به ونفهمه بطريقتنا أنه منا. كان يتبعنا ويحمينا، والويل والثبور لمن يقترب من دارنا. أتذكره بين الحين والآخر مثلما أتذكر عزيزا غاليا. مضت سنين طويلة جدا على رحيل بوبي، الذي كان يحزن لحزننا ولفراقنا. أفجعنا الخبر غير المتوقع ذات مرة ونحن بعيدين في المدينة.. يبدو أن أحدهم من القبيلة سممه انتقاما منه لشراسته. بكيناه وأقمنا حدادا خاصا في قلوبنا الصغيرة آنذاك ونحن أطفال، كنا نعدد خصاله كلما اجتمعنا وتذكرنا أيام العطل الطفولية في الريف، بل إن جدتي حينما كنا نستضيفها في المدينة كانت تتحسر باستمرار على بقايا الطعام التي يكون مآلها القمامة دون أن تكون من حظ بوبي الذي كان جزءا مهما وأساسيا من حياتنا في البادية.. هناك في الجبل بقرية نائية في بيت جدي الريفي. حينما أرى علاقة أحدهم وطيدة بكلبه يهزني الحنين إلى أيام بوبي الخوالي. لكن علاقتنا ببوبي لم تكن تبدو قوية ظاهريا كتلك التي نراها اليوم في المدن، فهو لم يكن يدخل بيتنا أبدا ولم يتجرأ يوما على أن يتخطى عتبة الدار.. كان دائما خارج البيت في العراء، وفي الليل كان ينام عند باب البيت الرئيسي أو «ثخوخت» كما كانوا يسمونه بالريفية، وما زلت لا أدري سر تسمية ذاك الباب باسم شجرة الخوخ. ورغم ذلك كان أنيسا ورفيقا ممتازا، لطالما أشعرنا وجوده بالأمان ونحن نائمون، فلا أحد كان يجسر على الاقتراب من كلب عمميمرأو أيذي نعميمر كما كانوا يصفونه بالريفية، على اسم صاحبه جدي. وكثير من الناس كانوا يعتبرون شراسة بوبي من شراسة جدي، رحمه الله، الذي كان ذائع الصيت، حيث اشتهر بشدته وحرصه بصرامة على كل ما يخص عالمه الذي تؤثثه شجيرات التين واللوز وبعض شجيرات الإجاص والبرقوق ودالية العنب وأرضه المحروثة. حينما أرى ارتباط الأوربيين بالكلاب، أفهم أنهم أدركوا أنها أوفى من كثير من البشر، وأخمن أحيانا أنه هروب غير معلن من الوحدة التي أصبحوا يعيشونها بعدما جنح العالم إلى الفردانية، فاختاروا كلابا تؤنسهم وتخرجهم من عزلتهم، وأسكنوها بيوتهم وأدخلوها غرف نومهم بل سمحوا لها حتى بأن تضطجع فوق أسرتهم. حتى نحن كنا نحس بدور بوبي الفعال بيننا وإن لم نكن نمعن في تدليله ومداعبته.. كنا نتبادل محبة ناضجة نابعة من وعي متبادل بمكانة كل منا في حياة الآخر.. فهو كلب للحراسة ونحن نوفر له المأكل والمأوى. تمنيت لو أن لي حديقة أو لو أنني كنت أعيش في بادية أربي فيها كلبا يشبه بوبي كي أعيد سيناريو تعايش جميل مع حيوانات ألفتها. حينما أقول لصديقاتي إن رؤية بقرة أو حمار أو كلب تسعدني كثيرا يثير ذلك ضحكهن، لكنني فعلا أشتاق إلى حياة البادية والتصالح مع كل مكوناتها وتفاصيلها. الازدحام قاتل في المدن، وتضيع في غمرته كل سمة تحيل على الريف وروعته.. فلا نباح ولا نقيق ولا صياح ديك مع التباشير الأولى لكل صباح. أخشى أن نفقد الإحساس بالحياة الطبيعية الدافئة ونتبلد وتفتر علاقاتنا أكثر في هذه المدن المدوية بضجيج مرعب، فنصاب بالرهاب حتما من وحشة الزمن، ونجعل من الكلاب رفقاءنا الذين يسكنون عقر دارنا، ونضطر إلى أن نخرج الإنسان أمام باب البيت ليتولى حراستنا ونحن خارج الديار، بينما تركنا الكلاب تسرح في طرق معبدة، يدهسها سائق غافل أو مجنون سرعة. لم يعد للكلاب مكانها وسط البنايات العصرية، ولم نعد نفكر فيها ولا في غيرها من الحيوانات الأليفة الأخرى ونحن نتوسع ونتمدن. سلام على بوبي أينما كان، وألف رحمة على صاحبه، جدي، الذي كان رجل أنفة وعزة ولم يسمح يوما لعرضه أو أرضه بأن تهان، هو من علم بوبي الشراسة والدفاع عنا، أما بوبي فكان حيوانا «محترما»، يعرف قدر نفسه جيدا ولا يتجاوز حدوده أبدا، لذلك لم ننسه يوما.