في نهاية مسيرته السياسية، بعد أن تقدم للانتخابات التشريعية ست مرات، وعاش في قصر «شيكي» ما يقارب تسع سنوات، من 2004 إلى 2012 ، يروق لبرلسكوني اليوم أن يخرج إلى الساحة كطفل مشاغب شقي ليزرع الرعب من جديد في الأوساط السياسية الإيطالية. فبعد مرور أقل من شهرين على الحملة الانتخابية، يرجع من بين الأموات ذاك الذي اعتبر معظم الملاحظين السياسيين على أنه انتهى وأصبح في خبر كان. لكن هذه المرة يعود إلى الحلبة ليتعقب آثار السياسيين وليقض مضاجعهم بواسطة تحالف أقامه مع عصبة الشمال، وهو تحالف أبرم مع يساريي الوسط الذين لا أحد يستطيع مزاحمتهم, حسب بعض المراقبين، ليس هذا فحسب, بل إن شعبيته حسب بعض استطلاعات الرأي في تزايد، خاصة بعد أن أطلق مجموعة من الوعود المغرية أهمها إلغاء الضريبة العقارية غير الشعبية على السكن الرئيسي التي كان قد أصدرها مونتي، وبإرجاع الأموال المستخلصة سنة 2012 من هذه الضريبة، إلى أصحابها في حالة فوزه. فهل سيعود برلسكوني ليحكم قبضته على ايطاليا؟ كما كان يفعل في أيام عزه، استعمل برلسكوني كل الوسائل الممكنة ليفرض نفسه في قلب الجدل الانتخابي القائم، متجولا بسمرته المبهرة عبر مختلف بلاتوهات القنوات التلفزية، ومستعينا عند احتدام النقاش بتلك العبارات السوقية، والكلمات الساقطة التي تستهوي الإيطاليين كثيرا. وكمثال على ذلك، فإنه أطلق وعودا جديدة، وهو يستلذ في قرارة نفسه بإقلاق الحكام الأوروبيين وإثارة الانتباه حوله مع تجاهل طبقة سياسية جديدة أخذت طريقها نحو البروز. إن الكفالييري (الفارس) الذي بدا تائها منذ أن أرغمته الأزمة الاقتصادية الخانقة على الاستقالة من رئاسة المجلس في 16 نونبر 2011، يحاول اليوم غزو السلطة من جديد بطريقته المتفردة التي لا يملك سرها سواه. فعندما أحس أن حكومة مونتي أصبحت تومئ بالسقوط كفاكهة مهترئة بعد عام من التقشف والركود، بادر إلى الإعلان يوم 8 دجنبر أنه «سينزل إلى الحلبة». لكن لهجته لم يكن فيها نفس الحماس والقوة اللذين تميز بهما عندما أعرب عن نيته سنة 1994 في إعادة هيكلة السياسة الإيطالية عقب الغرق الذي تعرض له كل من الحزب الاشتراكي والديمقراطية المسيحية، اللذين عصفت بهما عملية ماني بوليت، ولكن رغم ذلك يظل عامل المفاجأة يلعب لصالحه. ففي بداية يناير، استطاع أن يبهر حتى أعداءه لما قبل أن يتوجه إلى بلاتو «سيرفيسيو بوبليكو» (المصلحة العامة)، وهو برنامج سياسي يعرف عنه أنه معقل لكل المناوئين له. فظل على امتداد ساعتين من الزمن يصارع صحفيين متمرسين بقتالية كبيرة، وصرح ببرودة دم غريبة أنه ترك لسلفه مونتي، بلدا في منتهى عافيته الاقتصادية. كما انفجر ضاحكا حتى ظهرت كل أسنانه عندما ذكروه بأن مجموعته تستغني بكيفية فاحشة وتكسب كل يوم 400.000 أورو منذ أن دخل ميدان السياسة، ثم حذر من أخطار الشيوعية للمرة الألف، وأخيرا حاول أن يلتمس شيئا من العزاء لنفسه وهو يؤكد أنه يصرف لزوجته السابقة فيرونيكا نفقة تقدر ب 100.000 أورو يوميا. رجوع محتمل يقول إيلفو ديمانتي وهو أستاذ يدرس العلوم السياسية في جامعة أوربينو: «الإعلام المرئي يلائم برلسكوني بدرجة مذهلة لأن يمتلك براعة تجميد المشاهد على الحاضر، إذ على الشاشة الصغيرة، يستطيع برلسكوني أن ينسي المشاهدين بأنه مارس السلطة لسنين عديدة». ومرة أخرى، تبدو إيطاليا وكأنها تتأرجح كورقة في مهب الريح، ذلك أن نوايا التصويت لحزب «الكافالييري» التي تجمدت خلال شهور عديدة في نسبة تتراوح بين 12 و 14 في المائة، قفزت فجأة إلى ما يفوق 20 في المائة. ففي أزقة روما، حيث انتهت نزواته المتكررة بإثارة كثير من الملل والاشمئزاز في النفوس، فإن عددا كبيرا من المترقبين يتطلعون إلى رجوعه المحتمل إلى السلطة بمزيج من الشك والدعابة. « لقد أحسسنا حقا بالخجل لإيطاليا لما نشرت مغامراته الغرامية الزاكمة على صفحات جميع الجرائد الأوروبية» تقول فاليريا، وهي أم لطفلين وتعيش في العطالة لمدة تسعة أشهر، و»لكن ينبغي الاعتراف بأنه مقاول عبقري أسدى خدمات جليلة للاقتصاد الإيطالي، وفوق هذا وذاك، فأنا أرتاح شخصيا للانتماء إليه على الانتماء لخلفه ماريو مونتي، زيادة على أنه لا يوجد له نظير يلهبنا مثله بالخطب الجميلة العصماء. وفي منتصف يناير، توجه برلسكوني إلى الشعب الإيطالي المترنح تحت الأزمة الشديدة واعدا إياه في حالة فوزه بإلغاء الضريبة العقارية غير الشعبية على السكن الرئيسي التي كان قد أصدرها مونتي. بل ذهب أبعد من ذلك حين تعهد في رسالة بعثها إلى الإيطاليين يوم الأربعاء بإرجاع الأموال المستخلصة سنة 2012 من هذه الضريبة، والمقدرة ب4 ملايير أورو إلى أصحابها إما بواسطة تحويل بنكي أو في شباك البريد. وبالطبع فإن هذا التصريح أثار حفيظة مونتي الذي اتهمه بشراء ذمم المواطنين وتعريض اقتصاد البلاد لخطر كبير. و«لكن الطعم قد فعل فعلته ووجد من يبتلعه». كما يقول ألساندرو سبازيانو «43 سنة» الذي يعمل كمسؤول في شركة متخصصة في حمل المبيعات إلى المنازل: «أنا أثق في برلسكوني لأني أدرك أن ما يحفزه بالأساس هو التقدم بإيطاليا إلى الأمام. فهو على نقيض معظم السياسيين المحترفين الذين يتلهفون للاستحواذ على السلطة من أجل سرقة خزائن الدولة، لا يمارس السياسة بهدف الاستغناء، إنه يريد فقط أن يبرهن عن نجاحه في الأعمال والرياضة، وأنا متيقن من أنه قادر على النهوض باقتصاد البلاد.» أما في دهاليز السلطة الإيطالية، فإن الكثير ينسب إلى تحفزه دوافع جدية غير تلك التي يراها البسطاء من الناس. وكمثال على ذلك فإن إلفو ديمانتي يعتقد بأن «برلسكوني محكوم عليه بالبقاء في السلطة لأن له مصالح ضخمة يروم الدفاع عنها، ولهذا فهو يجد نفسه مطالبا ليس بتهييء مملكته الإعلامية فحسب، وإنما كذلك بتفادي الملاحقات القضائية المحتملة، ولهذا فإن من الضروري بالنسبة إليه، التوفر على تمثيلية قوية في البرلمان المقبل». من جهته، يعلق باوولو ميسا، وهو أستاذ في العلوم السياسية ومؤسس مجلة فورميشول قائلا: « لقد ترشح لأنه في حقيقة أمره يعشق ذلك ويعتقد أنه الأفضل». هذا التحليل يشاطره فيه أنجلينو ألفانو، الوصيف الأبدي الذي كان يحلم دوما يقيادة اليمين في الانتخابات قبل أن يقوم بخطوة غير محسوبة العواقب ويرغم في النهاية على التنازل لصالح «الكافالييري»: «سيلفيو برلسكوني هو قائدنا، ليس فقط لأنه مؤسس الحزب، ولكن لكونه يمثل كذلك الشخصية السياسية البارزة التي تجتمع عليها أسرة الوسط اليميني، والتاريخ هو وحده من سيعطينا الحق فيما نقوله، ذلك أننا بعد بداية متعثرة، ها نحن ذا قد أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من اللحاق بالحزب الديمقراطي، ونحن متيقنون من أن الفوز سيكون حليفنا». وإذا كانت استطلاعات الرأي قد منعت منذ عشرة أيام، فإن عددا لا يستهان به من المراقبين يتوقعون على عكس ما قيل بأن برلسكوني لن يكون بمقدوره تدارك النقط الأربع أو الخمس التي تفصله عن الديمقراطي بيير لويجي بيرساني. في هذا الصدد يقول كاد ليرنير، وهو صحفي سياسي في القناة السابعة: «هذا الصعود المفاجئ لبرلسكوني يمثل في الحقيقة مفاجأة مغشوشة، فخلال غيابه، وقع الرأي العام الإيطالي ضحية ضعف في الرؤية جعله ينسى أن اليمين يشكل منذ قرابة قرن من الزمن، واحدة من أكبر القوى الرئيسية في البلاد، ومرة أخرى، تتجسد هذه القوة في رجل كلما تقدم وحده ضد الجميع، استعاد بريقه واسترجع قوة الإغواء التي تميزه، غير أن الأمور تختلف في هذه المرة، ذلك أن برلسكوني فقد تلك القوة الخارقة التي مكنته خلال العقدين الماضيين من جمع الفاشيين والإقليميين والمافيوزيين ومقاولي الشمال والكاثوليكيين واللائكيين الملحدين في خندق واحد.» وضع على الهامش في وقت وجيز استطاع الكافالييري أن يحيي التحالف مع عصبة الشمال مقابل التعهد بدعم إنشاء إقليميات شاسعة تمتد من بييمون إلى فينيسي، والتحالف مع مرشح اليمين المتطرف فرانسيسكو سطوراسي. غير أنه في الوقت ذاته، أرغم على تطهير لوائحه الانتخابية من بضعة وجوه كالسيناتور السابق، الصقلي مرشيلو ديل أوتري الذي أدين سنة 2004 بتهمة إنشاء « عصبة إجرامية» وبعلاقات مفترضة مع المافيا، قبل أن يُنقض الحكم في السنة المنفرطة ويوضع المتهم على الهامش. وكذلك الشأن بالنسبة للبرلماني السابق نيكولا كوسونتينو الذي قيل عنه بأنه مقرب من «الكومورا». يقول في هذا الصدد وبكثير من المرارة، أنطونيو بالمييري، وهو برلماني من حزب برلسكوني: «إن استطلاعات الرأي تشير إلى أن الحملة الإعلامية والقضائية اللتين أثيرتا ضده انتهتا بإثارة انطباعات سلبية لدى ناخبينا...إنه اختيار صعب ينبغي على برلسكوني التعامل معه، سيما وأن الأمر يتعلق برفاق الطريق وزبناء أوفياء». «لقد راح الكافالييري وكأنما خدرته هذه الرياح المعاكسة يلعب أوراقه كاملة فضاعف من هجومه على «ميركل» معتبرا إياها سبب كل مشاكل إيطاليا، وقدم حياته العاطفية وهو يعرض أمام الصحافة خطيبته الجديدة ذات الثماني والعشرين سنة على أنها اتسمت بكثير من الحكمة، واشتكى قسوة غريمه ماريو مونتي الذي وصفه بالفظ الغليظ، وأثنى على الإيطالي المتوسط الطيب والمتدبر وهو يدعو ناخبيه إلى شرب نخب الفوز، غير أن «علامات التوتر والنرفزة بدت واضحة عليه».. يلاحظ أستاذ العلوم السياسية باوولو ميسا. ضربة عبقري يضيف أستاذ العلوم السياسية باوولو ميسا قائلا: « إن اقتراحه بإرجاع أموال الضريبة العقارية إلى أهلها هي فكرة نظر إليها الكثيرون على أنها ضربة عبقري، بينما أراها أنا مؤشر ضعف، لأنه أطلقها قبل أوانها وهو يروم الحد من زحف الهزلي بيبي كرييو على حسابه، بينما كان الأحرى ألا يطلق مثل هذه الرصاصة إلا في الشوط الأخير من الحملة الانتخابية.» إن الصعود الذي سجله الهزلي الجينوفي بيبي، الذي يمثل القضية الكبرى في نهاية هذه الانتخابات، قد زاد من تعقيد مهمة الكافالييري، بحيث إنه منذ 1994 ، وجد برلسكوني أمامه لأول مرة كثيرا من العناء وهو يحاول تقديم نفسه كبديل للسياسيين المحترفين. «هذه المرة، ليس له ما يخسره...» يصحح أنطونيو بالمييري وكأنه يقلل من وقع نكسة محتملة. « سيلفيو برلسكوني أعلن مسبقا بأن له مشاريع عديدة تنتظره، منها بناء مستشفيات للأطفال عبر العالم، وإنشاء جامعة للفكر الليبيرالي قرب فيلته بأركور.» وعندما يُسأل أنطونيو بالمييري إن كانت هذه الانتخابات هي الأخيرة في عمر برلسكوني يجيب باسما: « لست أدري... لنقل إنها المهمة في كل حياته». * عن جريدة «لوفيغارو» بتصرف