تابعت، باهتمام وانتشاء أيضا، نداء العلامة عبد الهادي التازي، بجعل الرابع والعشرين من شهر فبراير من كل سنة يوما وطنيا، احتفالا ب»أمير الرحالين» ابن بطوطة، الذي ارتحل، في رحلته، طوال ما يقرب من العقود الثلاثة، بحثا عن الإنسان، قبل أن يرتحل من أجل هدف محدد، سواء كان خيرا أو شرا. ولم يعد مستساغا اليوم الاكتفاء بإطلاق- وهذا في أحسن الأحوال- اسم الرحالة على المدرسة والشارع والفندق ووكالة الأسفار..الخ، بل أصبح من اللازم التعامل مع الرحلة والرحالة في سياق أسئلة تتجدد في كل وقت وحين، بتجدد طبيعة التعامل مع المتن الرحلي للرحالة، تبعا لطبيعة تنوع القراءة ذاتها، من مواقع مختلفة، فضلا عن كون الرحلة لا تقتصر على اكتشاف المكان، بل هي– كما يقول أحد الجغرافيين-»اكتشاف وظيفة للمكان». في تلك الصبيحة من يوم الرابع عشر من يونيو سنة 1325م، انطلق الفتى اليافع، وهو لم يتجاوز العشرين من عمره إلا بسنة واحدة، نحو بيت الله الحرام للقيام بشعيرة الحج.كان فرحا بتقريظ الجيران، وانثيال الدعوات من النوافذ والحوانيت والباعة المتجولين والسقائين وأهل الحرف... الكل كان في وداع أصغر حاج لتلك السنة التى انحفرت في ذاكرة الحاج ومودعيه. ومن المؤكد أن الحاج اليافع لم يشك لحظة واحدة في عودته مثل باقي الحجاج إلى بلدته معززا مكرما، بعد أن حمل القليل أو الكثير من ماء زمزم، وهدايا رمزية للأسرة والأقارب وإمام المسجد. غير أن رحلة الحج امتدت إلى ما يقارب ثلاثة عقود، وأصبحت الحجة ست حجات، وظل البيت الحرام بوصلته الهادية، يعود إليها بعد أن يضرب في الأرض، برا وبحرا، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، بعد أن طوى ما يقرب من 120.000كلم، أي ما يعادل ثلاث مرات محيط الأرض. ومن ثم تحولت الرحلة إلى ارتحال في السفر ذاته، أو بعبارة أخرى: رحلة لتمجيد السفر، الذي جعل من ابن بطوطة داعية لممارسة الارتحال بهدف الانتماء إلى المختلف والمتعدد والمغاير، بعيدا عن الوثوقية المريضة، والمركزية المقيتة، والأحادية المتخلفة، والدوغمائية الكارثية. الرحلة، إذن، عند ابن بطوطة لحظة من لحظات التطهير (الكاثرسيس) مما سبق ذكره. ولعل ذلك هو الذي دفع بالكثير من الباحثين، في هذا المجال، إلى اعتبار دور الرحلة في تغيير الكائن المرتحل الذي يصبح كائنا جديدا يختلف عن الكائن السابق عن الرحلة. ارتبطت رحلة ابن بطوطة بمرحلة القرون الوسطى، مرحلة ازدهار المخيال العربي- الإسلامي، من جهة، والمخيال الآسيوي (الصيني)، خاصة، من جهة ثانية.والعالمان معا شكلا، آنذاك، فضاء مميزا، في عمق الخارطة العالمية، ساهمت الرحلة في موقعته، في سياق مركزية مادية، ورمزية، افتقدها الغرب أو أوروبا. وتكفي الإشارة إلى أنماط الطريق، برا وبحرا، في رحلات هذه المرحلة، لنلمس، عن قرب، طبيعة المقاصد والغايات للرحالين التي تداخل فيها الكشف بالاكتشاف، والواقع بالحلم، والحقيقة بالخيال، والعلم بالأسطورة، والمادي بالرمزي، والسماء بالأرض، والمؤتلف بالمختلف. ومن أهم هذه الطرق نذكر: طريق الحرير (الشام/ بغداد/ سمرقند/ بحر الصين...) طريق التوابل (القدس/ مكة / البحر الأحمر/ المحيط الهندي...) طريق الملح والذهب (طنجة/ سجلماسة/ تغازا/ غانا/...) طريق الحج (القدس/ مكة...) طريق الفرو(منطقة البحر الأسود) ساهمت رحلة ابن بطوطة في صياغة تضاريس خارطة العالم، من موقع «مركزية الإسلام»، التي بدأت في العد التنازلي، أمام بصر ابن بطوطة، الذي جسد آخر مثقفي المرحلة، وهو يتابع بداية تسرب الخراب إلى بغداد العامرة، أكبر حواضر الإسلام في هذه المرحلة.والقاهرة يتعالى فيها، في الوقت ذاته، صدى تطاحنات المماليك، وفي الأفق تلوح رايات الصليب، كحلقة من حلقات الحروب الصليبية المتجددة. غربا، كان البلاط المريني يعيش، محليا ومغاربيا، مخاضات تاريخية تتوزع بين المأساة والملهاة، وفي الأفق تتضاءل غرناطة أمام الأنياب المكشرة للجنود الإسبان، والبحر يتحول، تدريجيا، بعيدا عن طريق البر، إلى طريق سالكة لسفن المغامرين الجدد المسلحين بالكثير من العلم، والكثير من المغامرة، والكثير من العتاد، والكثير من التسلط والعدوان. شكل ابن بطوطة، إذن، ضمير العصر، ضمير العالم. والانتقال من مكان إلى آخر شكل بالنسبة إليه انتقالا من الجهل إلى المعرفة، وهو- المكان- محفز من محفزات السفر، والسفر متعة وإمتاع، قبل أن يكون تكليفا من قبل جهة معينة، رأسماله الوحيد هو تحقيق هذه المتعة التي امتزجت بأدوار عديدة لعبها، في تلك المرحلة، من موقع فهم (الآخر) في مختلف تجلياته المادية والرمزية. فالحاجة إلى ابن بطوطة تظل ملحة الآن، أكثر من أي وقت مضى، في زمن استعصى فيه الحوار، من جهة، والأحكام المسبقة، من جهة ثانية. لنجعل من هذا اليوم (24فبراير) لحظة للارتحال في هذه التجربة، التي لم تكن تجربة فردية، بقدر ما كانت تجربة إنسانية، كشفت، وتكشف، عن إرادة الإنسان التي لا تقهر، في بحثها الدؤوب عن جوهر كيان أصيل لا يتغير، بالرغم من بعد المسافات، وتعدد الطبائع والعادات، واختلاف الألوان واللغات، والقيم والأخلاقيات. ذلك هو درس ابن بطوطة.