«كذوب مبرق.. طاحتْ القرعة وبقى الزيتْ معلقْ»، مقولة بليغة منقولة عن الرباطيين القدامى. لست أدري لماذا يحضرني هذا المثل كثيرا.. ولو أن بينكم ربما هناك من يدري.. عندما يقف السياسي، أو المتسيس، فوق منصة الخطابة، و«يحنحن» ليشحذ صوتا يستعد لقصف الحضور بالوعود والوعود والوعود، يحضرني المثل الرباطي من حيث لا أدري. حين حضرت أول تجمع انتخابي، في سبعينيات القرن الماضي، كان الخطيب شابا أراه لأول مرة، وقضيت كل هذه الأعوام أراه، بعدما أدمن الخطابة حتى وقد اشتعل رأسه شيبا. في البدء صدقت كلامه، وقد استهله بالبسملة والصلاة على النبي، لكنه سرعان ما راح يحكي كلاما لا يقبل التصديق؛ فقد أخذ يعد أهل حومة «قصر البحر» في الرباط بأنه لو نجح في تلك الانتخابات فإنه سيشيد لهم المسابح والملاعب والمدارس ودور الشباب و... لا أحد صدق قوله؛ فكل الحاضرين، وكثيرين منهم جاء رغم أنفه، يعرفون أن هذا الحي المقام منذ عقود خارج أسوار المدينة العتيقة، ليس فيه مكان لدفن «حنش واقف». فهل يبني لهم تلك المنجزات فوق أمواج المحيط الأطلسي، على بعد خطوات عن موقع التجمع الخطابي؟ّ ومع ذلك، لم يحضرني المثل الرباطي المذكور يومئذ، فقد كنت «نية»، وهو الوصف المهذب ل»كانبو». ثم إني قلت مع نفسي: من يدري، ربما كان له حل لا علم لي به. لكنه اختفى قبيل إعلان النتائج التي طلع فيها اسمه مع الناجحين لتمثيلنا في مجلس النواب، ولم يظهر له وجود، لا مسابح ولا ملاعب ولا هم يحزنون.. فعرفت أن ما كان الخطيب «يقنبل» به أسماعنا ما هو إلا «كذوب مبرق».. من باب «طاحت القرعة وبقى الزيت معلق».. لم يختف الخطيب المذكور منذئد من المشهد العام، برلمانيا ووزيرا ومديرا عاما، حاضر في المأدبات والرحلات، متقدم في إعطاء التصريحات لكل القنوات في مختلف المناسبات... تدرَّج صاحبنا في الحقل السياسي بأحزاب مختلفة، وتقلد عدة مناصب رسمية، ولو أن «التقليد» الأكبر هو أنه أخلف الوعود التي أقسم على تنفيذها في حومة قصر البحر، وبعدها أدمن إعطاء الوعود التي يخلفها. كلما سمعت سياسيا، أو متسيسا، من أمثال صاحبنا، أتذكر «الكذوب المبرق». جارتي في قطار الخامسة تهمس في هاتفها النقال لمخاطبها كلاما معسولا، لا أدري لماذا ذكرني بمقولة الرباطيين القدامى. يتحدث الديكتاتور للتلفزيون، في عيد الحب، عن وعي الشعب.. عن حقوق الإنسان وأعمال الإحسان.. فأتذكر المثل الرباطي. شاب يدلل على مدى إخلاصه ووفائه في الحب.. وزير يتحدث عن منجزات تخدم مصالح الشعب.. سمسار يعدد محاسن السكن في بيت فوق السطح. معلق الإذاعة يكرر كلامه حول النمو والجاه والرفاه، عن اليوم الأجمل والغد الأفضل والمستقبل الأمثل.. كلها حالات أتذكر فيها قصة القرعة التي «طاحتْ وبقى الزيتْ معلقْ».. ............... حدث مرة أن حاولت إيهام نفسي بأني إنسان طيب.. جدية وخُلق كريم وانضباط. ابتسمت النفس الأمارة بالسوء، بسمة ساخرة، وهي تذكرني بمقولة أهل الرباط: «كذوب مبرق.. طاحت القرعة وبقى الزيت معلق».