الطغيان الخطابي شقيقُ الطغيان السياسي والاجتماعي، وهو دليلٌ على وجوده مهما تقنع، بل هو عَضُدُه وساعده الأيمن. ألم يقل الشاعر القديم: “وإن الحرب أولها كلامُ”. لذلك من المفيد للمجتعمات أن تتصدى لخطاب الفتنة بوسائل الوقاية، ثم بوسائل العلاج. وأولُ خطوات العلاج، وأكثرُها تحضراً وإنصافا الكشفُ البلاغي عن آلياته وأساليبه، وبيان خطورته، ونزع أقنعته. يحلل المقال أدناه عينات من هذا الخطاب. مع اقتراب صيف هذا العام، 2012، انفجر دُمَّلٌ من كلمات وألفاظ تمتد من البذاءة والتحريض على القتل إلى انعدام اللباقة والاستفزاز المجاني. خطاب يندرج في قاموسِ العنف الخطابي، وينتمي إلى منطقِ القطيعة، مجاله أمور كان ينبغي أن يستوعبها الحوار العقلاني المفترض بين المواطنين. فالمُواطَنةُ قَدَرٌ، بكل معاني الكلمة، مثلها مثل الجوار الجغرافي للدول: فأنت لا تملك حقَّ اختيار من يشترك معَكَ في الوطن أو الجوار، كما لا تملك منعَ الآخرين من التفكير بخلاف تفكيرك، ولا تملك أن تعطيهم التوصيف الذي تريده أنت بناء على أي ملابسة كانت. وترجمة هذا الأمر واضحة جلية في قولهم: السياسة هي علم تدبير الاختلاف، أو الممكن. وقديما قال حكيم شعراء العرب، أبو الطيب المتنبي: ومِنْ نَكَدِ الدُّنيا على الحُرِّ أن يَرَى عَدَوٌّا لهُ ما مِنْ صَداقَتِه بُدُّ عندما خرب السلطان رشيد العلوي الزاوية الدلائية، وشرد طلبتها وعلماءها، أحضرَ منارةَ عُلمائها، العالمَ الصوفي أبا علي الحسن بن مسعود اليوسي، وقال له: لعلك تردد الآن قول المتنبي! فهم العالم غرضَ السلطان المنتصر، فجاء جوابه: من سعادة المرء أن يكون عدوه عاقلا. ومقتضى هذا الجواب أن من شقاء المرء أن يكون عدوه جاهلا. والجهل هنا لا يقف عند عدم المعرفة، بل يمتد لانعدام الحكمةِ والحِلم والتبصُّر. وهي الحالات التي تطبع سلوك الطغاة المستبدين والمتطرفين من كل صنف، فهم لا يرون طريقا لتصريف الخلاف غيرَ جلد ظهور الخصوم وضرب أعناقهم، أو تغييبهم في السجون والمنافي، أو نبزهم بالكلام الفاحش، والخطاب المُعنت. وعلى السلطان أن يختار أين يضع نفسه: مع العقلاء أم مع الجهال! حين نبتعد عن قاموس المستبدين والمتطرفين يتلاشى لفظ “عداوة” في مجال المواطنة والسياسة، ويحل محله لفظ الخصومة والتدافع السلمي، والاحتكام إلى حقوق الإنسان المبنية على الكرامة بكل مقتضياتها، وداخل هذه الدائرة، لا خارجها، يمكن أن نتحدث عن إجراءات الديمقراطية، ومنها الانتخابات وتوابعها. لا ديمقراطية بدون الاعتراف بكرامة الإنسان، ومن كرامته احترام فكره ومعتقده وتعبيره عنهما بحرية. من المؤسف أن ذلك الدُّمَّلَ الخطابيَّ المذكور أعلاه منسوبٌ، كما سترى، لأشخاص يحملون نعوتا دينية ذات اعتبار، أو يراد لها أن تكون كذلك: إسلامي، سلفي، أصولي (أي يدعو للعودة إلى الأصول)…الخ. شيوخ وزعماء ساهموا في هذا المتن الخطابي العنيف درجاتٍ من المساهمة. في أعلى السلم يقع خطاب التكفير، ويليه خطاب تبرير التكفير والتقليل من شأنه، وهو مشاركة تستحق نفس الإدانة. ومعهما القذف والسباب والتنابز بالألقاب، ثم يأتي بعد كل ذلك، في أسفل السلم، خطابُ اللمز والغمز المنطوي على إعلاء الذات واحتقار الآخر. 1 التكفير والقذف أول من فجر هذا المعجم، في طبْعة 2012، الخطيب عبد الله نهاري. وهو خطيب مشهور منذ سنين بانفعاله التاكتيكي المبرمج أثناء الخطابة. ومشهور أيضا بالضرب على المنبر، وتكسير ما يقع في يده. والغريب أنه يسمي المكان الذي “يجذب” فيه “منبرَ رسول الله”: كيف يَعتقد الشخص أنه على منبر رسول الله ويقوم بكل ذلك الضوضاء والعنف والصخب؛ بلغ به مرة أن حطم الصورة المعلقة في الجدار خلفه. مع كل هذا الاندفاع والعنف يُصرِّح علنا أنه ليس عالما، ولا مفتيا، وهو صادق في ذلك بدليل تغليطُه من طرف بعض الشيوخ من نفس الاتجاه (المغراوي وآخرون)، كما يدل عليه أخطاؤه النحوية والصرفية الكثيرة. فكيف يكون شيخا في الدين الإسلامي من يجهل قواعد تركيب اللغة العربية؟! أدْخلَ هذا الخطيب يده إلى “قعر الخابية”، كما يقول المغاربة، فأخرج لفظا مهجورا، في معجم المغاربة، والمسلمين عامة: الديوث. أولُ ما سُمع به كان في حديث تدل صيغته على أنه موضوع. جَهِل معنى الديوث حتى العرب الذين عاصروا رسول الله (ص). استعَمل نهاري هذا اللفظ البذيء المهجور في وصف مواطن صَوَّتَ معه على الدستور، بل تجاوز هذا اللفظ المشين، إلى الحكم بقتل ذلك المواطن صراحة لا تلميحا!! استعمل في ذلك قياسا خطابيا معروفا بقوته الإقناعية من عهد أرسطو إلى اليوم: الديوث يقتل (بدليل شرعي حسب زعمه!) لغزيوي ديوث (حسب زعمه الفاسد) النتيجة: لغزيوي يقتل من صدَّق بالمقدمة الكبرى والصغرى ملزمٌ بتصديق النتيجة، لأن الهيكل منطقي. إنها فتوى صريحة بالقتل. والمُتَلَقُّون معروفون: شبابٌ متحمس غيور على دينه، قليل الخبرة بألاعيب الخطباء. ولذلك خرج هؤلاء الشباب في تظاهرة يهددون بالويل والثبور كل من يعوق عمل الشيخ أو يمس شعرة منه، واضطر الخطيب إلى دعوتهم للتريث. ليس من الحكمة أن ننشغل هنا بالأساس الشرعي لفتوى الخطيب، ولا بمدى اتفاقنا أو اختلافنا مع رأي الصحفي. هذا مستوى آخر من النقاش سَدَّ الخطيبُ بابَه بفتوى القتل. يجب أولا سد باب الفتنة قبل الخوض في هذا النقاش. والفتنة المجرمة موجودة في القذف أولا (ديوث)، وموجودة في إهدار الدم ثانيا. لقد شبت النار، ومن سوء التدبير الانشغالُ بالبحث عن أسبابها قبل الانتهاء من إطفائها. تُذكِّر لفظةُ ديوث بلفظة أخرى من الألفاظ والكليشيهات المنمِّطة التي يرددها تلاميذ الشيوخ الخوارج للطعن في كل من يخالفهم الرأي، وهي كلمة رويبضة. والرويبضة هو كل من يخالف المتطرفين في شؤون الدين، وقد صنعوا لها هي الأخرى حديثا بنفس السيناريو: فهمنا كذا وكذا، يا رسول الله! فما هو الرويبضة..، أو فما هو الديوث. أنتجت هذه اللفظة، هي الأخرى، في العصور القديمة من قِبل الحَشوية والمُعنعنين لطرد أهل الدراية من مجال النظر في الدين والدنيا، فكل من خالفهم سموه رويبضة. وللشيخ عبد الله نهاري معجم غني في هجاء الأفراد والمؤسسات، يمكن استقصاؤه بالرجوع إلى تسجيلاته على الأنترنيت، ما بقي منها بعد إخفاء موقعه إثر “زلة الشاطر” التي وضعته وجها لوجه مع الضابطة القضائية. أخفي الموقعَ، وصار ينكر كل شيء، وكان جديرا به أن يتحمل كل مسؤوليته، أو يعتذر صراحة ويلتزم بأدب الخطاب. ولكن هيهات! لقد فات الأوان، صار صاحبَ حقٍّ تجاري مربح. وبفضله طار إلى أمريكا في رمضان، ومن هناك استمر في نفس المسار مؤثما المرأة المغربية التي تسافر في أنحاء العالم بدون محرم، ومتهكما من فتوى علماء المغرب بجواز إفطار المتنافسين في الألعاب الألمبية. وفي دعم هذا المعجم وصاحبه، ومحاولةً لتقسيم دم الصحفي بين عدة شيوخ دخل المعمعة شيوخُ السلفية الجهادية الكبار: حسن الكتاني، وعمر الحدوشي وأبو حفص رفيقي. وهؤلاء الثلاثة من المعتقلين في ملف انفجارات الدارالبيضاء سنة 2003، التي مات فيها عشرات الأبرياء. قضوا في السجن ثماني سنوات بسبب معجم أخف من هذا وأكثر إغراقا في الرمزية، وخرجوا قبل إتمام مدة الحكم بعفو ملكي. لقد أيدوا فتوى نهاري وتجاوزوها بحشد من عبارات السب والقذف نكتفي منها بما ورد في بيان نشره الحدوشي على موقعه على الفايسبوك: “…أما بعد: فقد صدمت مما سمعت من الكلام الذي يدل على رقة في الدين وعقوق الوالدين ، يعلن هذا الفاسق بملء فيه بدون مزعة حياء أنه يرضى الزنا لأمه وأخته، وهذه الدياثة والمجوسية لم نسمع بها حتى عند اليهود النصارى حاشا المجوس،… ولا أدري كيف يصرح بهذا الخنا والقبح والعهر في مجتمع مسلم … هذا الوقح لا يحتاج للرد لو كان شرع الله قائماً لاحتاج للحد والتعزير على رؤوس الملأ،… نحن من هذا المنبر نعلن تضامننا لكل من يذب عن الإسلام وأخص بالذكر الأستاذ نهاري ومن على شاكلته ممن له غيرة على الدين والله ناصر دينه، وبه وجب الإعلام”. ومن المفيد أن يرجع القراء إلى المشروع الذي وزعه هؤلاء الشيوخ كأرضية لتنظيم يعتزمون تأسيسه لمعرفة المعدن الذي يستخرجون منه حقدهم الأسود على كل ما هو حداثي أو عقلاني أو مطالب بحرية التعبير. مهمتهم حسب تلك الأرضية هي التصدي للعلمانية الكافرة أنظمة وفكرا. والعلمانية عندهم هي كل ما دخل العالم الإسلامي من الأفكار والنظم من بداية العصر الحديث إلى الآن. 2 الاستعلاء عن طريق الغمز واللمز دون المستوى السابق: مستوى التكفير والقذف والهجاء الصريح الفج الذي يمارسه الخطباء الذين يسمون أنفسهم شيوخا، يوجد مستوى أكثر تقنيعا ورمزية، وهو مستوى الغمز واللمز المتضمن لأحاسيس الاستعلاء. يتميز هذا المستوى باعتماد أساليب بلاغية من أقنعة ورموز لا تخفي أحاسيس الاستعلاء، والاستعلاء، كما هو معلوم، مشتلُ الكراهية. وفي هذه اللغة يشترك جميعُ الأصوليين الدينيين اتجاه كل من يعتبرونهم غير “إسلاميين”، أي لا ينتمون إلى تصورهم للإسلام، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين. وهذا المستوى هو الذي يهمني كشفه كبلاغي، أما المستوى الأول فيدركه جميع الحقوقيين بسهولة، وحكمه للقضاء. الأمثلة كثيرة في هذا المقام، ولذلك سنكتفي بأمثلة تساعد على فهم المقصود. نورد نموذجين، يقيس عليهما من شاء الاستقصاء من حذاق القراء وطلبة البلاغة: 1) دعوى النظافة، و2) ودعوى العلم. وفحوى الخطاب فيهما، كما سترى: لنا النظافة والعلم ولغيرنا الوسخ والجهل. 1 “تنظيف” الترفيه والفن. حين ثارت قضية تخييم العدل والإحسان في مخيمات خاصة، قال أحد قادة الحزب الذي بيده “الحل والعقد” بأنه ضد المخيمات الفئوية، هذا جميل، ولكنه أضاف بأن هناك حاجة لتوفير شواطئ “نظيفة” للأسر المحافظة. هكذا جاء الخبر في الصحافة وصار البعض يروجُ هذه المقولةَ، فيما يشبه عدم الفهم. فكلمة “نظيفة” ليست عفوية، فهي تنتمي إلى لائحة من الألفاظ توجد، كما يقول البلاغيون اللسانيون، على محور الاختيار). من الألفاظ الممكنة الأقرب إلى الحياد الكلمات التالية: مُناسبةٌ، وملائمةٌ، وتستجيبُ لحاجيات..، وترضي،…الخ. ولكن المُتحدثَ، العارفَ بما يُريدُ، لم يخترْ أيَّ واحدةٍ من هذه البدائل! لماذا؟ لأن الغرضَ البعيدَ ليس الحصولَ على ما يناسب المحافظين بالتحديد، بل هو إدانةُ الحالة القائمة وتلطيخُها تمهيدا لتجريمها، أو على الأقل تنفير الناس منها: فمَن ذا الذي سيقبلُ أن يَقصدَ مكانا حُكِم عليه بالوساخة؟! هذا الانزلاق الخطابي مبني على أساس القول بأن النظافة من الإيمان (وهذا صحيح، بل معجز)، وتابعه أن تكون الوساخة من قلته، أو انعدامه. هذه نافذة مفتوحة على مصراعيها لعلم نفس تحليل الخطاب. وليس لفظ “نظافة” خاصا بمجال الاستجمام بالشواطئ، بل نجده في وصف التجارب الفنية التي تشاكس بعض الطابوهات، بقطع النظر عن مدى توفقها في هذه المشاكسة. فمهما كان تقويمنا لتلك الأعمال لا نستطيع وصفها بنقيض النظافة، وهو الوسخ، أو الاتساخ، كما لا نستطيع وصف الشواطئ المغربية بالوساخة بسبب ملايين المصطافين المغاربة الذين اختاروا اللباس الذي اقترن بهذه الممارسة منذ نشأتها في المغرب. إن “نظافة الفن”، خاصة الفن المسرحي والسنمائي. موضوع واسع عريض. فَدعوى النظافة في هذا الميدان تبدأ بمشاكسة الطابوهات والمسكوت عنه، وتنتهي إلى الاعتراض على أي فكر نقدي تحرري. من الممكن مناقشة مدى وظيفية بعض المشاهد والأفكار المعبر عنها، ومدى مجانيتها ومجافاتها للفن، وهذا كاف لتمييز الغث من السمين. أما الزبد فيذهب جُفاءَ. ولكن هذا لا علاقة له بالنظافة والوساخة التي يريد المتشددون إلصاقها بكل إبداع يزعج “سكينتهم” و”سكونهم” في الزمن الماضي. إنهم ككل المستبدين يخشون السخرية من المتحجرات. (أفتح قوسا، وأقول، من باب المداعبة المواطِنة لإخواننا الأصوليين (الصوفيين والسلفيين خاصة): ما دام السلف الصالح لم يفكر، على مدى أربعةَ عشرَ قرنا، في السباحة في البحر، والبحر قائم مباح، والحرارة مفرطة، وما دامت هذه “البدعة” غربية وعلمانية و.. و..الخ، فلماذا تودون مجاراة هؤلاء الحداثيين العلمانيين، المغرمين بتقليد “الغرب الكافر”، في بدعة ارتياد الشواطئ والسباحة في البحر؟!). ومن الشواطئ والفن والأدب انتقلت مقولة “النظافة والوساخة” لتكون صفة للهيئات والأحزاب: هناك حزب نظيف وحزب متسخ. من التعابير المجازية التي تشي بهذا المعنى قولهم: “الأيدي المتوضئة”. وهذه من العبارات التي استعملها الشيخ الحدوشي في وصف الحكومة الجديدة: حمد الله لأن مقاليد الأمور وقعت في الأيدي المتوضئة. يقصدون أنهم الأنظفُ وحدهم. والله هو العالم بسرائر العباد. فكم من متظاهر بالوضوء والمشيخة والإمامة وهو أوسخ من الوسخ. فلماذا لا تنضبطون لقوله تعالى: “فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى”. من الصيغ الخفيفة التي تبدو عفوية لعامة الناس قول وزير الاتصال أخيرا أمام البرلمان أنه حقق بعض التقدم في إصلاح المجال السمعي البصري، فقد وصل عدد البرامج الدينية في القناة الأولى سبعةً، وخُفض عدد البرامج الترفيهية (أو الفكاهية) إلى اثنين. وهناك برامج دينية تهيأ للقناة الثانية. وحققت القناة السادسة الدينية الريادة. هكذا رُبطت قيمة “التقدم” بشيء واحد، هو عدد البرامج الدينية المضافة، وبناء على هذا المنطق فإن هذا “التقدم” سيصل غايته حين تتخلص القناة من البرامج “غير الدينية”، أي الترفيهية التي نالها التقليص! ولم يتحدث الوزير عن البرامج العلمية لسبب بسيط، هو أنها غير موجود في الواقع، ولم تخطر على باله. ولا أعتقد أنه من الفئة التي تعتقد أن العلم كله موجود في الدين. هذه مشكلة ضخمة! فبأي منطق اعتبرت البرامج الترفيهية غير دينية! نحن سائرون نحو مأزق خطير. مأزق عشناه نحن الدارسين للأدب، والنقد الأدبي، عندما ظهرت بدعة: الأدب الإسلامي، والنقد الإسلامي. وهي أسماء لمسميات يفهمها أصحابها وحدهم، فقد مرت عقود على دعواهم هذه ولم نر منها عملا ذا قيمة إنسانية، أي تتلقاه العقول السليمة بالقبول حيثما كانت: جعجعة وحق تجاري، ولا طحين. بل الذي حدث هو ظهور الكثير من المعوقين علميا الذين يقفزون من مجال الدرس الأدبي إلى مجال الدعوة حيث يخاطبون العوام بطلاقة و”شداقة” وفيهقة. وعند هؤلاء “الطب الإسلامي”، بعضهم يسميه الطب النبوي، وبعضهم يسميه “الرقية الشرعية”. تديين الإعلام بهذا المفهوم أمر خطير. فلو استعملت لغة: “هذا ديني، وهذا غير ديني”، في الإعلام من طرف طائفة منغلقة، مثل الخوارج، أو طالبان، لأمكن فهم هذه اللغة. الذي نعلمه نحن هو أن كل ما لا يتعارض مع مقصد من مقاصد الدين الكبرى فحكمه الإباحة، تقدر منفعته بالعقل. والعقل يقول بأن الفن و”اللعب”، بمعناه الكبير، ميزة إنسانية كبرى، هي مفتاح الإبداع في جميع المجالات، و”نعوذ بالله من قوم لا يشعرون”، كما قال الإفراني، ومن قوم لا يلعبون. ونحن نعرف أن الفكر السلفي السطحي يعادي الخيال والإبداع منذ القدم. لا يؤمنون حتى بوجود الاستعارة في القرآن الكريم، لوهمهم السقيم بأن المُستعير محتاج، والله غيرُ محتاج. إنه قصور عقلي. والحال أن الاستعارة دليل على القدرة والإبداع لا على العجز. ولذلك ففي القرآن الكريم أروعُ الاستعارات والتشبيهات التي عرفتها اللغة العربية: “الله نور السماوات والأرض..”. و”قيل يا أرض ابلعي ماءك..”. “مثل الذين حملوا التراث، ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفارا”. 2 تجهيل الخصوم مثالنا هنا ليس من صفحات الأنتيرنيت غيرِ المراقبة، ولا من صحافة الإثارة التي تضحي بكل شيء من أجل المبيعات، بل من قبة البرلمان! تعمَّد النوابُ (وهذا شيء محمود) أن يستعملوا، في حرمهم، كلمة “محترم”، برغم كل ما جلبته عليهم أحيانا من سخرية. تحت هذه القبلة تدخلت برلمانية أعطاها الله من من رجاحة العقل وفصاحة اللسان ما أعطاها من الجمال الصحروي الفريد، تدخلت فقالت كلاما لا تخجل منه العذراء في خدرها كما قال الشاعر القديم. رد عليها وزير لم يحرمه الله من شيء من ذلك، غير أنه كان مشحونا بما شحن به من مشاعر التميز، تظاهر بالتعفف ثم “سَلَحَ”، أو “دَرَقٌ”، على حد قول شاعر الرسول (ص) حسان بن ثابت، غفر الله له ولنا جميعا. قال حسان: “لم يهجه ولكن سلح عليه”، وهو يعلق على قول الشاعر الهجاء: الحطيئة. ماذا قال الوزير، وماذا قال الشاعر، وبماذا حكم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؟ قال الوزير للبرلمانية: “أقول سلاماً! وانصرف إلى مقعده متنازلا عن باقي الوقت المخصص له. “أقول: سلاما” هذه استفزت حزبا بأكمله: أصدر الاتحاد الاشتراكي بيانا في شكل افتتاحية على الصفحة الأولى من جريدته. أدان فيها “لغة الاستعلاء” التي ركبها الوزير. من الحِكمة أن البرلمانيين لم يقوموا برد فعل في اللحظة، وفي عين المكان، ومن الرزانة أن الحزب تحدث عن الاستعلاء، ولم يتحدث عن توابع الاستعلاء. وإن شئت أن تعرف ما يتبع الاستعلاء، فما عليك إلا أن تتأمل الأسباب القريبة لقيام الحرب العالمية. كلمة “سلاما” جارحة ليس في ذاتها بل لأنها تحيل على قوله تعالى: “وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما”. وقوله تعالى: “سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين”. هذه صورة من صور التناص، عند البلاغيين، أي تقاطع النصوص، وبناء بعضها على بعض. من السهل أن نقول لمن نختلف معه في العقيدة والفكر: سلاما، لأننا نقولها ثم نذهب إلى حال سبيلنا؛ إلى معتكفنا الديني، أوبرجنا العلمي. لن يأتي أحد ليزعج سكينتنا، إلا إذا فتحنا الباب. السياسة بخلاف ذلك، لا نختار مع من نمارس السياسة، وحتى حين نختار مع من نتحالف في تكوين أغلبية حاكمة فإن الاختيار لا يكون على مستوى الرضا بل على مستوى الإمكان، والوزير يعرف هذه الحقيقة بالممارسة الحية الآنية. وفي جميع الأحوال تبقى هناك معارضة صريحة… في السياسة لا مجال للنَّكَدِ الذي تحدث عنه المتنبي في أول هذا المقال، النكد حالة انفعالية، والسياسة، مثل الحرب في الجبهة، تتطلب برودة الأعصاب في جميع الأحوال. حتى حين تتحول الخصومة إلى عداوة، نتيجة إقحام الديني، يجب على المرء أن يكظم غيظه ويقدم عقله أمام لسانه. “سلاما” لا تحل مشكلا في البرلمان، بل تعقد المسألة. أن تقول لمحاورك: أنت جاهل لن أخاطبك! هذا لا يحل مشكلا. هذا في المستوى السياسي، فلننظر المسألة من وجهة نظر عمر بن الخطاب. ما ذا قال الزبرقان؟ وماذا قال الحطيئة؟ وماذا قال عمر؟ لقي الزبرقانُ بن بدر الشاعرَ الهجاء الحطيئة فوجهه إلى حماه وعشيرته ليُطعموه ويكسوه، وتابع هو رحلته إلى المدينةالمنورة طلبا للمكارم الإسلامية التي يريد إضافتها إلى مكارمه الجاهلية. لأمر ما لم يجد الحُطيئة عندَ زوجة الزبرقال ما وعده به، فتركه ومدح منافسيه في الشرف بني أنف الناقة مُعرِّضا، في الوقت نفسه، بهجائه، قائلا: دَعِ المكارمَ! لا ترحل لبغيتها، واقعدْ فإنك أنتَ الطاعمُ الكاسي ظاهر الكلام مدحٌ، وباطنه هجاء. الحطيئة متمسك بالظاهر(الطاعم الكاسي، هذه صيغة اسم الفاعل، أي أن الزبرقان يفعل الإطعام والإكساء). والزبرقان متمسك بالبعد المجازي للكلام: مع المجاز نتجاوز الظاهر إلى ما وراءه. وما وراء الظاهر يعلمه عمرُ لا ريب، ولكن موقعه كمنفذ فرض عليه، وهو العادل، أن يترك الحكم للخبير بالفن الشعري، ولعله فكَّر في دَرْءِ الحَدِّ بالشُّبهة، الله أعلم. المهم أنه لجأ إلى شاعر الرسول الخبير بالهجاء، حسان بن ثابت. حسان لم يتردد، بل قرر الحكم بصورة مجازية سكنت الذاكرة النقدية من صدر الإسلام إلى يومنا هذا. قال حسان: لم يهجه، ولكن سلح عليه، وفي رواية أخرى ذرق عليه. وسلح الطائر أرسل ما في بطنه من ريح كريه. وهو كريه لأنه وسيلةٌ للدفاع يستعملها ضعافُ الطير لطرد المهاجمين. ولذلك يقال: كالطائر سِلاحه سُلاحه. حسان نظر إلى سياق النص وتَناصَّاتِه، أي مجموع الأخبار التي يحيل عليها، والنصوص التي يتصادى معها ويتجاوب. وفهم من ذلك أن الحطيئة يتهكم من وعود الزبرقان ورحيله طلبا للمكارم. هذا يسمى: “الاسترجاع الساخر”، كما في قوله تعالي: “ذق إن أنت العزيز الكريم”: عزيز كريم حسب ادعائك لا حسب الواقع، فلو كان عزيزا كريما حقا ما “ذاق العذاب”. نلاحظ إذن أن كلام الوزير الرباح في اتجاه حسناء أبو زيد مبني حَذْوَ النعل بالنعل على قول الحطيئة، لكل منهما مرجع يتناص معه، ويوجه معناه في اتجاه عنيف. فما كان حكمُ الخليفة العادل رضوان الله عليه؟ صدر حكم عمر في خطوتين: تحذيرية عقابية: هدد فيها بقطع لسان الشاعر. وأخرى تربوية وقائية: حذره من الإقذاع وإثارة الفتنة بين الناس بتفضيل هذا على ذاك مما تتأذى به النفس البدوية. وُضع الشاعرُ على النِّطْعِ، وهو جلد يُجلس فوقه من سُيقام عليه الحد. ارتعش، ولعله بلل ثيابه (هذه من عندي)، وأدرك خطورة ما صدر منه. وبعدها قطع عمر لسانَه مجازا بمساعدة مادية. ولعل الحطيئة لم يتعظ، فسجنه عمر في قعر بئر مظلمة، التجربة التي خلدها الشاعر بقوله: ماذ تقول لأفراخ بذي مرخ زُغْب الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ ألقيت كاسبَهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلامُ الله ياعمرُ أنت الأميرُ الذي من بعد صاحبه ألقت إليك مقاليد النهى البشر لم يؤثروك بها إذ قدموك لها لكن لأنفسهم كانت بك الأثر فالمنن على صبية بالرمل مسكنهم بين الأباطح تغشاهم بها الغير وقد مر بي أثناء تحقيق المسلك السهل اختلافٌ بين علماء مغاربة حول حكم من قال لمحاوِره: سبحان الله، أو اتق الله! هل يعزر أم لا…الخ. أتمنى أن يُهم الغرض من الإلحاح على إدانة هذا الخطاب العنيف، ونبذه، فَهْماً إيجابيا بناء. ومن اطلع على كتابي: دائرة الحوار ومزالق العنف، الذي واكب تجربة التناوب، وقضية إدماج المرأة في التنمية، سيفهم البُعد العلمي والأخلاقي لهذا المسعى. فالغرض من ذلك الكتاب، كما هو مُبيَّن في عنوانه، هو: المساهمة في تخليق الخطاب. فمن يؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان ملزم بسلوك طريق الحوار والتحلي بأخلاقه، والابتعاد عن الخطاب الذي يعمق الهوة بين المتحاورين. أما مَن لا يؤمن بذلك، ويعلن صراحة (كما يفعل الخوارج) أنه يضع حقوق الإنسان تحت قدميه، ويكفِّرُ كلَّ من يُخالفه الرأيَ، فيجب أن يواجه القضاء. وإذا فشل القضاء، لا قدر الله، في إعادة المكفرين ومروجي الخطاب التنميطي والمؤثِّمين والهجائين إلى رشدهم فستكون الكارثة. فالمغرب متنوع، ومفروض عليه أن يعيش تنوعه بأريحية وفرح وابتهاج داخل قواعد اللعبة “الوطنية” و”الكونية”. بيننا الوطن وحقوق الإنسان، نصونهما بالروح وبالدم. وبعدها “اللي بغا يدر گصا ولا گرن”، “إنك لا تهدي من أحببت”، فأحرى من لا تحبه. لا معنى لأن يقول رئيس فريق برلماني: “أنا أتعبد الله بمحاربة فلان”، ولا معنى لأن يدعِّم تكفيريا بحضور محاكمته، في الوقت الذي يغيب فيه المتهم عن المحاكمة. فمعنى أن يكون موقفُ أحد الخصمين السياسيين عبادةً هو أن خصمه كافر! هل هذا ما يقصده البرلماني؟ لا شك أنه سيقول: لا! ولكن ما الفائدة من الإنكار، لقد وصلت الرسالة إلى المعنيين بالأمر. أما بعد، فإن هذا الخطاب الذي يقسم الناس، والمواطنين، على أساس النظافة والوساخة، والعلم والجهالة، باعتبارهما صفتين للإسلامي وغير إسلامي (على التوالي)، لا يمكن أن يوصِّل، في المغرب الحديث، إلا إلى الفتنة، ولن يكون فيه خير للدين الإسلامي. وعلى من يدَّعون الوسطية، وأحيانا العقلانية والحداثية، أن يتجنوا الازدواجية والدس الرمزي، وأن يعلنوا عن مسافة مقنعة بينهم وبين الخوارج الذين لا يشغلهم شاغل عن التفكير في جلد ظهور الناس وبتر أطرافهم، كما قال واحد من جيرانهم. وكما قال الرئيس التونسي أخيرا، فإن السلفيين (وأنا أقول الخوارج) لا دواء لهم، ولا يرجى تلاؤمهم مع العصر، أي عصر، (لأن العصر الذي يلائمهم مضى وانقضى، من سوء حظهم)، وأمثالهم، في زيهم ومعتقدهم، موجودون في جميع الديانات، والعبث كل العبث أن يُفكَّر في استئصالهم أو محاورتهم. [هل كفاءة الحوار غريزة يُحرم منها بعض الناس؟ الله أعلم]. كل ما على الإنسانية إزاءهم أن يتركوا ليعيشوا على سجيتهم وطريقتهم، وأن تُكف أيديهم عن الناس بالطريقة التي تفيد معهم ويفهمونها جيدا: المحاصرة الفكرية، والمراقبة الأمنية الاستباقية. وتاريخهم شاهد عليهم، في شرق العالم العربي وغربه. حذارِ من الفتنة، فّ”إنَّ الحربَ أولُها كلام”