سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
روبرت سيلفرز: مكتبة رقمية عالمية تشكل خطوة كبيرة إلى الأمام لكنها تطرح مشاكل تجارية وفكرية ضخمة بمناسبة مرور خمسين عاما على إصدار أعرق مجلة أمريكية في النقد الأدبي
دأبت مجلة نيويورك للنقد (نيويورك ريفيو أوف بوكس) منذ سنة 1963 على إدراج النقد الأدبي في أعدادها، والانخراط في مناقشة الأفكار ومواضيع الساعة. في هذا الحوار مع رئيس تحرير المجلة، الذي يسهر على جودة ما تطبعه من مقالات منذ لحظة ظهورها منذ خمسين سنة مضت، وبصفته مؤسسا مساهما فيها، يتحدث روبرت سيلفرز عن البدايات الأولى لمجلته. ورغم أن سنه وصل 83 عاما مازال يسهر على تتبع حذافير الأمور باحترافية كبيرة، إلى حد الكمال، الأمر الذي اضطره إلى إفراغ إحدى الغرف بمنزله لأجل الاستمرار نهاية كل أسبوع في إعادة قراءة كل سطر على حدة في المجلة قبل إصدارها في العدد المقبل (وإبداء تذمره من النواقص التي شابت العدد الأخير الذي تم نشره). المجلة تحتفل هذه السنة بالذكرى الخمسين لنشر أول عدد منها. - عندما أطلقتم المجلة، شهر فبراير 1963، ما الذي كان يدور في ذهنكم؟ خلال سنة 1959، قامت الناقدة إليزابيث هاردويك بنشر مقال بمجلة «هاربرز»، حيث كنت أشتغل، يحمل عنوان «انحطاط نقد الكتب». في مقالها حاولت هاردويك تقديم شرح مفصل حول درجة هيمنة غياب النبرة النقدية والفتور من ناحية عمق المحتوى. حينها انزعج كثيرا من الأمر مالك المجلة، الذي كان يملك في الآن نفسه دار النشر «هاربر أند روو». لكنني كنت أتفق كليا مع الفكرة التي تفيد باضمحلال مستوى النقد الأدبي. وبعد مرور أربع سنوات على ذلك، وبفضل التعاون مع إليزابيث وجايسون وباربارا ستاين (توفيت سنة 2006)، التي ستتولى الإدارة رفقتي، أطلقنا مجلة «لاريفيو». كان طموحنا يكمن في إعادة رد الاعتبار للنقد ولجودة الكتابة، والجديد الذي حمله مشروعنا الأدبي كان يكمن في دعوة أهم الكتاب إلى الإدلاء بآرائهم بخصوص المؤلفات الأدبية. وقد قام أغلبهم بالرد على نحو إيجابي على طلبنا، وكان العدد الأول يضم مقالات حول مؤلفات الكتاب جايمس بالدوين، وأرثر شليسينغر، وجون جونيه، وسالينغر، وسيمون وايل، وغيرهم من مشاهير الأدباء، فضلا عن مقالات لمجموعة من النقاد أمثال نورمان ميلر، وماري ماكارثي، وغور فيدال، وويليام ستيرون، وسوزان سونطاغ... وقد استطعنا بكل سهولة وبسرعة بيع 100 ألف نسخة، وهو ما كان يدل على وجود طلب كبير. - أي طلب؟ ذلك الطلب النابع من جمهور القراء الذين نتقاسم معهم الشغف نفسه بالأفكار المكتوبة. لقد كان التحدي الذي وضعناه نصب أعيننا يتمثل في إقناع الكتاب الذين كنا نكن لهم الاحترام الأكبر بالمشاركة بمقالاتهم في مجلتنا. كما كان ينبغي علينا أن نكون مستقلين بشكل تام في قراراتنا واختياراتنا. وإلى حدود اليوم، وبمؤسساتنا المالية والقانونية، لا يستطيع أي أحد إرغامنا على نشر نص معين أو منعنا من الإقدام على نشر أحد النصوص. - ما الذي يجعل المرء رئيس تحرير جيدا؟ يتعين، أولا، امتلاك القدرة على الإعجاب بالأفكار الأصيلة والمتجددة والبحث عنها، بدون أي قيود أو أفكار مسبقة، ثم معرفة كيفية إيصال تلك الأفكار إلى جمهور القراء. وبعد ذلك تظهر الضرورة الملحة لامتلاك حس التفاعل الحدسي؛ أو القدرة على التمييز بسرعة بين جودة ما يكتب والجديد الذي يحمله النص، وغياب العمق. وفي المقام الأخير تأتي مرحلة الاشتغال على النصوص. فمهمة رئيس التحرير تتمثل في التدقيق في بنية النص المكتوب، فمثلا داخل مجلة «لاريفيو» لن تجدوا مصطلحات مثل «فيما يخص» أو «في سياق متصل» أو «في هذا الصدد» ... وإذا اعتمد أحد الكتاب على مثل هذه المصطلحات، أطلب منه أن يشرح بالتفصيل ما الذي يعنيه بكلمة «سياق»، وتوضيح ما إذا كان يتحدث عن حالة خاصة أو ظرف معين. كما أطلب من الكتاب توضيح أفكارهم على نحو دقيق، وهنا تبرز الأهمية البالغة والأساسية للوضوح اللغوي. ولذا لا أحبذ استعمال مصطلحات مثل «مسألة جوهرية»، أو «رهان أساسي»، لأن هذه التعبيرات المجازية تؤدي إلى الانزياح عن التدقيق في الأفكار. وعلى نفس المنوال أفضل أحيانا عدم الاستعانة بمصطلحات فضفاضة مثل «الديمقراطية» أو «الإرهاب» بدون تمييز. - خلال سنة 2008، وفي نص «مأزق رئيس تحرير»، كتبتم «منذ البداية كان توجهنا هو الوقوف في صف الأشخاص أو المجموعات التي تعاني من شطط الدول في استخدام السلطة». هل يمكن القول بأن هوية «لاريفيو» ليست بتقدمية ولا بمحافظة، لكنها تقف في صف الأشخاص الذين يعانون من ويلات الخروقات التي يقترفها الأقوياء؟ نعم، هذا الأمر صحيح. لكن ذلك لا يعني التجرد بشكل كلي من التوجه السياسي أو الثقافي. لقد كنا سباقين داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى نشر كتابات سيمون لايس حول الصين. كما أننا انتبهنا بسرعة إلى الضرورة العاجلة لإثارة قضية حقوق الإنسان داخل الدول المستبدة ونشرنا مقالات لآدم ميشنيك، وفاكفال هافيل، وأندري شارخوف. كما قمنا كذلك بنشر تقرير غير متاح للعموم للهلال الأحمر، وردت فيه بشكل صريح عبارة «التعذيب»، بينما كانت حكومة بوش تنكر إقدامها على ممارسة أي أعمال تعذيب. - على امتداد خمسين سنة، ما هو الأثر الذي خلفته «لاريفيو» في النقاش الفكري بالولاياتالمتحدةالأمريكية؟ أنا غير قادر على الرد على هذا السؤال؛ فالمقالات هي فعل صادر عما يؤمن به الأشخاص من قناعات، ولا يمكننا أبدا معرفة التأثير الذي يمكن أن تمارسه تلك المقالات على المدى البعيد. أقول هذا، علما بأن الرئيس جون كنيدي تعرض للاغتيال بعد مرور سنة واحدة فقط على صدور أول عدد من مجلتنا. كانت حرب الفيتنام قد بدأت للتو، وبعد فترة وجيزة نشرنا مقالا لنعوم تشومسكي حول «مسؤولية المفكرين» (23 فبراير 1967) في مواجهة حرب ليس لها أي تفسير أخلاقي أو سياسي. لم يمنعنا ذلك الأمر من نشر نصوص حول الموضوع لكتاب مختلفين كجورج كنان، وهانا أرندت، وهانس مورغينتو. كما لم يمنعنا ذلك من نشر كتابات القس أندري جيليناس حول الانتهاكات التي اقترفها سكان شمال الفيتنام بسايغون بعد تحقيقهم النصر. لقد تحدثت «لاريفيو» بشكل كبير عن الحقوق المدنية وحرب الفيتنام لأن هذه المواضيع طبعت جيلا من الكتاب الأمريكيين. وخلال الآن نفسه، نشرنا النقد الذي كتبه الفيلسوف الأمريكي جون سيرل بخصوص أفكار جاك ديريدا. - مجلة «لاريفيو» هي داخل المدينة وبالتالي في صميم الأحداث... نعم. لقد طلبنا على دوام من الضمائر الحية، التي تتمتع بحس نقدي، الانخراط في النقاشات البارزة التي تطبع مرحلة من المراحل. وما يجعلني أشعر بالفخر هو أنه من بين المعارضين لحرب الفيتنام كان الكثير منهم يرفضون إبداء الاهتمام بالانتهاكات الجسيمة التي كانت تقع ببلدان المعسكر الاشتراكي. لكن، بدون المداومة على توجيه النقد إلى المعسكر السوفياتي أو الثورة الثقافية بالصين، ما كان بإمكاننا الاستمرار في الوجود. وعلى نفس الشاكلة، ومنذ بداية سنوات التسعينيات، أصبحنا نهتم بشكل كبير بنتائج الإسلام السياسي على المستقبل. فهل ستتعامل المجتمعات الإسلامية بتسامح مع القيم الأساسية للبشرية جمعاء؟ وكما في حالة الاستبداد السوفياتي والصيني، ينبغي على المجلة إبداء الاهتمام بخصوص الشق المرتبط بما هو عسكري صرف في الرد الأمريكي على هذه الظاهرة. - لماذا لم تتموقع مجلة «لاريفيو» داخل البلدان غير الناطقة باللغة الانجليزية؟ تلقينا العديد من العروض المتعلقة بهذا الموضوع، لكن كان يتعين قبل أي شيء إيجاد شريك يدافع عن نفس النظرة بخصوص النقد والاستقلالية كما نقوم بذلك. وداخل الولاياتالمتحدةالأمريكية تشكل المنشورات الصحفية الجامعية إطارا للنشر مستقل بذاته ومتفرد بنفسه. إن دعم الحياة الثقافية داخل المؤسسات أو اللجان الجامعية أمر ضروري لتحقيق النجاح، بيد أننا لم نجد نفس تلك الشروط في أماكن أخرى في العالم. - هل يمكن القول بأن جودة النقد يتربص بها، اليوم، التهديد؟ إن الحس النقدي ليس مسألة متعلقة بتوجه معين أو مدرسة من مدارس التفكير، وليس من الصعب كثيرا كما كان الحال منذ خمسين سنة العثور على كتاب جيدين، فعمق المعرفة ودقة الإدراك الحسي سيعمران طويلا. - كتبتم مؤخر بأن ثورة الإنترنت تستفيد من «غياب شبه تام للنقد». لكن هناك العديد من الكتب الحديثة التي تطرقت إلى هذا الموضوع... هذا صحيح، لكن قليلا منها فقط تهتم بتأثير الإنترنت ووسائل الإعلام الحديثة على الفكر، والأحاسيس، والعلاقات الإنسانية، والمسؤولية السياسية. كثير من الشباب يرون بأن حياتهم أصبحت تحدد مسارها وسائط التواصل الاجتماعي. لكن، في الوقت الراهن، تقاوم جاذبية وسائل الاتصال الحديثة كل مقاربة نقدية خارجية من شأنها تطبيق قواعد التقييم لدراسة تأثير تلك الوسائل. إننا نعتبر بأننا نمتلك بشكل كلي تلك التقييمات، لكن الحال ليس كذلك. وفي الواقع، قمنا بنشر مقال لروبرت دارنتون (مدير مكتبة هارفارد) حول مستقبل الكتاب، لكن التقييمات التي أجريت حتى الوقت الراهن تستحق منا الكثير من الانتباه. من شأن مكتبة رقمية عالمية أن تشكل خطوة كبيرة إلى الأمام، لكن ذلك سيطرح مشاكل تجارية وفكرية ضخمة. لم يتطرق النقد الأدبي إلا نادرا لهذه المواضيع، وسنقوم في العدد المقبل بنشر مقال حول الثقافة الكلاسيكية يتناول معطى ثابتا منذ العصر الذهبي لروما، مرورا بعصر الأنوار: ذلك القلق من فقدان التقاليد، والطموح إلى صون تلك التقاليد. - هل تساوركم أية مخاوف بشأن مستقبل النص المكتوب؟ لا، أبدا. لكن من جانب آخر، أنا أشد بيدي على جودة ما يكتب. فمثلا، لكتابة تغريدة على «تويتر» لا ينبغي تجاوز 140 حرفا كحد أقصى. هذا الأمر يحد من الإمكانيات، لكن ذلك من شأنه كذلك إتاحة المجال لكتابة أقوال لم يكن يتوقعها أحد. «السؤال يكمن في معرفة كيفية التوصل للحفاظ على الوظائف، والمعرفة، والثقافة التي تساهم التكنولوجيا في إتاحة إمكانية نشرها»، هذا ما كتبتم عن الموضوع... نعم هذا الأمر جوهري، لأنه بداية مع أفلاطون وأرسطو وماركس وفرويد، مرورا بميكيافيلي وإراسموس، هناك استمرارية في الفكر التي لا يمكن أن يؤدي فقدانها إلا إلى أضرار جانبية. إن «الدعوة إلى السلم» لإراسموس لها مغزى أكبر اليوم أكثر من أي وقت مضى. - هل تمتلكون مدونة إلكترونية شخصية على الإنترنت؟ بالتأكيد لا. فرئيس تحرير لا يحق له أبدا البوح بما يعتمل داخل صدره.
مجلة نصف شهرية متطلبة ونافذة
«نيويورك ريفيو أوف بوكس» هي المجلة الأدبية الأكثر شهرة في العالم، تصدر مرتين في الشهر، وتحتفي هذه السنة بمرور خمسين سنة على تاريخ تأسيسها (أول عدد أصدرته المجلة كان بتاريخ 1 فبراير 1963). ينبغي أخذ عبارة «أدبية» بمعناها الضيق والواسع في الآن نفسه، فالمجلة يحظى فيها إلحاح الكتابة بأولوية جوهرية، وكل ما يكتب في المجلة لا يمكن أن يكون طابعه غريبا، وسواء تعلق الأمر بالعلاقات الدولية أو الرواية أو الفن أو العلوم الأعصاب، لا تحصر المجلة أفقها في مجال ضيق، وتستحضر دائما مبدأ نزول المثقف من برجه العاجي. فكرة المجلة منذ البداية كانت هي إحياء الرابط بين الكتابة والثقافة داخل محيطهما السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وبعدها العمل على تشجيع القيمة المتأصلة للنص النقدي. الشعراء، والكتاب، والمؤرخون، والعلماء... كبيرة هي لائحة المفكرين والمبدعين الذين نشروا نصوصهم على أعمدة المجلة، على امتداد خمسين سنة، وتكفي أسماؤهم لملء لائحة قل العثور على نظيرها من حيث الجودة. لا تقدم المجلة فحسب مقالات لكبار الكتاب في الفكر والأدب والثقافة والسياسة والقضايا الراهنة، بل تعتبر نقطة الانطلاق لمناقشة أهم الكتب التي تصدر ومراجعة المواقف، وخلق الحوار حول ما تطرحه الكتب من أفكار. لذا ليس من الغريب في شيء أن يعدها المثقفون المجلة الفكرية الأولى الناطقة باللغة الإنجليزية. ويتولى روبرت سيلفرز تحرير «نيويورك ريفيو أوف بوكس» منذ لحظة إنشائها حتى الوقت الحالي، وإليه يعود فضل التميز والتقدير الذي حظيت به المجلة في العالم كله، وكذلك إلى رفيقة دربه باربرا أبشتاين زوجة صديقه جايسون، التي شاركته مسؤولية تحرير المجلة قبل أن تفارق الحياة سنة 2006.