مرحلة استراتيجية جديدة في العلاقات المغربية-الصينية    محامون يدعون لمراجعة مشروع قانون المسطرة المدنية وحذف الغرامات        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    النقيب الجامعي يكتب: على الرباط أن تسارع نحو الاعتراف بنظام روما لحماية المغرب من الإرهاب الصهيوني    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران    كأس ديفيس لكرة المضرب.. هولندا تبلغ النهائي للمرة الأولى في تاريخها        الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    فولكر تورك: المغرب نموذج يحتذى به في مجال مكافحة التطرف    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    رئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم: "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    قلق متزايد بشأن مصير بوعلام صنصال    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    خبراء يكشفون دلالات زيارة الرئيس الصيني للمغرب ويؤكدون اقتراب بكين من الاعتراف بمغربية الصحراء    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط        الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين        المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أفكار ومواقف سطّرها الراحل إدريس بنعلي على صفحات «المساء»
تناولت سياسات الحكومة والدستور الجديد واختفاء المثقفين وأبرز مشاكل المجتمع المغربي
نشر في المساء يوم 07 - 02 - 2013

هذه بعض مقاطع قوية من فيض مقالات الخبير الاقتصادي الكبير الراحل إدريس بنعلي، التي خص بها «المساء» في السنتين الأخيرتين. والواقع أنه لا
يكاد مقال له يخلو من أفكار سديدة معبّر عنها بشكل سلس وذكيّ. فقد واكب الراحل، رصدا وتحليلا، التحولات التي عرفها المغرب على جميع المستويات، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، في العامين الأخيرين، وفي ما يلي وجهات نظره في بعض القضايا التي استأثرت بالاهتمام في الآونة الأخيرة.
عن المشهد السياسي المغربي
المؤكد، في جميع الأحوال، أن ثمة إرادة لمنع الحكومة من الاضطلاع بالسلطات المُخوَّلة لها بنصّ الدستور الجديد وتطبيق برنامجها، الذي كسبت بفضله ثقة المؤسسة التشريعية. ومن هذا المنطلق، حق لنا أن نطرح السؤال التالي: من يقف وراء من؟ ففي مشهد سياسي «مبلقن»، يتضمن أحزابا لا تستند إلى إيديولوجيات واضحة ولا تنتهج إستراتيجية دقيقة، وزعماء يغيّرون آراءهم ملثما يستبدلون معاطفهم، نزداد يقينا بأننا بلغنا مرحلة الغموض الشامل والفوضى العارمة..
صار مشهدنا السياسي شبيها ب»عوالم كافكا». وما يزيد الطين بلة هو تنامي القلق من وجود أشخاص أو قوى خفية تمسك بخيوط اللعبة وتتحكم فيها دون أن تخرج إلى العلن. ويتمثل الهدف المنشود في محو جميع مكتسبات حركة 20 فبراير وإعادة الأمور إلى نقطة الصفر مجددا. وإذا كان حزب العدالة والتنمية قد استفاد من تلك الأحداث لإقناع خصومه، بل وأعدائه أيضا، بضرورة الخضوع لتفادي خلخلة النسق برمته، فإنه بات اليوم مُحاصَرا من قِبل مختلف القوى التي ناصبته العداء قبل اعتلائه سدة الحكومة. يبدو أن التحضير جار على قدم وساق لتنفيذ إبادة ما.. لقد دخلت هذه الإستراتيجية حيّز التنفيذ منذ بداية ولاية الحكومة الحالية، وقد وصلت اليوم إلى مراحلها الحاسمة؛ فمن يقف وراءها؟
الشعبوية
تُخلَق الأحزاب، على غرار المعمول به سابقا، ويُفرَض الزّعماء وتوزّع الأدوار، ويُقَنَّع الواقع بقناع الحداثة، ويتم توظيف الأحزاب..
واللافت، أيضا، أن فئة من النخبة أخرجها وزير الداخلية الأسبق بنفسه إلى الوجود لا تزال تتصدر واجهة المشهد السياسيّ وتقترح نفسها للعب دور طلائعيّ. طبعا، هي ليست الوحيدة، بل برزت إلى جانبها فصيلة سياسية جديدة استغلت المناخ السياسيّ الحاليَّ لفرض أسمائها في واجهة الحياة السياسة المغربية. وقد أعطى انتخاب الأمين العام لحزب الاستقلال نموذجا حيا عن هذا الأمر، ويوشك أن يتكرر ذلك لدى حزب تاريخيّ آخر يستعد حاليا لعقد مؤتمره.
إجمالا، ليست الشعبوية، التي تفضي إلى الباب المسدود وتسلب أصحابها مصداقيتهم، ولا التطرف، الذي يواجَه برفض مجتمع يزداد وعيا بخطره، ما يؤخّر المغرب ويهدد مستقبله، بل هذا الابتذال الذي يجثم على حياتنا السياسية ويحكم علينا بالبقاء في عنق الزجاجة، في الوقت الذي ينهض الآخرون.. بتعبير آخر، سياسة البؤس أو بؤس السياسة أكثر ضررا علينا. فما العمل للقضاء عليهما؟
سياسة التنوعير
الواقع أننا انتقلنا من سياسة التقوليب المتبعة من قبل البصري إلى ديمقراطية «التّنُوعيرْ» حاليا. الفرق بين الاثنتين أن الأولى تقوم على ممارسات بدائية في تنفيذ عمليات التزوير والسللطوية، وهو ما يسميه عموم السكان «سْكت ولا نخلي دارْ بوكْ». أما الثانية فتبدو أكثرَ رقة ورحمة. وهي تطبيق عمليّ لقولة نُقلت عن سياسي شهير: «يجب اتباع الجماهير. يلزم منحها كل شيء لسلبها كل شيء».. هذا ما نطلق عليه اسم «ديمقراطية التّْنوعيرْ».
يجب الاعتراف بأنّ هذه «الديمقراطية» تحظى بدعم من قِبل نخب «التّْبنديقْ» المُبدية راحة تجاه ثقافة مخزنية تجعلها في عربة القيادة في قطاع مُعطَّل. كما أن سرعة انصهار هذه النخب في النسق القائم سيسهل مأمورية الحكم والسطلة. لم يعد هناك وجود لليسار ولا لليمين، ولا حتى للمحافظين والتقدميّين، والقول نفسه ينطبق على الليبيراليّين والاشتراكيين.. والنتيجة أننا نعيش في ظل ديمقراطية «التّنوعيرْ»، المدعومة من قبل نخبة «التّبنديقْ»، القائمة على أساس إيديوليوجيات «التّخربيقْ».. ولذلك، صارت الحياة السياسية بدون لون ولا طعم ولا رائحة.. فغياب أحزاب ذات مصداقية تتمتع باستقلالية حقيقية تجاه السلطة سيؤدي إلى نزع المصداقية عن مفهوم العمل المُشترَك، وقد يُمسي المجتمع المغربي بدون مواطنين..
المغرب.. مجتمع حمائم في خدمة
أقلية من الكواسر المفترسة
يشبه المغرب، إلى حد ما، قفصا كبيرا أغلبية سكانه حمائم لا يُكتفى بنتف ريشها، بل يتم شلّ حركتها بالكامل. أكثر من ذلك، لا يُترَك منها شيء عدا العظام حتى إنها تتحوّل، في النهاية، في أعين البعض إلى جمادات لا فائدة ترجى منها.. والمثير أنه عندما تكفّ هذه الطيور عن الزقزقة وترُدّ، بدورها، بتوجيه ضربات قوية للمهاجمين عليها يطلب المُعتدُون النجدة ويطلقون سيقانهم للرّيح.. بتعبير أكثر تبسيطا، يجسّد الحمام في هذا التشبيه عمومَ الجماهير، وهي في معظمها فقيرة ومعوزة، يُنتف ريشُها دون أن تقوم بأي رد فعل..
الحقيقة أن جزءا كبيرا من أصحاب الرساميل في المغرب يكسون نواياهم طابعا وطنيا واستثماريا، والواقع أن هذه الصفات مجرد قناع لإخفاء طبيعتهم الحقيقية. وتبرز هذه الطبيعة بجلاء في فترات الأزمة وتظهر، أيضا، عندما ترصَد اضطرابات طفيفة في الاقتصاد. وهنا، يتوجب أن نشير إلى أنّ هذه النوعية من الرأسماليين لم تبد مطلقا شجاعة لمواجهة الأزمات ولا ولاء قويا لوطنها.. وحدَها مصالحها الخاصة تتحكم في توجه أنشطتها وسلوكاتها، إذ لا مصلحة ترجى من الوطن، من وجهة نظر هذه النوعية من الأفراد، إلا حين تسمح لهم البلاد ب»نتف ريش» الحمائم دونما خوفٍ من التعرض لضربات مبرحة من مناقيرها.. ويقال إن هذه الطاعة الطاغية على السكان والسلوك العدوانيّ الافتراسي المميز لتلك الطبقة الاجتماعية سببان مباشران لإثارة الضغينة بين هاتين الفئتين. وتؤدي هذه الوضعية إلى تنامي الكراهية، التي يمكن أن تؤدي -بدورها- إلى التطرف والعنف.
إن البورجوازية الحقيقية لا تهرب أبدا ولا تطلق سيقانها للرّيح عندما تهبّ أولى الرياح المنذرة بالعواصف.. ففي أوربا، خاصة، والغرب عموما، فرضت هذه الفئة من المجتمع نفسَها بفضل ما تتمتع به من روح المبادرة والتنافسية، إضافة إلى توفر المؤسسات الديمقراطية.. وا أسفاه، لا يتوفر المغرب، إلى حدود الساعة، على هذه الطبقة الاجتماعية. ولهذه السبب لا يزال متخلفا ومُصنَّفاً في خانة دول العالم الثالث.
أين اختفى مثقفونا؟
يواجه مثقفو المغرب ثلاثة عراقيل أساسية: أولا: السلطة، التي ترى فيهم أشخاصا خربتهم أفكارهم، وهو ما يعني أن التزامهم بقضايا معينة قد يُعرّض النسق برمته للخطر؛ ثانيا: التقنوقراطيون، الذين يعتقدون أنهم الوحيدون القادرون على التفكير ويرفضون أيَّ نقاش على مستوى الأفكار؛ ثانيا: الشعبويون، الذين يرفضون الاحتكام إلى العقل ويعملون على التحكم في السكان عبر إعمال العواطف..
ويبدو أن المجتمع المغربيَّ لم يتقبل بعدُ المثقف باعتباره كيانا مستقلا بذاته يتمتع بإطار معترَف به ومقدَّس من قِبل الجميع. كما أن الحكام، وأحزاب المعارضة في بعض الأحيان، لا يعترفون باستقلالية المثقف..
والمثير أن المثقف لا يتقبل من المثقف نفسِه، بمعنى أنه لا يعتبر مفكرا مستقلا مستعدا للتصدي لعيوب المجتمع وفضح الظلم وإدانة اللاعقلانية والانحرافات.. ويُبذل كذلك جهد كبير من أجل إسكات المثقف، سواء بالحلول مكانه أو العمل على دفعه نحو اتخاذ سلوك محايد تجاه القضايا موضوع النقاش داخل المجتمع.. وقد صار هذا السلوك شائعا من قِبل السلطة، وينبني -في مرحلة أولى- على استمالة المثقفين قبل الانتقال إلى قمعهم في مرحلة لاحقة.. وقد حققت هذه الإستراتيجية نجاحات في العديد من الحالات، ذلك أن بعض المثقفين أبدَوا حساسية مفرطة تجاه السلطة، كما أنّ عددا كبيرا من منهم لم يصمدوا أمام «صفارات الإنذار». ولذلك، نجدهم اليوم مرتاحين في أركان السلطة بعد أن فضحوا، لمدة طويلة، مساوئها وتجاوزاتها وأضرارها...
أصبح المثقف يتيما في المدينة.. لا يجد خطابُه طريقَه إلى المجتمع وتُبخس قيمة أعماله. صحيحٌ أن «الرّبيع العربيّ» منح الفرصة للقطع مع تهميشه والمبادرة إلى إسماع صوته، غير أنه يواجه صعوبات في استرداد الدَّور الذي لعبه في العقود الأولى من الاستقلال، لأنّ الميدان محتلّ في الوقت الراهن من قِبل شعوبيين وظلاميين، كما أن التيار المحافظ واللاعقلاني يهيمن على جزء كبير من السكان. ومن هذا المنطلق، لم يعد المثقفون قادرين على إثارة الانتباه إليهم، بل إنّ جزءا كبيرا منهم صاروا يتيهون وسط الجماهير ويقضى عليهم النسيان. ما عاد المثقفون في الواجهة، بعد أن نحاهم الإسلاميون والشعبويون.
الزعماء الجديد
يعتمد نشاط هذه النوعية من الساسة «التاريخيين» على المكر والدهاء والديماغوجيا، مُتوهّمين أنهم ارتقوا إلى مستوى يستحيل معه تصوّرُ المشهد السياسي المغربي من دونهم. غير أنهم لا يفطنون إلى الفراغات التي تطبع خطابهم وتتبدى بوضوح في أنشطته السياسي المفتقرة إلى الانسجام. ويكفي تتبع السياسية المتّبعة من قِبل الحكومة الحالية للوقوف على حقيقة تلك الأنشطة، التي تعتبر تراجعا في الحياة السياسية المغربية. وقد تقوى حضور هذا النوع من الأنشطة بسبب تفريط الأحزاب السياسية العتيقة في استقلاليتها وتفريخ الأحزاب على شاكلة «الأكلات السريعة»، إضافة إلى الاختفاء شبهِ النهائيّ لمعارضة حقيقية، مستقلة وذات مصداقية. وعلى هذا الأساس، انتهينا إلى ديمقراطية سطحية تُخرج كائنات لا ضمير لها ولا همّ لها عدا تحقيق مآربها الشخصية.
إنها سخرية السياسية، التي تقدّم الديمقراطية وتشجّع الأمل في مستقبل زاهر، لكنها تترجم كل هذا على أرض الواقع بتفاهات مُحبِطة لآمال الحالمين بمغرب حديث ومزدهر. السياسة التي تخلق الفراغ وتتولى بنفسها ملأه بطبقة سياسية مُدجَّنة لا تنشغل بترك بصمتها في تاريخ البلاد. ولعلّ هذا ما حوّل بعض الأحزاب التي كانت في وقت مضى منارات شامخة بأفكارها وزعمائها واستقلاليتها عن السلطة تتحول اليوم إلى مجرد ظل لنفسها. لقد فرّطت في استقلاليتها وغلب الخضوع على سلوكها وطغت التوافقات على أعمالها. وبذلك، زالت مشاعر الفخر والاعتزاز بتضحيات الزعماء المؤسسين لهذه التيارات الحزبية ونضالها، تاركة مكانها للانتهازية والعبودية، وهو ما أفقدها تقدير واحترام الشعب. فكما قال الفيلسوف الألماني الشهير كانت: «من يقبل التحوّل إلى إناء من فخار فلا يشْتَكِيَنَّ حين يداس بالأقدام».
نقد العمل الحكومي
كيف يمكنهم تفسير التخلي عن محاربة الفساد بعد أن وعدوا في حملتهم الانتخابية باقتلاع هذا الداء من جذوره؟ وكيف يدَّعون أنهم يدافعون عن الفقراء والطبقات الكادحة بعد أن أقرّوا زيادة في أثمنة المواد الاستهلاكية؟ وكيف يمكنهم القول إنهم سيُفعّلون التغيير وسيُنزلون مقتضيات الدستور الجديد حين يُجرَّدون من مسؤولياتهم ليُعهَد بها للآخرين؟ وما تفسير التراجعات المستمرّة أمام لوبيات الفساد؟ وبماذا تبرّرون الهواية السياسية التي أبنتم عنها؟ كيف لهم أن يحافظوا على مصداقيتهم بعد مراكمتهم التصريحات المتناقضة والخرجات الفلكلورية؟..
يجب الاعتراف بأنّ الأسلوب الذي تعتمده الحكومة الحالية، إلى غاية هذه الساعة، لا يتلاءم، البتّة، مع انتظارات المغاربة ولا يستجيب لمتطلبات الظرفية التاريخية الراهنة.
لم يمسّ «الربيع العربيّ» المغرب، في واقع الأمر، إلا بشكل جزئيّ، وذلك راجع إلى عدم تمتع النخبة التي تشغل المشهد السياسي المغربيّ بالنضج السياسي الكافي والرؤية الواضحة والشجاعة الضرورية لبناء مغرب حديث.
باختصار، إذا كانت النخب الحاكمة في كل من مصر وتونس تصنع الحدث، فإن النخبَ عندنا تفضل خلق المشاكل.. ونتيجة لهذا الأمر تبرز إحباطات جديدة ويتراكم الاستياء وتزداد خيبات الأمل.. مؤسف، حقيقة، رؤية جذوة الأمل تتّقد وتزداد توهجا عند الآخرين، بينما تخبو عندنا يوما بعد آخر..
حاجة الأمم إلى الحلم لتنجح
الواقع أن الجديد يظل عنصرا غريبا عن ثقافة من يدّعي أنه يقود قاطرة هذه البلاد. ذلك أن الجديد بدعة، لأنه يلعن الماضي ويرسم عالما مختلفا تمام الاختلاف عن الماثل أمام أعينهم. بتعبير آخر، طريق الخلاص، وٍفْقهم، يكمن في الجمود، ومصلحة المغاربة تكمن إظهار حماسٍ للتغيير، مع التشبت بالوضع القائم، كما لو أن البحث عن الأفضل الذي يكتسي طابعا كونيا ليس مغربيا!..
ومع ذلك، تحتاج مجتمعات مثل مجتمعنا إلى التطلع إلى مستقبل بديل وأحسن من الحاضر. مستقبل يبدو، تاريخيا، في المتناوَل، لكنّ بلوغه ليس مؤكدا. فالمستقبل يرسم عقول الناس قبل أن يتحول إلى واقع. ولهذا السبب يتوجب على نخبنا أن تفهم أن هناك ثمة ثلاث مراحل في حياة الأمم، تماما مثل حياة الإنسان: «ماض لا يعود أبدا، وحاضر لا يستديم ومستقبل مجهول، لكنْ يمكن استشرافه»..
لا بد من توفر القدرة على الحلم من أجل استشراف المستقبل. وكثيرا ما مكّن الرجال الحالمون أممهم من الانخراط في الدينامية التاريخية، رجال أمثال مارتين لوثر كينغ، الذي تجرّأ على التعبير عن حلمه في وقت كانت العنصرية تضرب بأطنابها في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أصبح هذا الحلم حقيقة بانتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة.. كما أن نيلسون مانديلا تحدّى «النظام العنصريّ» في جنوب إفريقيا حين كان نظام «الأبارتايد» في أوج قوته، وقاد شبعه إلى تحقيق النصر.
إجمالا، لكي تنتصر الأفكار الجديدة هنا يجب أن يصبح التغيير المطلب الأساسيّ ويحال جزء كبير من الموجودين في الساحة اليوم على التقاعد. يجب أن يتخلص المجتمع، أيضا، من صفات الانسياق والعطالة ويلج إلى الحرية. وحدها الحرية يمكنها أن تنزع الأغلال التي تكبّل مجتمعنا وتجعله مُقيَّدا إلى منحدَر سرعان ما يهوي فيه.. وحدها الحرية تدفع الرجال إلى الحلم والتطلع إلى الأعالي. بتعبير آخر، كل من يتجنب ركوب موج المخاطرة في سبيل التغيير سيقضي حياته في الجمود والفقر. ألم يقل الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:
ومن يتهيّب صعودَ الجبال
يعش أبد الدّهر بين الحُفَر.
باختصار، ترفض نخبنا التغيير لأنها تريد أن تصل إلى قمّة الجبل دون أن تبذل جهدا لتسلقه.. وتنسى أن السعادة تكمن في فعل التسلق، تماما مثلما قال الأديب العالمي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز: «تعلمت الكثير منكم أيها الرجال، علمت أنّ الجميع يريدون العيش في قمة الجبل دون أن يعلموا أن السعادة الحقيقية تكمن في طريقة تسلقه».. فهل سيحظى المغاربة بفرصة لتسلق الجبل؟!..
وصايا ثمينة «لائحة المقالع»
يجب ألا تتوقف مبادرة عزيز رباح، وزير التجهيز والنقل، التي ينبغي التنويه بها، عند خطوة الكشف عن لائحة المستفيدين من «الكريمات». بكل تأكيد، ستنبري بعض جماعات الضغط، المكونة من الانتهازيين، لثنيه عن السير قدُما في هذا الاتجاه، لكنْ يجب ألا يغفل عن التزام حزب العدالة والتنمية أمام الناخبين بمحاربة الفساد، وهو ما يُحتّم على هذا الحزب العمل على الوفاء بالتزاماته. وإذا كان قادة العدالة والتنمية يقولون إنهم رجال مبادئ ويؤكدون عزمهم على الوفاء بتعهداتهم، فإن الفرصة مواتية أمامهم لتأكيد هذه الأقوال.
يجب ألا تعيروا انتباها لصفارات الإنذار أو يتملككم خوف من إغضاب الأقوياء.. أثبتوا للمغاربة أنه ما يزال في المغرب رجال قادرون على الوفاء بالتزاماتهم والإخلاص لمبادئهم والتفاني في إنجاز مشاريعهم..
قدموا خدمة لهذه البلاد وأنعشوا السياسة وأثبتوا أنه لم يعد في السياسة مكان للانتهازية والوصولية وانعوا زمن السياسيين الفاسدين.
لا تتركوا هذا الشعب حبيسَ اللامبالاة لكي لا يرميَّكم في مزبلة التاريخ، كما فعل بآخرين قبلكم.
لا تضيّعوا وقتكم ولا تهدروا طاقتكم في معارك من الدرجة الثانية، من قبيل منع الخمور والنقاشات الدائرة حول المهرجانات..
ركزوا على الأمور الأكثرَ أهمية. على كل شيء سيمكّن هذا الشعب من العيش بصفاء وكرامة، وفق ما تمليه عليه معتقداته وقناعاته. وتذكروا، أخيرا، القولة الشهيرة لعمر بن الخطاب: «لو كان الفقر رجلا لقتلته»..
في تعيين بنكيران رئيسا للحكومة
كان هذا الحزب سباقا إلى انتقاد واستنكار ضعف وسلبية الحكومة المنتهية ولايتها في هذا المجال.. أمور ستجعل الرأي العامّ يولي اهتماما كبيرا لكل ما سيقوم به هذا الحزب أثناء قيادته الحكومة، لاسيما أن قيادة هذا الحزب الجهاز التنفيذيّ تندرج ضمن سياق داخلي تطبعه نضالات حركة 20 فبراير وسياق آخر خارجيّ يبقى «الربيع العربي» ميزتَه الأساسية. وما كان لهذا الحزب أن يقود الحكومة لولا حركة 20 فبراير..
ثمة، أيضا، جديد لا ينبغي إغفاله، إنه الدستور الجديد، إذ تنص هذه الوثيقة على رئيسِ حكومةٍ ذي صلاحيات كبيرة تجعله قادرا على فرض أسلوبه في العمل وترك بصمته الخاصة على المؤسسات. لقد ولى عهد الوزراء الأولين، الذين يقبلون بأداء دور مجرّد منفذين لا يحقّ لهم الخوض في القرارات الإستراتيجية، فبالأحرى اتخاذها، وحان زمن ثقافة جديد تقوم على روح المبادرة والعمل الجاد والمضني ونكران الذات.. يتعلق الأمر بالحرص على عدم الانصهار في «الطنجرة» المخزنية، حتى لا يخسر الحزب النفَسَ الناظم لعمله ويخذل الثقة التي وضعها فيه الناخبون. ومن المهمّ استحضار ما يلي:
-لا تخلطوا بين الاحتارام والخنوع. الأول ميزة للأحرار الذين يعلمون كيف يمنحون لكل شخص قدْره ولا يبخسونه قيمته. أما الثاني فيرتبط بالقوة ويؤول إلى العبودية. لا يلقي بالا للكرامة ويترجم بعلاقة طرفاها سيد ورعايا، ووجود هؤلاء الرعايا، وفق هذا المنطق المختلف، مرتهن بوجود الأسياد؛
-لا تنسوا أنكم هنا لكي تحكموا وليس للخضوع للتعليمات وتفعيل التوجيهات؛
-لا تنصاعوا وراء معارك من الدرجة الثانية وتنسوا الهدف الأساسيّ الذي انتُخبتم من أجل تحقيقه: خدمة الشعب الذي مكّنتم من بلوغ المراتب التي وصلتهم إليها اليوم؛
-لا تكونوا «إطفائيين» تتصدّون للقضايا الإشكالية وتتركون المنجزات تسجَّل في حساب المخزن؛
-لا تنسوا أنّ الشعب سيحاسبكم عن جميع أفعالكم واختياراتكم؛
-لا تلقوا بالا لصفارات الإنذار التي ستتعالى، لا محالة، إنْ تفعلوا ذلك تخذلوا الناخبين، ثم لا تكونوا في مستوى انتظاراتهم..
إجمالا، يواجه حزب العدالة والتنمية، بعد وصوله إلى السلطة، تحديا آخر يتمثل في إثبات مقدرته على حسن توظيف هذه السلطة واستغلالها أحسنَ استغلال. يجب ألا يقع في فخ إعادة إنتاج تجربة التناوب التوافقيّ، التي فشلت في فرض نفسها وفي تقديم بدائلَ حقيقيةٍ لنسق سياسيّ تهدّده «السكتة القلبية»، على حد قول الملك الراحل الحسن الثاني، وفضّل، بدل ذلك، أن تذوب في «الطنجرة» المخزنية لتفقد، دفعة واحدة، مسوّغات وجودها والسند الشعبيَّ.
يعترف بعض قادة تلك التجربة، اليوم، بأنهم أخلفوا موعدا حاسما مع التاريخ.. النزهاء منهم يُقرّون تباعا بأخطائهم ويقدّمون نقدا ذاتيا لتجربة مشاركتهم في تلك التجربة الحكومية. لكنهم ينسون أن وقت الاعتراف قد فات. وكما قال الجنرال ماك أرتور: «لا تُعرَف أسباب الخسارة في الحرب إلا بعد فوات الأوان». ولهذا السبب، ينبغي ألا
يهدر قياديو حزب العدالة والتنمية ومناضلوه هذه الفرصة التاريخية. كونوا في الموعد. يريد المغاربة أن يختبروا قدرتكم على إيجاد حلول ناجعة لمشاكلهم، لتبعثوا الأمل في قلوبهم من جديد، والباقي دعوه للتاريخ.. ونادرا ما يكون التاريخ رحيما بالفاشلين!..

الدستور الجديد..يوم جديد يشرق أم أمل يخبو؟

صودق على الدستور بأزيدَ من 98 في المائة.. هذا الرقم هو المعطى الأول الذي أثار الملاحظين الأجانب، منه تُشتمّ رائحة التخلف.. ينتابنا إحساس بأنّ المغاربة يفضلون شراء أمنهم وطمأنينتهم بثمن العبودية.. يبدو المجتمع كله أقلَّ إلحاحا من حيث المواطنة، لقد فقد طعمها وفكرتها وما عاد يحسن استعمالها. وعلى هذا الأساس، باتت أماني الساكنة تنحصر في الإصلاحات بدل المطالبة بالحقوق.. إجمالا، تُؤْثِر هذه الساكنة الطاعة على المقاومة، وهو ما يعني بالنسبة إلى بعض الملاحظين: شعبا غيرّ مهيأ لأنْ يتحرك من تلقاء ذاته، وفي هذه الحال، يتكفل آخرون بهذا نيابة عنه..
ولا يمكن، في هذه الحال، ألا نطرح الأسئلة التالية: لماذا تتطلب المواطنة الإيجابية وقتا لتنبثق وتتفعّل في المغرب؟ لماذا يستمر المغربي في التصرف ككائن خاضع وتابع في عالم يستلزم -أكثرَ من أي وقت مضى- تأكيد الذات والاستقلالية عن السلطة والمشاركة الحرّة والمسؤولة للمواطن في تدبير الدولة؟ من ينبغي تجريمه وإدانته؟.. وماذا يمكن أن ننتظر؟ ماذا سيتغير في حياتنا السياسية أو في حياتنا اليومية؟ كيف ستكون العلاقات بين الحكام والمحكومين؟ كيف سيكون سلوك النخب السياسية؟ والشباب، الذين بعثوا الحركة من جديد، كيف سيكون إحساسهم وشعورهم في قادمِ الأيام: خيبة الأمل، الثورة أم المقاطعة؟.. باختصار، هل يسير المغرب حقيقة على درب الديمقراطية والحداثة؟
لا توجد أجوبة بديهية لهذه الأسئلة الملحّة.. إذا كان المسار يبدو، بالنسبة إلى البعض، معلوما، والأفق واضحا والمستقبل منيرا، فإن آخرين يرون أننا فتحنا أبواب المستقبل بالتراجع إلى الوراء، وهذا النوع من الحركات كانت له انعكاسات سوداء على مسارنا التاريخيّ، ويوشك أن يقودَنا إلى ضفاف غير معروفة لا نجدة ولا إغاثة فيها..
في كل الأحوال، ثمة شيء مؤكد، وهو أنه لا يمكن للمغرب، بعد هذا الإصلاح والأحداث التي سبقته وأفضت إلى ولادته، أن يعود إلى ممارسات الماضي ولا أن يستعين بالرجال والوجوه التي ترمز إليه. الثقافة السياسية الحالية، التي ينشّطها أعيان جشعون، سياسيون غامضون، مخزنيون تقليديون، تقنقراط عدائيّون، انتهازيّون بدون وازع يردعهم، وقادة يخرجون من الظل لجمع الغلة.. يجب أن تفرغ المكان لثقافة أخرى..
يجب، إذن، إيجاد أجوبة واضحة للأسئلة التالية:
- ما العمل لكي يتخلص المغرب من الرواسب التقليدية (المخزنيّة) التي تثقل كاهله وتحُول بينه وبين الحداثة؟
-ما العمل لتمكين المغاربة من الولوج إلى المواطنة الحقة والإيجابية والقطع مع وضع الرعية المتحكم فيها؟
-ما العمل من أجل القطع مع نظام نيوتقليدانيّ قائم على الامتيازات والريع؟
-ما العمل لتمكين البلاد من عدالة أكثرَ إنصافا وفعالية؟
-ما العمل لإضفاء الفعالية والمصداقية على المؤسسات الجديدة؟
ما العمل من أجل إعادة تأهيل العمل السياسي وتمكين نخبة مستقلة، دينامية وملتزمة، من الانخراط مجددا في العمل السياسي ولعب دور القاطرة بالنسبة إلى المجتمع؟!..
دقت ساعة الحقيقة، إذن. شبابنا يعلمون ويعون، أكثرَ من أي وقت مضى، أن معالم مستقبلهم تتحدد بقرار يتم اتخاذه الآن. ولذلك يضغطون ليتقرروا مصيرهم اليوم قبل الغد ويدفعون في اتجاه مغرب ديمقراطيّ، حديث ومحترم لشخصية الإنسان.
وفي هذا السياق، يتمثل واجب الحكام، والطبقة السياسية بشكل عامّ، في استغلال هذه الفرصة للتخفيف من تبعات نظام وصل إلى الباب المسدود..
في واقع الأمر، ينتظر الشباب المغاربة تغييرات هامة لوضع حد للشك وعدم اليقين، اللذين يُهيمنان على عدد كبير منهم.
يتملكهم، حقيقة، إحساس بأنّ حياتهم ستفقد معناها إذا اضمحلّ إيمانهم بغد أكثرَ إشراقا وأكثر حرية!..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.