حلت يوم 11 يناير الجاري الذكرى التاسعة والستين لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، تلك الوثيقة التي تعتبر نقطة تحول بارزة في تاريخ كفاح الشعب المغربي ونضاله المستميت من أجل نقل المغرب من دولة محمية إلى دولة ذات سيادة، تتمتع باستقلالها وحريتها، كما عبر عن ذلك المؤرخ المغربي عبد الحق المريني. رغم مرور عقود طويلة من التاريخ المغربي الحديث بأزمنته الثلاثة كما حددها فرناند بروديل، الجغرافي منها والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، مازال مغرب ما قبل الاستقلال ومغرب ما بعد الاستقلال يحظى بأهمية خاصة من لدن الباحثين والطلبة والعديد من الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين. كما أن سؤال «الماضي والمستقبل وأيهما يحكم الآخر؟» من الأسئلة التي لازالت تحاصرنا، وكان يعتبرها المرحوم عابد الجابري إشكالية فلسفية عميقة الأغوار حاول معالجتها في إطارها الفلسفي وفي سياق التطور التاريخي، داعيا إلى تجاوز التفكير في المستقبل بطريقة فردية، لأن المستقبل هو للجماعة وليس للفرد، وأن التفكير للمستقبل ارتبط منذ قرون بفكرة التقدم بوصفها تعبر عن تاريخ البشرية... إنها محطة تاريخية من تاريخ المغرب الحديث، تلك التي جسدت على أرض الواقع طموحات جيل الحركة الوطنية الذي توج نضال المطالبة بالاستقلال ب«وثيقة المطالبة بالاستقلال» التي رفعها يوم 11 يناير إلى السلطان سيدي محمد بن يوسف وإلى الإقامة العامة الفرنسية وممثلي دول الحلفاء بطنجة. وكما لا يخفى على أحد، حررت الوثيقة في بيت الحاج محمد مكوار، وهندس إنشاءها محمد اليزيدي وأحمد بلافريج، ووقعتها ست وستون شخصية وطنية. الوثيقة ركزت على استقلال المغرب والوحدة الترابية للمملكة، وإرساء ملكية دستورية وديمقراطية، وتطبيق سياسة إصلاحية حقيقية في كافة الميادين تضمن الحريات الفردية والجماعية، والمساهمة في الحياة الدولية عبر توقيع اتفاقيات مع الدول تضمن السيادة المغربية، سياسيا واقتصاديا. إن هذا الحراك الذي عاشه الشعب المغربي في هذه الفترة لم يكن سوى تتويج لمسارات كفاحية تحررية، متنوعة ومتجددة، أشعلتها أضواء مقاومة الريف والأطلس والجنوب، ومناهضة الظهير البربري الصادر عام 1930، ونضال رجال الحركة الوطنية بشمال المغرب والذين قدموا بدورهم «وثيقة المطالب المغربية» في يونيو 1931، و»وثيقة المطالبة بالاستقلال والوحدة» التي قدمتها «الجبهة القومية للحركة الوطنية» يوم 14 فبراير 1943 إلى السلطات الإسبانية، و«عريضة المطالبة بالاستقلال» وقدمها أعضاء «الحركة القومية» (المؤسسة سنة 1937 على يد محمد بلحسن الوزاني) إلى السلطان والمقيم العام الفرنسي وإلى قنصلي إنجلترا وأمريكا، دون أن ننسى اللبنات الأولى لكتلة العمل الوطني سنة 1934، وما قام به من دور قدماء التلاميذ والطلبة والمثقفين والكتاب والإعلاميين، سواء الذين كانوا قد تأثروا بدعوة التجديد والإصلاح بعد ظهورها في المشرق على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده أو الذين أصدروا مجلة «المغرب» سنة 1932 وجرائد أخرى مثل «عمل الشعب» و«الدفاع» و«إرادة الشعب»... إلخ. إن التاريخ السياسي، يقول عبد الله ساعف، «كتاب مفتوح على قراءات لا تنتهي، وبتعدد زوايا القراءة والتفاعل تتعدد العبر والدروس»؛ فهذه الفترة، بما أنتجته من ممارسة مقاوماتية وسياسية وفكرية وثقافية ونضالية، لازالت تحتاج إلى تأطير زمني وفكري للمرحلة الكولونيالية بصداماتها وإصلاحاتها واحتكاك نظام وبنيات تقليدية بحضارة غربية متميزة بأدواتها وبنظرتها إلى المجتمعات الغيرية. هذه الفترة من عمر مغربنا لا زالت تطالبنا بتحريرها من الرومانسية الممجدة للماضي، ولا زالت تحفزنا على استخلاص بعض المبادئ من التاريخ الديالكتيكي، وضمنيا: طرح مسألة العلاقة بين الاستعمار وشروط التحرر والانعتاق من أجل حياة أفضل، اجتماعية متحررة وإنسانية. لقد شكل ميلاد «كتلة العمل الوطني» سنة 1934 إقلاعا للثقة في المستقبل وفي الأجيال القادمة، رغم عدم التجانس في قيادة الحركة الذي يسجل منذ اللحظة الأولى. لكن ما قدمته إلى القصر وإلى حكومة الدولة الكولونيالية وإلى الإقامة العامة في شكل وثيقة تحت عنوان «مطالب الشعب المغربي» يوم فاتح دجنبر 1934، وما تلا ذلك من دينامية في جسم قيادة الكتلة التي قدمت إلى السلطان سيدي محمد بن يوسف وإلى المقيم العام الفرنسي «المطالب المستعجلة» وتحرير «الميثاق الوطني» عام 1937، ومن ربط النضال الوطني بالنضال القومي من خلال حركة شكيب أرسلان التي تبنت حق المغاربة في استقلالهم ودافعت عن زعماء الكتلة مما تعرضوا إليه من قمع وبطش، يعد أساس ولادة «الوطنية» التي يعتبرها جاك بيرك جزءا مما أفرزه القدوم الغربي إلى المغرب. مطالب الماضي ما زالت ماثلة في حاضر المغرب لقد ناضلت الكتلة الرئيسية في تنظيم «كتلة العمل الوطني» بمختلف فئاتها وفي مرحلة مبكرة من أجل الوحدة الترابية للوطن. ومنذ ذلك التاريخ، لا زال المغرب لم يحقق هذا الحلم ولا زالت أراضيه مستعمرة إلى أجل غير مسمى. كما ناضلت وطالبت ذات الكتلة بإصلاح إداري، وهو المطلب الذي ظل ولازال على رأس أجندة كل الحكومات التي تعاقبت على السلطة، حيث تستمر الإدارة في فسادها وفي خدمة أصحاب النفوذ والجاه. كما فرض تطور الأحداث واستقطابات جديدة المطالبة بالإصلاح القضائي، الذي ظل هو الآخر شعارا للاستهلاك والمزايدة، حيث خابت آمال المغاربة في الدولة ومؤسساتها وغابت الثقة في القضاء نتيجة عدم المساواة في الحقوق والواجبات. ورغم دور التعليم في تقوية كل الأطراف المالكة لشرعية مغرب ما بعد الاستقلال، استمر مطلب الإصلاح التعليمي مطلبا موقوف التنفيذ، مما نتج عنه ومنذ أزيد من ثلاثة عقود جيش من الأميين وطوابير المطالبين بالإدماج وتحقيق فرص الشغل. ومن ناحية أخرى، وعلى الرغم من إتاحة فرص عديدة للعديد من الأطر العليا والمتخصصة في التدبير والاقتصاد والمالية، ورغم ما تتطلبه المرحلة من إعادة النظر في نظام خلق وتوزيع الثروة، لا زال مطلب الإصلاح المالي والضريبي والتجاري على رأس قائمة المطالب منذ ثلاثينيات القرن الماضي، بل لازال يعكس ظاهرة ازدواجية السلطة في تعاملها مع المحميين والخاضعين؛ فالسلطة القديمة ترتكز على الريع والهروب الضريبي وتهريب العملة، والسلطة الجديدة البيروقراطية والتيكنوقراطية ترتكز على الطاعة والنفوذ والولاء، وهو ما يفوت فرص التقدم والتنمية. ومن بين المطالب التي طالب بها المغاربة -كذلك- في وثائق وعرائض المطالبة بالاستقلال، مطالب الحريات الشخصية والعامة، فأين نحن اليوم من هذه المطالب التاريخية، رغم اندفاع الغالبية العظمى ضد الجمر والرصاص، منذ عقود طويلة من الزمن، نحو دولة الحريات والقانون وحماية حقوق الإنسان والحق في التعبير والتواصل. وختمت وثيقة «مطالب الشعب المغربي» مطالبها بالمطالبة بالمحافظة على «الشخصية المغربية» المتمثلة في سلطان البلاد والنظام الملكي وبالاحتفاظ بنفوذ السلطان السياسي والديني والعدول عن سلطة «القواد الكبار» وإحداث وزارات عصرية، وإقفال مراكز الاعتقال... وكل هذه المطالب لازالت حية ترزق اليوم وتحتاج إلى من يفعلها. هكذا إذن، مهدت «كتلة العمل الوطني» الطريق أمام حزب الاستقلال، بدل الحزب الوطني، لتقديم «عريضة المطالبة بالاستقلال» يوم 11 يناير، بعد عشر سنوات من تقديم «مطالب الشعب المغربي»، لتكرس هذه الوثيقة التاريخية نهج الإصلاح بآفاقه وملامحه المحدودة من الأصل، وظل البحث عن البديل مرتبطا بشروط سياسية واجتماعية وبموازين قوى جديدة وطموحات طوباوية أحيانا وبرغماتية أحيانا أخرى. وفي العقود التالية، طبقت عدة إصلاحات وفتحت عدة وراش، لكنها لم ترق إلى مستوى إصلاح جهاز الدولة ومؤسساتها. إن النظام القديم غيّر الكثير من مكوناته وأوصافه، لكنه لا زال يحتفظ برموزه التي شكلت منذ المرحلة الاستعمارية نزاعات كبيرة حولها، رغم التغييرات الاجتماعية التي مست العادات والتقاليد والتفاعل الاجتماعي لكل طبقات المجتمع. إتمام الأوراش الإصلاحية المفتوحة إن مغرب اليوم لازال يعاني من استمرار بقايا الإقطاع ومن ازدواجية التقسيم بين العالم القروي والعالم الحضري، وبين صناعة حديثة وزراعة تقليدية، وبين عمال بدون حقوق اجتماعية وعمال فلاحين بدون أرض، وهو ما يجعل كثيرا من الوضعيات تنتج علاقات اجتماعية ترجع بالبلاد إلى العصور الوسطى رغم وجود قوى مجتمعية وطنية حداثية، إلا أنها تفتقر إلى الأداة القادرة على تنفيذ ما تنشده. فمنذ اتفاقية «إيكس ليبان» سنة 1955 المخيبة للآمال، لازالت بلادنا تروم التحرير التدريجي للوطن، ولازال الإلحاح شديدا على إتمام الأوراش الإصلاحية، وعلى رأسها إصلاح القضاء واحترام حرية الصحافة والحق في التعليم والصحة والشغل والقضاء على الرشوة والمحسوبية والزبونية والتزام الإدارة بالحياد في الاستحقاقات الانتحابية قائما إلى اليوم.