يذكر المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي أن نابليون، قائد الحملة الفرنسية لاحتلال مصر، أرسل بالعملة الصعبة ! نفقات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف إلى منزل نقيب الأشراف بمصر إبان تلك الفترة !! فهل كان غرض نابليون إحياء هذه الذكرى واستحضار رمزية الحدث، أم كان الهدف هو دغدغة مشاعر الشعب المصري والعزف على وتره الحساس، وتر المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مسوحها السطحية التخديرية دون مقاصدها الثورية الحقيقية، التي من شأنها إيقاف حملته الاستعمارية ورده إلى بلاده مذموما مدحورا؟؟ لاشك أن نابليون، كما غيره من الغزاة، لا يتحركون صوب غنيمة استعمارية إلا بعد الاطلاع الدقيق على سيكولوجية المستعمرين (بفتح الميم) لتحديد مكامن الضعف والتسرب من شقوقها، وفي حالة العرب فنابليون، من خلال طاقم باحثيه، أدرك جيدا أنهم يبجلون من يعاجلهم ب«التكبيرة» أو ما يسميه المغاربة «القبة»، فسعى بكل دهائه السياسي إلى التقرب من المصريين بإعلان إسلامه وتقديره لعلمائهم والاحتفاء بأعيادهم ومناسباتهم، خاصة الدينية منها، وعلى رأسها ذكرى المولد النبوي.. ومع ذلك، فقد باءت مخططاته التوسعية بالفشل، واستعصت مصر على حملته تلك، فعاد منها يجر ذيول الخيبة والخسران، لكنه على مستوى مقاربته للنبض الديني للشعب المصري، كما نبض جل المسلمين، لم يكن مجافيا للحقيقة المرة، التي جردت ذكرى المولد النبوي من رسائلها الإحيائية وأحالتها في وجدان الشعوب العربية الإسلامية إلى مجرد محطة لتمرين الحبال الصوتية فحسب. إن طبيعة الاحتفالات، التي تخلد في مختلف أرجاء العالم الإسلامي اليوم، والتي تتسم بالإغراق في طقوسية مبتذلة، سمتها اللهو والعبث والتسكع، ناهيك عن التهالك على المشارب والمآكل ، لهي احتفالات ما يمكن تسميته ب«النخوة علا الخوا» ، التي يروق لراصدي الأمة أن يهللوا لها ويطبلوا، ولن يترددوا في البذل بكل السخاء اللازم لإبقاء آثارها حية في نفوس المسلمين ، في اتجاه طمس معالم الانبعاث والثورة على الأوضاع الجائرة المشعة مع ذكرى المولد النبوي، وبالتالي صرف المسلمين عن التدبر في أعظم هبة من الله من بها على المسلمين ببعثه رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.. وبالمناسبة، فقد شهد مطلع هذا الشهر الذي ولد فيه خير البشر إقامة حفل شبابي راقص بفضاء مجمع تجاري جعل له كعنوان لحملة الرقص تلك «كيفاش تتسطى» أو كيف تصاب بالجنون !! وإن أعداء الأمة ليثلج صدورهم أن يروا أمة المسلمين، في كل ذكرى مولد، مشلولة في دماغها، منشغلة بحواسها وأعضائها السفلى للخبط الأهوج لأديم الأرض، وحناجرها لشحدها لمواسم الإنشاد في مدح المصطفى وكفى. ويوم تصبح ذكرى المولد محطة لإقامة مهرجانات أمداح، وأيضا لقاءات وأنشطة لاستقراء حدث مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإحياء جذوة النار الهاجعة تحت رماد الوجدان العربي الإسلامي مع حلول هذه الذكرى والخروج بالمخططات العملية الكفيلة بجعل الناس قرآنا وسيرة تمشي على الأرض أسوة بالحبيب المصطفى، أقول عن ذلك الزمن المبارك إننا لن نعدم مبعوثا على عجل من واشنطن، يلفت انتباهنا إلى ضرورة تعديل مناهج الاحتفال بهذه الذكرى الغالية تخليصا لها من شوائب التطرف والإرهاب وإلا!! وفي ظل وضعية الاستضعاف التي يعيشها المسلمون، فإن أولئك المولعين بإصدار الفتاوى الجاهزة مدعوون بخصوص اعتبار المولد النبوي عيدا أم ذكرى إلى التفريق بين بدع محمودة تدخل في باب القربات إلى الله تعالى وإظهار الشكر لجلاله، وهي في نفس الآن حمام سنوي لتجديد خلايا الإيمان بالله وتكثيف النصرة لرسوله صلى الله عليه وسلم وتشحيم عواطف الانبعاث الصدئة، وبين البدع المذمومة، التي تستنفر الغرائز وتميت القلوب وتكلس الهمم، وتفتح بالنتيجة حدود الأمة لاستدامة الاستعمار. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن المرء ليتساءل عن مصير تلك الجهود التي يبذلها فيض من المسلمين الغيورين بديار الغرب، والتي يدخل بمقتضاها آلاف الغربيين إلى الإسلام، عبر مجموعة من الأنشطة، تستغل فيها الأعياد الدينية للترويج للإسلام. ترى هل سيزج بهؤلاء الإخوة في خانة الابتداع المذموم، إذ يغتنمون فرصة ذكرى المولد النبوي لفتح المزيد من القلوب الغربية للإسلام؟؟. ومن جهة أخرى، هل سنظل على سبيل المثال رهائن لمواد إعلامية تشبه شرائح القديد المملح المحفوظ بعلب «الخليع» الزجاجية لعاديات البطن وطوارئه، مواد من صنف فيلم رابعة العدوية وإخوانه؟؟ وعلى المستوى التربوي، هل نحتاج إلى مراكمة ذلك الكم الكبير من المعلومات المرتبطة بالمولد النبوي والتي تثقل صفحات مقررات التربية الإسلامية دون أن تكون لها أدنى قدرة على تحريك قلوب وعقول شبابنا لاستخلاص حمولتها الرسالية الكامنة؟؟ إن الخمول الذي يطبع التعاطي مع السيرة النبوية داخل المؤسسات التربوية يبعث على القلق، خاصة أمام التردي الأخلاقي الذي غدا السمة البارزة للعلاقات التي تجمع بين المؤطرين التربويين وتلامذتهم. وتحضرني ملاحظات ساقها الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان في سياق توضيح ملامح البلدان المؤهلة لولوج القرن الواحد والعشرين بقوة. يقول فريدمان : «إذا أردت أن تعرف بحق كيف سيتصرف بلد في القرن الواحد والعشرين فلا تحسب احتياطاته من النفط أو الذهب، بل انظر إلى كفاءة مدرسيه العالية وإيمان آبائه والتزام طلابه». لا يروق توماس فريدمان التوقف في مقالاته عند الحراك الديني الذي ميز هبات الربيع العربي كقاطرة لتحقيق التغيير، لكن مقولته هذه، شاء أم أبى، هي من صلب وروح الدين الإسلامي.