ربما أكون مخطئا ومتحاملا، لكنني منذ أن ذهبت عند الطبيب ونصحني بأن أمارس الرياضة وأنتبه إلى صحتي، أقلعت عن حضور اللقاءات الثقافية في المغرب، بما في ذلك المسرحيات والندوات والأمسيات الشعرية ومؤتمرات «اتحاد الكتاب» والأفلام والمهرجانات ومعارض الكتاب، لأنني اكتشفت أنها العامل الرئيسي في ارتفاع الضغط والسكري والكوليستيرول وبعض الأمراض النفسية والعصبية. تذهب وأنت في كامل السعادة متوهما أنك ستقضي وقتا ممتعا تستريح فيه من رتابة اليومي وتطلق العنان للخيال والجمال والكمال، لكن ما إن تدخل القاعة حتى تشعر بانقباض حاد في الصدر، تستقبلك الفوضى والتفاهة والادعاء وتحس كأنك وقعت في مقلب، كأن أعداء غامضين حرصوا على توفير كل الأسباب لتعكير مزاجك وتحويل أعصابك إلى خيوط كهرباء! خلال السنوات الأخيرة، تحولت اللقاءات الثقافية إلى مناسبات تافهة، تجمع حفنة من المدعين والمحتالين والفاشلين، الذين يأتون لاستعراض عاهاتهم النفسية أمام بعضهم البعض؛ الوجوه ذاتها تنتقل من مهرجان إلى ندوة إلى مؤتمر، تندد وتهدد وتردد الكلمات ذاتها، في تجمعات تعثر فيها على كل شيء إلا على الثقافة والإبداع، و«اللي شاف شي يقول الله يستر». إبان سنوات إقامتي الأولى في الرباط، بداية التسعينيات، اعتبرت نفسي محظوظا وأدمنت بسذاجة على هذه اللقاءات، قبل أن أكتشف أنها تؤدي عكس وظيفتها تماما، بسبب كل التفاهة والادعاء، بدل أن تلهمك وتزيد من عشقك للإبداع تجعلك تكره الأدب وتخاصم الفن، وإذا كانت لديك مشاريع لأن تصبح فنانا أو كاتبا تتساءل في أي مستنقع تريد أن ترمي نفسك وتفكر جديا في تغيير مسار حياتك. حين تخلصت من هذه العادة السيئة، أصبحتْ لياقتي أفضلَ من بعض لاعبي المنتخب المغربي الذين يشاركون هذه الأيام في منافسات كأس أفريقيا للأمم، دون أن يفهم أحد لماذا تم اختيارهم، وهم لا يقوون على الوقوف في الملعب عشر دقائق كاملة. لحسن الحظ أن هناك دائما بعض الاستثناءات، وثمة لقاءات أدبية جديرة بأن نسجلها في أجنداتنا كي لا نخلف معها الموعد، هذا ما تأكد لي الخميس الماضي، حين حضرت حفل توقيع كتاب أحمد المرزوقي الجديد «محنة الفراغ». لم أكتف بالحضور، بل اشتريت الكتاب وانتظرت طويلا في الصف كي أحظى بتوقيع من الكاتب، على غير عادتي تماما. كان اللقاء استثنائيا لأن الكاتب ينتمي إلى سلالة على طريق الانقراض، أحمد المرزوقي، الناجي من تازمامارت، صاحب «الزنزانة رقم 10»، التي لا نبالغ إذا اعتبرناها من أهم الروايات المغربية إلى جانب «الخبز الحافي» لمحمد شكري. في كتابه الجديد، يؤكد المرزوقي أنه لم يأت إلى الكتابة عن طريق الصدفة، من المؤكد أن التجربة القاسية ساهمت في تفجير الطاقة الكامنة لدى العسكري السابق، لكن الكاتب كان موجودا فيه قبل تازمامارت، دون أدنى شك. «محنة الفراغ» مجموعة قصصية، يواصل فيها المرزوقي تصفية حسابه مع المعتقل الرهيب عن طريق الكتابة، يقف خارج المعتقل هذه المرة، ويتأمل المحنة بسخرية سوداء. التخييل أصعب دائما من الشهادة، خصوصا حين تكون مسكونا بتجربة حياتية تفوق الخيال، لكن المرزوقي ربح الرهان، ومثلما أدهشنا حرصه الخرافي على الوفاء لرفاقه الذين لم يكتب لهم أن يعودوا إلى الحياة في «الزنزانة رقم 10»، وأدهشتا شهادته العفوية على قناة «الجزيرة»، تدهشنا قدرته على التقاط التفاصيل واصطياد المفارقات ورسم الشخصيات في «محنة الفراغ». النقاد والمنظرون يجمعون على أن التجربة لوحدها لا تكفي لصنع كاتب، مهما كانت قاسية واستثنائية، كما أن الأفكار لا تصنع كاتبا، مهما كانت بليغة وعبقرية. ذات يوم، استغرب الرسام الفرنسي إدغار دوغا أمام صديقه الشاعر ستيفان مالارمي لأنه لا يستطع الكتابة رغم أن لديه كثيرا من الأفكار، وما كان من صاحب «ضربة نرد» إلا أن رد عليه: «عزيزي دوغا، نحن لا نكتب بالأفكار بل باللغة»... المرزوقي يملك اللغة والأفكار والتجربة، لذلك يبدو في «محنة الفراغ» كاتبا حقيقيا، يضيف إلى أسلوبه الخاص أرقى أنواع السخرية: السخرية من الذات. الكلمة التي قدم بها أحمد بوزفور، عراب القصة القصيرة، مجموعة المرزوقي تشكل شهادة واعترافا بأن المرزوقي أخذ مكانته عن جدارة وسط قبيلة الكتاب، وأعتقد أن صفة «الكاتب» يمكن أن تنتصر على صفة «الناجي من تازمامارت» في المستقبل القريب.