المساجد.. هي أكثر الأماكن التي يرتادها المغاربة يوميا، آناء الليل وأطراف النهار. يتزايد الطلب عليها بتزايد سكان الحواضر الكبرى. هنا تبرز الأزمة، أزمة المساجد. في هذا الروبورتاج ننقل تفاصيل رحلة البحث عن مساجد، تحديدا بالدارالبيضاء، ونكشف حقيقة خلو أحياء بكاملها من مساجد ولجوء سكان أخرى إلى إقامة صلواتهم داخل أكواخ وبأزقة وساحات أسواق. نحن الآن بحي «غوتيي» وسط الدارالبيضاء. داخل هذا الحي الراقي، الممتد على مساحة كبيرة، لن تستطيع العثور على مسجد. تجيل بناظريك في أرجاء المكان. لا أثر لصومعة. كنائس مسيحيين وسيناغوغات يهود هي أماكن العبادة الوحيدة هنا. لم يُسمع قط صوت أذان في هذا الحي الفخم. وحدها أصوات منبهات سيارات وزعيق مارة تُسمع بين عمارات الإسمنت. تأشيرة صلاة الوضع نفسه بأوسط بقعة في مدينة الدارالبيضاء. على طول شارع محمد الخامس، الأشهر في عاصمة المال والأعمال، لا يوجد مسجد. أقرب مسجد للصلاة يوجد بعيدا في، نهاية شارع محمد الخامس، بساحة آل ياسر. هنا يوجد مسجد آل ياسر. ينضاف إليه مسجدان اثنان قديمان بمدينة البيضاء القديمة. هذه كل مساجد وسط أكبر مدينة بالمغرب. جولة بوسط المدينة أيام الجمعة بحثا عن مسجد لأداء الصلاة تكشف حقيقة خلو المكان من مساجد. الإسمنت يزحف على كل شبر من المنطقة. بلغة الجغرافيا، مقاطعتا مرس السلطان وسيدي بليوط اللتان يتوزع تراب وسط المدينة عبرهما لا تضمان سوى بضعة مساجد. أول صلاة جمعة كانت بمسجد ب«باب مراكش»بالمدينة القديمة. الموظفون والعمال والتجار الذين يشتغلون بوسط المدينة يزاحمون سكان المدينة القديمة بهذا المسجد. يكتظ عن آخره وتتفجر ساحة محاذية له بالمصلين. آخرون لم يجدوا أمكنة للصلاة سوى داخل متاجر محاذية للمسجد ومداخل بنايات. خطبتان تسمعان في الوقت عينه، أولها لخطيب مسجد «باب مراكش» والأخرى لخطيب مسجد صغير مجاور له. تُقام الصلاة بالمسجدين فيختلط الأمر على الناس، لا يدرون خلف أي إمام يصلون. مشهد لن تجده إلا في هذا المكان. من تبقى من سكان وسط المدينة والموظفين الذين يعملون هنا يتوجه نحو مسجد صغير بشارع مصطفى المعاني. المسجد عبارة عن عمارة في حي سكني خصصها مالكها للصلاة. تكتظ طوابقه الثلاثة سريعا بالمصلين. الوفود لا تجد مكانا للصلاة سوى أزقة بمحاذاته. أقصى مكان يمكن للشخص أن يصلي فيه يبعد عن المسجد بنحو 300 متر. لا يكاد يُسمع الخطيب. الناس يفترشون الإسفلت مطرقين رؤوسهم. خلفهم باعة ينادون بأسعار خضر وملابس «البال». شرطي يجهد في تسهيل حركة مرور سيارات يجلس مصلون في طريقها. ليس هناك جو جمعة. بوسط المدينة دائما. تحديدا بحي «لاجيروند». أقرب مسجدين هنا يبعدان بمسيرة 20 دقيقة. أحدهما في حي عين البرجة والآخر ب«كراج علال»، قبالة القصر الملكي بدرب السلطان. لا يسمع صوت الأذان إطلاقا بهذا الحي باستثناء همس مؤذن ينبعث من بعيد، ينقله الصمت الذي يسود المكان في وقت الفجر. صلاة الجمعة في هذا الحي شد للرحال إلى أحد المسجدين المذكورين أو غيرهما في حي آخر أبعد. المسجدان تضيق باحاتهما والساحات المحاذية لهما بالمصلين. المصلون يجأرون إلى الإسفلت وأقبية المنازل ومرائب السيارات للصلاة. نعود إلى وسط مدينة الدارالبيضاء. إلى شارع محمد الخامس. محنة الناس يوميا مع غياب المساجد هنا. لأداء الصلوات في أوقاتها يلجأ مرتادو المكان إلى افتراش حصائر بممرات وساحات داخل أسواق. المسجد المعروف يوجد بممر «قيسارية سوميكا»، المطل على شارع محمد الخامس. المسجد عبارة عن حصيرتين حمراوين تفرشان عند كل صلاة بالممر. «مارشي سنطرال»، أقدم أسواق البيضاء. هنا ثاني مسجد يلوذ إليه الناس للصلاة. حصير أخضر كبير يفرش بساحة السوق. قطعة خشب توضع أمام الإمام لدرء مرور أحد أمامه، وقُضيت الصلاة. البحث عن مسجد على امتداد هكتارات بمنطقة آنفا وبين الفيلات والقصور الفارهة لا يوجد مسجد واحد، باستثناء مسجد «آل سعود» بكورنيش البيضاء. غياب المساجد يتسلل إلى أحياء أخرى بضواحي البيضاء. أغلبها هامشي. هنا تبرز مساجد من نوع خاص. مساجد عشوائية وغير مرخص لها. في هذه الأحياء يصلي الناس في ظروف غريبة. كيف ذلك؟ انتقلنا إلى حي سيدي الخدير الشعبي ضاحية البيضاء الجنوبية. حي شعبي تزاحم فيها براريك وأحياء من صفيح منازل إسمنتية تظهر عليها علامات عشوائية. بين أزقة الحي الضيقة نبتت مساجد عشوائية. أقدمها عبارة عن ساحة صغيرة قبالة محل بقالة. «محسن» تكلف بتجصيص الساحة الصغيرة واقتناء حصير يُفرش بها عند كل صلاة فضلا عن مكبر صوت عُلق بحائط. ثلة من سكان الحي يؤدون بهذا المكان صلاتهم. بعيد الأذان يتوافدون. يجلسون على الحصير في انتظار إقامة الصلاة. المكان مكتظ. عشرات المارة يخترقون الزقاق المحاذي ل«المسجد». الطريق ذاته هو ممر رئيسي ل«الكراول» ودراجات ثلاثية العجلات تستعمل في النقل السري. في غمرة الفوضى يؤدي سكان هذا الحي صلاتهم. غير بعيد عنهم يجتمع آخرون في مسجد قصديري آخر بني قبل أزيد من سنة في أرض خلاء وسط منازل خربة. المسجد غير معترف به من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. رغم ذلك فهو يعج بالمصلين. أغلبهم ملتحون. قارئ ذو صوت شجي يؤم المصلين. أمام ناظريه مقرأة بها مصحف يقرأ منه خلال صلاته. المسجد مؤثث بطريقة عشوائية. على جدران قصديرية عُلقت لوحات بها آيات قرآنية. حضرنا صلاة عشاء ذات ليلة بهذا المسجد. حينئذ كان درس يلقيه شخص معروف بين سكان الحي. دارس بالسعودية ومتأثر بالمذهب الوهابي. المصلون مطرقون للسمع. درس ذلك اليوم كان موضوعه إخلاص النية. بين استشهادات المحدث تسللت أقوال لمحمد عبد الوهاب، مؤسس المذهب الوهابي. كاميرا أمامه تسجل موعظته. انتهى الدرس وأقيمت الصلاة. تقدم المحدث لإمامة المصلين. القراءة كانت برواية حفص. البرد ظل يتسلل بين شقوق صفائح القصدير. قُضيت الصلاة. غموض الأرقام والواقع هذا حال مساجد. على الأقل بالدارالبيضاء التي تشير المعطيات الرسمية إلى أنها تضم 382 مسجدا و721 قاعة صلاة. أكثر المساجد، وفق أرقام وزارة الأوقاف، توجد بعمالة عين السبع الحي المحمدي التي تضم، حسب الأرقام الرسمية ذاتها، 99 مسجدا و46 مسجدا جامعا و93 قاعة صلاة. تتبعها عمالة مولاي رشيد ثم الفداء مرس السلطان. توضيحات أكثر حول هذه الأرقام يكشف عنها المجلس العلمي المحلي بالدارالبيضاء والذي سبق أن اعتبر أن المساجد الجامعة في المدينة غير كافية لاستيعاب المصلين خاصة يوم الجمعة. هؤلاء يصل عددهم إلى 605 آلاف و632 شخصا بينما لا تسمح الطاقة الاستيعابية لهذه المساجد سوى باحتواء 515 ألفا و969 مصليا. فواصل كثيرة خلف الأرقام التي كلما كثرت تاهت أسئلة يفرضها واقع الحال. أولى هاته الأسئلة هو هل فعلا بالدارالبيضاء كل هذا العدد من المساجد؟ وهل تغطي مساجد المدينة جميع أحيائها؟ السؤال يطرح بشكل كبير بعد الاطلاع على خريطة مساجد المغرب عبر صور ملتقطة بالأقمار الاصطناعية. الصور تكشف أن عدد مساجد البيضاء يتجاوز المائة بقليل. صور الأقمار الاصطناعية تظهر أيضا أن هناك أحياء بكاملها ممتدة على هكتارات عدة لا يوجد بها مسجد واحد. أحياء أخرى لا تضم سوى مسجد أو مسجدين. ما يثير الانتباه أكثر هو أن نسبة قليلة من مساجد المملكة هي التي تبنيها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وتتكلف بها. النسبة الأعظم من المساجد المبنية بالمغرب وراءها «محسنون». هؤلاء يغلب، أحيانا، الجانب الانتفاعي على إحسانهم. خاصة إذا كانوا منعشين عقاريين. كيف ذلك؟ الوعاء العقاري بالدارالبيضاء مثلا متقلص. فضلا عن تقلصه فإنه يخضع لسيطرة لوبيات العقار. هاته اللوبيات تضم منعشين عقاريين يتنافسون فيما بينهم على الظفر برخص إنجاز مشاريع سكنية. هاته المشاريع تكون في أحيان كثيرة عبارة عن تطبيق لمخطط الدولة للسكن الاجتماعي. خلال الإعداد لهاته المساجد، وقبل الترخيص بها، يُشترط على أصحابها من المنعشين العقاريين أن يخضعوا لدفتر تحملات. دفتر التحملات هذا يكون مقابل ترخيص السلطات العمومية لهم بإنجاز هذه المشاريع التي تكون غالبا بناء على رخص استثنائية تتجاوز تصاميم التهيئة وتسمح، على سبيل المثال، ببناء عمارات مكونة من أربعة طوابق وأكثر في مناطق تصميم تهيئتها لا يسمح بذلك. دفاتر التحملات تنص، مقابل الترخيص الاستثنائي، على التعهد بإنجاز مرافق اجتماعية. عند هذه النقطة تلتقي عدة علامات استفهام. المرافق الاجتماعية داعيها أن المشاريع السكنية سيقطنها فيما بعد آلاف السكان. هؤلاء بحاجة إلى مراكز صحية ومدارس وأيضا مساجد. فهل يُلزم المنعشون العقاريون ببناء المساجد؟ للجواب على هذا السؤال استفسرت «المساء» عدة مصادر مسؤولة. كلها أجمعت على أن هذا المقتضى يتم تجاوزه والتحايل عليه. التحايل يبدأ من عدم إقامة مساجد بأحياء سكنية جديدة. هذا ما تشهد عليه مشاريع سكنية لشركة عقارية كبرى في الدارالبيضاء. الشركة شيدت أحياء بكاملها دون أن تقيم مسجدا واحدا. الاستثناء كان عبارة عن مسجد صغير بحي الألفة تمت إقامته، إلى جانب عمارات، فوق أرض كان دفتر التحملات قد أوجب على الشركة العقارية بأن تقيم فوقها مسجدا كبيرا ومدرسة. في نهاية المطاف بني مسجد صغير وعمارات ضم 900 شقة سكنية. ملفات منعشين عقاريين آخرين تكشف جانبا ثانيا من التحايل على مقتضى بناء مساجد. المثال من حي السلام ضاحية البيضاء الجنوبية. بني الحي بكامله ولم يخصص مالك المشروع سوى أرض صغيرة غير صالحة للبناء بسبب وجود «مرجة» بها لإقامة مسجد. بني المسجد ولم يصمد سوى شهور حيث انهارت أساساته. دعمت الأساسات بصفائح حديدية سميكة لكن مع ذلك استمر انهياره ليتقرر إخلاؤه. سكان الحي يصلون الآن بخيمة نصبت بجانب المسجد الخرب. لكن لماذا لا يتم ضبط عمليات بناء المنعشين العقاريين للمساجد؟ جواب مصادر «المساء» عن هذا السؤال أومأ إلى بقع ظل في تعامل السلطات مع منعشين كبار أساسا. كما أن مسطرة احترام دفاتر التحملات من قبل هؤلاء المنعشين لا تتسم بالحزم، فإلزامية الاحترام لا تتعدى توقيع التزام بمصلحة لتصحيح الإمضاءات بأقرب مقاطعة، وانتهى الأمر. لكن، هل لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ونظاراتها المنتشرة بأغلب المدن، دور في ضبط الوضع؟. للجواب على هذا السؤال وغيره انتقلنا إلى مقر الوزارة العتيقة بالرباط. الوزارة توجد في قلب المشور السعيد. قرب القصر الملكي تحديدا. الولوج إليها أشبه باختراق ثكنة عسكرية. عبر باب جنوبي يُدخل إلى حي «تواركة» ولجنا. رجال شرطة بزي رسمي ومدني ينتشرون بالمكان. استوقفنا أحدهم مستفسرا عن الوجهة. طلب منا التوجه إلى مخفر للشرطة بالمكان. «هل لك موعد؟» يسأل ضابط. يطلب الانتظار كي «يتشاور»، كما قال. اتصل بمسؤول التواصل بوزارة الأوقاف، محمد الحنشي. الأخير أخبرنا أنه يتعذر علينا مقابلة مدير مديرية المساجد بالوزارة لأنه ليس لدينا موعد كما أنه يمكن أن لا يكون موجودا في مكتبه. كانت الساعة حينها الحادية عشرة صباحا. الوقت ما زال وقت دوام. الضابط ظل محدقا في مسلسل تركي بشاشة تلفزة بمكتبه. الولوج إلى قلعة الوزارة صعب. فما الذي تخفيه وزارة الأوقاف ومديرية المساجد عن الجميع؟ لماذا يرفضون الخوض في أمور تدبير المساجد؟ أسئلة أخرى تنضاف إلى قائمة طويلة من أسئلة تطوق أعناق مسؤولين عن دين المغاربة.