على مر الحضارات التي تعاقبت على تاريخ المغرب القديم والوسيط كان أجدادنا المغاربة يبدعون في مجالات مختلفة، ويقدمون أمثلة عديدة على التطور الكبير الذي حققوه في مجال الطب والعمارة والبناء والعلوم والأدب والشعر، في وقت كانت فيه أوروبا لا تزال غارقة في بحر من الجهل والتخلف والأمراض، وهذا ما دفع بعدد من العلماء الأوروبيين الى ترجمة أعمال الأطباء والعلماء المغاربة ومحاولة الاستفادة منها، في أوروبا، وكمثال بسيط على ذلك فإن جامعة القرويين لعبت دورا كبيرا في انتشار العلوم والأرقام العربية إلى ربوع أوروبا... في هذا الخاص نتوقف لنلقي الضوء على أبرز مفاخر المغرب المنسية التي قد لا يعرف عنها الجيل الحالي أي شيء تقريبا.. يقول علي الجزنائي: «لما عزم الإمام إدريس على بناء مدينة فاس بعد أن اختبر تربتها وهواءها ورياحها وماءها وتحقق بعدها من الصحراء والجبال الشامخة والسباخ العفنة وعلم أن ذلك مما يأمن به سكانها رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم اجعلها دار علم وفقه يتلى بها كتابك وتقام بها سنتك وحدودك...». ولا شك أن من درس تاريخ المدينة أو اطلع على اليسير منه سيدرك تحيق أمنية بانيها لأن هذه المدينة كانت على مر العصور صرحا للعلم والمعرفة، فهي التي قال عنها المراكشي إنها حاضرة المغرب التي اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة وهي بغداد المغرب كما يصفها المشارقة، وأثينا إفريقيا على حد وصف الجاسوس الإسباني «فرانسيسكو دومينغوباديا» المعروف بعلي العباسي والمدينة التي ضمت ثمانمائة مسجد ومكتبة في القرن العاشر الميلادي حسب المؤرخ «جوستاف لوبون». إن الأسكوريال الذائعة الصيت ما تزال تتغذى إلى يوم الناس هذا على فتات هذه المدينة العجيبة، فقد اختلس قنصل فرنسي ما يفوق أربعة آلاف مخطوط من كتبها على عهد السلطان زيدان السعدي ومنها تشكلت لاحقا نواة الأسكوريال، ويكفي هذه المدينة فخرا أن تحتضن أقدم جامعة عرفها تاريخ البشرية، وهي جامعة القرويين العظيمة التي أمها عمالقة الفكر وجهابذة العلماء من أمثال ابن خلدون وابن الخطيب وابن البناء العددي وابن زكون التلمساني والملجوم الفاسي وجمع غفير من أهل الأدب والعلم ممن يضيق المقام عن سرد أسمائهم، ولا خلاف اليوم بين المؤرخين على أن الفضل في انتشار الأرقام العربية في أوربا إنما يعود لهذه الجامعة، حيث أمها البابا سلفيستر الثاني طلبا للعلم قبل أن ينقل معارفه التي نهلها من حياضها إلى العالم المسيحي لتضيء أنوار فاس والقرويين أرجاء أوربا برمتها. والذي يعنينا من هذه التوطئة أن نشير إلى أن هذه المدينة الجليلة القدر واحدة من أعظم العواصم العلمية في العالم قاطبة نافست بغداد وأثينا وقرطبة وخرجت أفواجا من العباقرة بفضل احتضان أهلها للعلم والعلماء منذ بنائها وإلى يوم الناس هذا. لقد عرفت فاس بث العلم والإقراء عبر الكراسي العلمية التي انتشرت في مساجدها بكثافة، إذ تشير المصادر التاريخية إلى مجموعة من المساجد التي اضطلعت بمهام التدريس والتعليم غير القرويين والأندلس، فهناك مثلا المسجد المنسوب لابن حنين، والذي كان يدرس فيه أبو الحسن علي بن أحمد بن أبي بكر الكتاني، وهناك مسجد زقاق الماء الذي تصدى فيه للإقراء العالم أبو بكر بن عثمان بن مالك، وجامع فاس الذي كان يدرس فيه الشيخ أبو مدين وغير ذلك من المساجد. ويبدو أن تأهيل طلبة العلم كان يتم وفق رؤية بيداغوجية متكاملة، أشار ابن خلدون والمقري إلى بعض جوانبها متقدمين في ذلك على أحدث نظريات التعلم التي عرفها العصر الحديث، ومن سمات هذه الرؤية مراعاة مناسبة مواضيع التعلم لقدرة المتلقي الذهنية وللمراحل العمرية التي يمر منها وشحذ الذاكرة وتمرينها على الحفظ وتحفيز الوجدان والتلويح بالعقاب لإضفاء طابع الجدية على حصص الدرس بالنسبة لصغار المتعلمين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فاس كانت تعج بالكتاتيب القرآنية التي تلقن فيها مبادئ العلوم والقرآن الكريم لصغار السن، وفي هذا السياق ذكر الوزان الفاسي أنه «توجد بفاس مائتا مدرسة لتعليم الأطفال وهي عبارة عن قاعات واسعة داخلها محاط بالدكاكين لجلوس التلاميذ» ويخضع الأساتذة الذين يلقون دروسهم في هذه المؤسسات لنظام انتقاء صارم، حيث لابد أن تتوفر فيهم مجموعة من الشروط الأخلاقية والعلمية قبل مباشرة تدريس الصبية، ونستطيع من خلال إلقاء نظرة خاطفة على المعاهد العلمية بفاس أن نتبين أن التعليم الأولي اضطلعت به الكتاتيب والمسايد الملحقة بمساجد العبادة، وكلمة «المسيد» كما أوضح الدكتور عبد الهادي بوطالب تصحيف لكلمة «المسجد» وهي الكلمة التي تواضع الناس على إطلاقها على الكتاتيب القرآنية إلى حدود الساعة، وأما الدراسات المتوسطة أو التكميلية فتتكلف بها الزوايا ومساجد المدينة التي ذكرنا بعضها آنفا، وقد أشار العلامة ابن تاويت إلى أن لهذه الزوايا من الأوقاف ما كان يكفي لتعليم آلاف الطلبة لأنها كانت تقوم بدور عزيز على المسلمين، في حين مثلت القرويين معهدا لتخريج كبار العلماء وتميزت عن باقي المؤسسات العلمية باحتضانها لشيوخ العلم والإقراء. وفي إطار الحديث عن الدراسات المتخصصة تجدر الإشارة إلى أن بعض الكراسي العلمية كذلك كان لها دور فعال في تأهيل طلبة العلم بمدينة فاس وكانت تقدم ما يشبه الدروس العليا المعمقة في عصرنا، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر كرسي الونشريسي بجامع عدوة الأندلس الذي تخصص في تدريس الفقه المالكي، وكرسي مسجد الأبارين المتخصص في التفسير والحديث وكرسي مسجد الأزدع الذي درس فيه الإمام أبو الحسن الصغير . إن تنافس سلاطين المغرب في الحفاظ على الدور العلمي لمدينة فاس أضفى عليها طابعا لا تكاد تجده في كل مدن المغرب، ولا نغالي إن قلنا بأنها تنفرد عن مدن العالم قاطبة بكثير من الخصائص التي تؤهلها لتكون عاصمة الحواضر العلمية بلا منازع . كل مسجد بالمدينة يذكرك بجيش عرمرم من العلماء، وكل مدرسة تذكرك بمجد علمي غابر ليس تحييه الآلاف من المدارس المنتشرة اليوم في ربوع المغرب، فانظر إلى حادثة غرق سفينة تقل أربعمائة عالم على عهد أبي الحسن المريني من كبار العلماء الذين تخرج معظمهم من مدارس فاس يتأكد لك أن هذه المدينة لا نظير لها، ولم تتأثر مكانة فاس العلمية على عهد أبي الحسن رغم فقدانها لأربعمائة من خيرة مشايخها لأنه لم يكن بالمدينة يومها غير عالم أو طالب علم متفرغ للطلب، أو حرفي يؤم حلقات العلماء في أوقات فراغه، واستمر إشعاع المدينة العلمي عبر مؤسساتها العريقة إلى حدود الأمس القريب، وحين هبت ريح الاستعمار على المغرب وقف علماء المدينة وطلبة العلم بها يذبون عن حوزة الوطن ويدافعون البغي بالبندقية تارة وبالخطب والشعر والمقالات أخرى، فزج بهم في غياهب السجون وقضى منهم من قضى على درب التضحية والفداء، وعلى رأسهم مؤسس مدرسة الزاوية الخضراء الشهيد محمد القري. إن فاس ما كانت لتبلغ مكانتها تلك بين حواضر العلم لولا انتشار المعاهد العلمية بها منذ تأسيسها، فبعد القرويين كانت مدرسة «الصابرين» التي بناها المرابطون على عهد يوسف بن تاشفين وهي من المدارس الأولى التي بنيت بها وكذا مدرسة «وجاح بن زولو» اللمطي تلميذ أبي عمران الفاسي، ثم كان أن تنامى الاهتمام بالمعاهد بالمدينة على عهد الموحدين وبلغ أوجه في زمن المرينيين واستمر الإنفاق على هذه المعاهد في زمن العلويين حيث تبوأ أساتذتها أعلى الرتب في دولة السلطان سليمان العلوي الذي أتى في إجلاله للعلماء بالعجب، فكان إذا حضر دروسهم جلس في صفوف الطلبة. وقد روي أنه عكف على خدمة أحد علماء فاس بنفسه ليستفيد من علمه، وعلى عهد الحسن الأول عرفت فاس إنشاء أول كلية مستقلة للطب حسب مجموعة من الوثائق التاريخية، واليوم حين تتنقل بين دروب المدينة القديمة وأزقتها العتيقة تذهلك كثرة المدارس الأثرية التي تعج بها فاس، وعلى قدر دهشتك يغمرك إحساس عميق بالخيبة، فمعظم هذه المدارس آيلة للسقوط وبعضها قد تحول إلى مطارح للأزبال والنفايات، كأن لم تكن يوما محجا لطلبة العلم والمعرفة من كل أقطار الأرض . تلك المدارس كانت سببا وما تزال في شهرة فاس ولولاها لما كان للمغرب ذكر في التاريخ. يقول عبد الهادي التازي: «وما المغرب إن لم يكن القرويين» نعم هي بنايات لم يعد لها دور اليوم ولكنها ركائز استند إليها المغرب في قيادته لشمال إفريقيا وجنوب أوربا في عصوره الذهبية، فمنها تخرج الخطباء الذين ساهموا في صنع مجد الزلاقة والأرك ووادي المخازن وفي حجراتها درس رجال بلاط المنصور الذهبي وأبي عنان المريني وأبي الحسن، وبها درس العلماء الذين ناهضوا الاستعمار وأولئك الذين ساهموا في رقي علم الفلك والطب والجغرافيا، وغيرهم ممن ضربوا أروع الأمثلة بعدلهم في القضاء وصدقهم وجرأتهم في مناصحة السلاطين وتجردهم وتحريهم الحق في الفتيا وانخراطهم في هموم أمتهم حتى النخاع. إن مجد المغرب العظيم إنما كتبت سطوره داخل هذه المدارس التي نذكر منها مدرسة الصفارين ومدرسة الصهريج ومدرسة السباعيين والمصباحية والبوعنانية وراس الشراطين ومدرسة الزاوية الخضراء وغيرها، مدارس عدت حوادث الدهرعلى معظمها فتحولت إلى مبان خربة، وتعرضت محتوياتها للنهب والسرقة وسنعود للحديث بشيء من التفصيل عن تاريخ إنشائها ودورها العلمي في الحلقة القادمة.
لماذا دعا «ليوطي» إلى القضاء على القرويين ؟
بعد هزيمة «إيسلي» شهد المغرب هبة علمية كانت بمثابة رد فعل تلقائي على إحساس الأمة بالهزيمة المرة، وفي طليعة الذين استشعروا خطر الغزو الأجنبي المحدق نجد علماء فاس وأدباءها ممن أبدعوا في الأدب البطولي بتعبير العلامة محمد المنوني، ومن هؤلاء محمد بن عبد القادر الكلالي المعروف بالكردودي صاحب «كشف الغمة في أن حرب النظام حق على هذه الأمة»، والفقيه القاضي علي بن عبد السلام التسولي، ثم الفاسي، والوزير الشاعر محمد بن إدريس، والأديب محمد بن محمد بن عبد الله بن غريط، وأبو العباس أحمد بن محمد المريني الفاسي، لكن أدب هؤلاء وفقههم ودعواتهم لمواجهة الأخطار المحدقة بأمتهم لم تكن غير صيحة في واد فما لبث العدو أن استولى على المغرب ولم ينس ثأره مع فاس ورجالات فاس وأبناء القرويين والمدارس العتيقة خاصة. فحين دخل ليوطي فاس كحاكم عام للمغرب دخلها في موكب حافل تحيط به علامات الغلبة والظفر، وقد أمر بإغلاق الأسواق وطلب من الناس الخروج لملاقاته وأصر على أن يحضر علماء القرويين في طليعة المواكب التي استقبلته وعطل صلاة الجمعة نكاية بهم وتعمد تأخير لقائهم، كما ذكر العلامة عبد الله كنون الذي كان والده واحدا ممن حضروا مراسيم الاستقبال وكل ذلك للإمعان في إذلال الأمة المغربية جمعاء من خلال إذلال علماء القرويين، حتى إن بعضا ممن شهدوا ذلك اللقاء آثروا مغادرة فاس للأبد ومنهم والد كنون. كان ليوطي يومها قد أنجز الجزء اليسير الهين من مهمته وظل الجزء الأعظم منها رهينا بما يتمخض عنه مستقبل الصراع مع القرويين وكان مما قاله اليوطي لبعض أعوانه «إذا تم لفرنسا القضاء على تجديد القرويين فقد ضمنت لنفسها الخلود في المغرب».