ربما كانت الحركة الشعبية المتسعة، التي تشهدها منذ أسابيع مدن الأنبار وديالي وصلاح الدين ونينوى، مفاجأة على نحو ما. روج بعض العراقيين، من أنصار رئيس الوزراء المالكي، طوال العامين الماضيين، ولاسيما بعد انفجار الثورة السورية، لفكرة أن العراق لا يحتاج ربيعا عربيا، لأنه كان السباق إلى ربيع الديمقراطية والحرية. وظن آخرون، من المشفقين على العراق وأهله، أن العراقيين منقسمون، طائفيا وإثنيا، وأن أي حراك سياسي معارض لنظام الحكم التمييزي الطائفي الفاسد، الذي يقوده المالكي، سيجر البلاد من جديد إلى هوة الصراع الأهلي-الطائفي. فئة ثالثة من مراقبي الشأن العراقي حسبت أن استمرار الجماعات الإرهابية، مثل «القاعدة»، في ارتكاب الهجمات الدموية على عموم العراقيين، أغلق الباب، ولو إلى حين، على التحاق العراق بالنهضة الشعبية التي تعيد منذ أكثر من عامين رسم ملامح هذا المشرق العربي القديم. ولكن العراق أيضا في حاجة ملحة إلى الثورة، بعد أن أغلقت أمام قطاعات واسعة من شعبه طرق التغيير والإصلاح بالتفاوض العقلاني المعتاد في الديمقراطيات الحرة. يدرك المالكي وحفنة المستفيدين الملتفين حوله حجم التحدي الذي يواجههم، وكما من سبقهم من حكام دول الثورة العربية، يحاولون اليوم إغراق الحراك الشعبي في دعاية سوداء من الاتهامات بالعمالة للخارج والميول البعثية والنزعة الطائفية. مئات الآلاف من العراقيين، الذين شهدناهم في جمعيتي العزة والكرامة 28 بر) والصمود 4 كانون الثاني (يناير)، متهمون بالعمالة والبعثية والطائفية! في البداية، عندما خرجت مظاهرة مدينة الرمادي الأولى، قال المالكي إن حركة الشعب ليست سوى فقاعة (وهو الوصف المجيد الذي سيستعيره بشار الأسد بعد أسبوعين فقط، لينعت به كل حركة الثورة العربية). ولكن العراقيين، كما السوريين والمصريين والتونسيين واليمنيين والليبيين والأردنيين، من قبلهم، كانوا على موعد مع أنفسهم، وظلوا يخرجون كما لم يخرجوا إلى شوارع وساحات مدنهم منذ زمن الحركة الوطنية العراقية في نهاية الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. وما إن استفاق المالكي على حقيقة ما يواجهه حتى انطلقت آلته الدعائية في محاولة لمحاصرة الحركة الشعبية وتقسيم العراقيين من جديد. كل أنظمة الاستبداد لا تستطيع العيش باطمئنان بدون تقسيم الشعب وزرع الخوف والشك بين أبنائه. والمالكي لم يكن له أن يأتي للحكم أصلا، ولا أن يستمر في الحكم كل هذه السنوات المظلمة، بدون تغذية أمراض ما بعد الغزو والاحتلال التي أنهكت العراق وأثقلت كاهله. رفع العراقيون في تظاهراتهم مطالب تتعلق بإلغاء قوانين التمييز والاعتداء، التي يستخدمها المالكي لخدمة أهدافه الطائفية والسياسية، فاتهمهم رئيس الوزراء بمحاولة اقتلاع النظام. رفعوا علم الثورة السورية، في استعراض لا يخفى لانحيازهم إلى حركة الثورة العربية، فاتهموا بتنفيذ أجندات «إقليمية وخليجية»، ورحبوا بمقتدى الصدر في مسجد عبد القادر الكيلاني ببغداد، وبوفود العشائر الجنوبية في مدن الحراك الشعبي الرئيسة، ورفعوا شعار «كلنا حسينيون من الأنبار إلى كربلاء»، فقال المالكي إن هذه ليست سوى حركة طائفية. والمدهش أن وكالة مهر للأنباء، الوكالة الإيرانية شبه الرسمية، تردد في تقرير لها حول الشأن العراقي اتهامات المالكي لشعبه، وتعيد إلى الأذهان بؤس وضيق أفق السياسة الإيرانية تجاه ثورة الشعب السوري. انطلقت شرارة الحركة الشعبية العراقية، في الأسبوع الأخير من العام المنصرم، بفعل خطوة المالكي الخرقاء ضد د. رافع العيساوي، أحد زعماء القائمة العراقية، وزير المالية في حكومة المالكي، وابن محافظة الأنبار. كان المالكي، في تكرار سقيم للهجمة التي قادها قبل عام ضد نائب رئيس الجمهورية والقيادي البارز الآخر في القائمة العراقية، طارق الهاشمي، أصدر أمرا باعتقال عدد من الضباط والجنود المرافقين لعيساوي بتهمة ارتكاب أعمال إرهابية. تهديدات المالكي لعيساوي ليست جديدة؛ وكان رئيس الوزراء أكد خلال فترة التوتر القصوى التي واكبت الهجمة ضد الهاشمي، أن ملف العيساوي جاهز هو الآخر. وتقول مصادر عراقية إن عناصر حماية العيساوي تعرضت، كما سبق مع عناصر حماية الهاشمي، لتعذيب بشع، وأن المالكي أصدر بالفعل قرار اعتقال للعيساوي بتهمة المساعدة على الإرهاب. ولكن اندلاع المظاهرات الاحتجاجية، وشجاعة العيساوي في مواجهة الخطر الذي كان يتربص به، جعل رئيس الوزراء يتراجع عن قراره. مشكلة المالكي مع العيساوي هي ذاتها مشكلته مع الهاشمي، ومع موقع العراق في حقبة الثورة التي تجتاح العالم العربي من مغربه إلى مشرقه. وهي أيضا السبب الرئيس خلف انطلاق الحركة الشعبية العراقية، واصطفاف القطاع الأوسع من القوى السياسية العربية، السنية والشيعية، كما الكردية، خلف هذه الحركة. بدأ المالكي حكمه، قبل أكثر من ست سنوات، بإظهار صورة وطنية لسياساته؛ ولكن الحقيقة، التي تطلبت بعض الوقت لتتضح، أنه كان يعمل فقط على توكيد سلطته وإحكام قبضته على مقدرات الدولة. وما إن حسب أنه نجح بالفعل، حتى انطلق في سياسة الاستحواذ والتحكم الطائفي بدون تردد. انتهج المالكي سياسة الإطاحة بمن يستطيع الإطاحة به من ضباط الجيش السنة ومسؤولي أجهزة الدولة، وصنع لنفسه قوة سياسية شيعية في مواجهة شركائه من حزب الدعوة ومن القوى السياسية الشيعية الأخرى. ولكن العراقيين فاجؤوه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بتشكيل القائمة العراقية التي طرحت خيارا عراقيا وطنيا يتجاوز ميراث دولة المحاصصة والانقسام والصراع التي قامت بحماية قوات الغزو والاحتلال. فازت العراقية بأكبر عدد من مقاعد البرلمان، على الرغم من إدارة المالكي لعملية انتخابية شابتها الشبهات وتخللتها هجمات القوات الموالية لرئيس الحكومة على المناطق المعروفة بمعارضتها له. لا القائمة العراقية، ولا القوى السياسية الشيعية والكردية، أرادت عودة المالكي إلى رئاسة الوزراء. ولكن شهورا طويلة من المفاوضات والتدافعات السياسية لم تستطع إيقاف المالكي عن الاحتفاظ بموقعه، ولاسيما بعد أن تحقق له دعم وتوافق إيراني أمريكي سوري. رأى الإيرانيون في المالكي حليفا يمكن الوثوق به، ومارسوا ضغوطا هائلة على القوى الشيعية المعارضة لعودته، خاصة التيار الصدري، وعلى سورية؛ بينما وجد الأمريكيون في قيادي حزب الدعوة، المدرس السابق، المثقل بسجل دموي وملفات فساد لا حصر لها، خلاصا من شبح فشل جديد في العراق وهم يستعدون لسحب قواتهم العسكرية والانتقال بأولوياتهم إلى حوض الباسيفيك. كانت إدارة أوباما تدرك، على أية حال، أن الولاياتالمتحدة خسرت مشروعها في العراق منذ زمن، وأن العراق ذهب إلى دائرة النفوذ الإيرانية، ولم يعد هناك من طريق لاستعادته بدون حرب أخرى. ولم يكن لدى أوباما استعداد لخوض مثل حرب كهذه في الشرق الأوسط، لا من أجل العراق ولا سواه. في ولايته الثانية، أصبحت توجهات المالكي الاستحواذية والطائفية أكثر سفورا، بينما تعلق شركاؤه في الحكم بأمل أن يدرك رئيس الوزراء أن سياسة الاستحواذ لن تحقق استقرارا ولا ازدهارا. ذهب هذا الأمل أدراج الرياح، ولكن المالكي سرعان ما فوجئ، كما فوجئ حلفاؤه في إيران، برياح الثورة العربية. طالما كانت الثورة تستهدف بن علي في تونس ومبارك في مصر، لم يكن ثمة خطر. ولكن مشكلة المالكي وإيران بدأت عندما اجتاحت رياح الثورة سورية، الحليف العربي الحيوي لإيران. هنا، لم تعد الثورة العربية مسألة جدل حول مصدر إلهام شبانها، أو حول قواها وتوجهاتها السياسية، بل مسألة مصالح جيوسياسية مصيرية. خاضت قوى المقاومة العربية السنية معركة إفشال المشروع الأمريكي في العراق، ولكن لأسباب تتعلق بسياسات الأمريكيين وبتوازنات القوة العراقية والإقليمية، انتهى العراق إلى منطقة نفوذ إ يراني. وفي وقت تواجه فيه إيران مخاطر وتهديدات دولية متصاعدة، لم تكن ثمة جهة في إيران على استعداد للتفريط في هذا المكسب الاستراتيجي الكبير. ولأن المخاطر أحاطت بمصير الحليف السوري، تضاعفت أهمية العراق وحيويته. كان من الممكن، قبل انطلاق حركة الثورة العربية، أن يمضي مخطط السيطرة الشاملة على العراق بصورة تدريجية ومرحلية. بعد انطلاق الثورة العربية، أصبح من الضروري أن يحسم الوضع في العراق بصورة متسارعة، حتى إن بدا الحسم فجا في بعض الأحيان. لم يعد ثمة ضابط، سني أو غير سني، تحوم الشكوك حول ولائه للمالكي، في قيادة فرقة أو لواء من ألوية الجيش المهمة؛ في الوقت الذي يجري فيه بناء سلاح الجو العراقي الجديد من لون سياسي وطائفي واحد. مئات أساتذة الجامعات العرب السنة تم طردهم من وظائفهم، بتهم اجتثاث البعث الجاهزة؛ ولا يكاد يوجد مدير دائرة سني واحد في وزارة يقودها وزير شيعي. وباعتراف الأمريكيين أنفسهم، أصبحت بعثات طلاب الدراسات العليا وبعثات التدريب العسكري إلى الخارج شأنا طائفيا بحتا. وإلى جانب هذا كله، يقبع آلاف من أبناء المناطق العربية السنية، بما في ذلك مئات النساء، في السجون والمعتقلات المختلفة، بمحاكمات صورية وبدون محاكمات. الشركاء الشيعة في الائتلاف الوطني، الذي جاء بالمالكي إلى الحكم من جديد، جرى تهميشهم، سواء على مستوى الحكم المركزي أو الإدارات المحلية. أما الشركاء في التحالف الكردستاني، فأخذ المالكي ينتهج سياسة تحجيمهم، وربما حتى إشعال مواجهة عسكرية معهم، بعد أن اختاروا الانفلات من المحور الإيراني وإبداء التعاطف مع ثورة الشعب السوري. في لهاثه المتسارع لتحقيق السيطرة الشاملة في العراق، مدعوما من إيران، نسي المالكي حجمه الحقيقي في الساحة السياسية العراقية، الوطنية والطائفية، ونسي الظروف التي أعادته إلى حكم العراق. هذه، إذن، نهاية الطريق لحكم أسس على الطغيان ودولة أقيمت على قواعد غريبة على العراق وتقاليده. لم تكن قضية رافع العيساوي، في الحقيقة، سوى شرارة، أشعلت النار في مخزون متراكم من الخطأ والخراب ومحاولة السيطرة بقوة السلاح والخوف وعصا أجهزة الأمن والعبث بالقضاء. قد يستطيع المالكي إثارة المخاوف الطائفية لدى قطاع ما من العراقيين. وقد يستطيع، بدعم من سياسة إيرانية خاطئة أخرى، كما في سورية، محاصرة تعاطف القوى السياسية الشيعية مع أشقائهم في محافظات الأكثرية السنية. ولكن ما تعيد الحركة الشعبية العراقية التأكيد عليه أن عراق المحاصصة، والمكونات، والإقصاء، والهيمنة السياسية والطائفية، لا يمكن أن يستقر. بشير موسى نافع