تعتبر مدينة خريبكة حوضا هجرويا بامتياز، على الرغم من كونه لم يندمج إلا حديثا في نسق الهجرة المغربية-الدولية، وقد استطاع أن يرسم معالمه ويخلق دينامية مجالية بالرغم من الطابع المنجمي الذي يميز المدينة، وكذا تحولات اقتصادية أنعشت اقتصادها، فكيف تبرز الهجرة الدولية كرأسمال مجالي واقتصادي داخل مدينة خريبكة؟ وما هي السيناريوهات المحتملة لظاهرة الهجرة الدولية في ظل تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعرفها أوربا، ولاسيما إيطاليا وإسبانيا؟ هي، إذن، إشكاليات سنحاول الإجابة عنها في هذه المقالة، اعتمادا على مؤشرات كمية ميدانية، إيمانا منا بأهميتها في أن تكتسب المقالة منهجا علميا دقيقا. الهجرة الدولية ودورها في بروز بنية حضرية جديدة بخريبكة مما لا شك فيه أن الإنتاج المنجمي أعطى ميلاد مجموعة من التجمعات المنجمية بشكلها وبنيتها الحضرية، من جهة، ووظائفها الاجتماعية والمجالية، من جهة أخرى، كما هو الحال بالنسبة إلى مدينة خريبكة. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن التحولات المجالية التي عرفها المجال الترابي لخريبكة، بفعل دينامية الهجرة الدولية، كانت لها آثار بارزة حتى صار بإمكاننا، اليوم، القول بأن البنية الحضرية التي أفرزتها الهجرة الدولية في خريبكة فاقت بكثير تلك التي أنتجها المكتب الشريف للفوسفاط، على اعتبار أن الاستثمار في مجال العقار أصبح بمثابة سلوك يتخذه المهاجرون، نظرا إلى الأرباح المالية التي يحققها هذا القطاع، ومظهرا من مظاهر التمايز الاجتماعي الذي يتسم به المهاجرون في خريبكة، وهذا ما تؤشر عليه رخص البناء بالمدينة التي عرفت تطورا واضحا ما بين سنتي 1998 و2008، حيث تضاعف عددها من 731 رخصة إلى 1155 رخصة، وهي مرحلة عرفت فيها أفكار الهجرة الدولية انتشارا واسعا ليس فقط في مدينة خريبكة، بل حتى في المناطق المجاورة. كما نسجل أيضا أن البنية المجالية التي عمل المكتب الشريف على خلقها قد عرفت ركودا واضحا منذ ثمانينيات القرن الماضي، نظرا إلى الانكماش الاقتصادي الذي عرفه، من جهة، وبداية اعتماده على المكننة، من جهة أخرى. هكذا، فقد اتخذ توسع مدينة خريبكة، ارتباطا بظاهرة الهجرة الدولية، شكلين رئيسيين يتجليان في تكثيف المجال المبني داخل المدار الحضري للمدينة، كمرحلة أولى، وانفجار المدينة على المجالات الريفية المحيطة بها، في مرحلة لاحقة، مشكلة بذلك بنية حضرية يتركز معظمها في القسم الشمالي من خط السكة الحديدية (حي الرشاد، حي الفتح، حي المسيرة، حي القدس، حي الهدى،...). الهجرة الدولية عامل أساسي في الدينامية الاقتصادية بخريبكة إن الحديث عن الدينامية الاقتصادية المرتبطة بالهجرة الدولية في خريبكة، يخضع لمنطقين أساسيين: الأول يرتبط بالتحويلات المالية، حيث أثبتت الدراسة الميدانية التي أجريناها أن 56 في المائة من مهاجري خريبكة يحولون أموالهم بصفة غير منتظمة شهريا إلى أسرهم، بينما لا تتعدى نسبة المهاجرين الذين يحولون أموالهم بصفة منتظمة شهريا حوالي 44 في المائة؛ وهي أرقام يمكن تفسيرها من خلال تحليل القنوات التي يعتمدها المهاجرون في تحويل أموالهم، حيث أوضحت نتائج البحث الميداني أن ارتفاع نسبة المهاجرين الذين يحولون أموالهم إلى أسرهم بصفة غير منتظمة شهريا يرجع بالأساس إلى أن 53 في المائة من مهاجري خريبكة يحولون أموالهم إلى أسرهم خلال زيارتهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المهاجرين لا ينفتحون بشكل كبير على باقي قنوات التحويل، نظرا إلى ضعف مستواهم التعليمي، من جهة، وإلى أن عددا منهم لا زال لا يتوفر على أوراق إقامته، وبالتالي فالتردد على وكالات تحويل الأموال قد يسبب له بعض المشاكل. في المقابل، لا يتعدى المهاجرون الذين يحولون أموالهم إلى أسرهم اعتمادا على وكالات تحويل الأموال نسبة 47 في المائة، ولاسيما وكالة تحويل الأموال «وستيرن يونيون»، التي تحتكر نسبة 28 في المائة من هذه التحويلات، على الرغم من كونها قد عرفت تراجعا ملموسا ما بين سنتي 2009 و2011 بنسبة ناقص 18 في المائة، وهو تراجع يعزى إلى تأثير الأزمة الاقتصادية على تحويلات المهاجرين. أما المنطق الثاني فيرتبط بالتحويلات العينية للمهاجرين. وفي هذا الإطار، يحتل مهاجرو خريبكة مكانة هامة داخل الأنشطة التجارية والخدماتية، حيث إن البضائع الآتية من الخارج باتت قبلة للسكان، ليس فقط الموجودين في خريبكة بل ولسكان مناطق جغرافية مختلفة. وفي هذا الصدد، أثبت التحليل الميداني أن حوالي 60 في المائة من مهاجري خريبكة يعملون على جلب مواد تجارية، كالتجهيزات والملابس، نظرا إلى ارتفاع هامش الربح في هذه المواد، وهو معطى ساهم فيه وجود أسواق مخصصة لهذه المنتوجات (جوطية الطاليان، سوق ميلانو، السوق الأسبوعي،...)؛ كما يحظى قطاع الخدمات بأهمية كبرى ضمن استثمارات المهاجرين، والتي تأتي على رأسها المقاهي بنسبة 46 في المائة. في المقابل، تتركز باقي استثمارات المهاجرين بنسبة 54 في المائة في خدمات أخرى (محلات غسل السيارات، الحمامات، الشوايات، محلات بيع المأكولات الخفيفة، مصحات، مدارس خصوصية،...). عموما، تساهم هذه الاستثمارات في تحسين دخل المهاجرين، من جهة، كما توفر مناصب شغل مهمة لأبناء المدينة، من جهة أخرى، بالرغم من كونها تعاني مجموعة من الإكراهات لكونها تتطلب رؤوس أموال ضخمة في ظل المنافسة التي يشهدها هذا القطاع. ونظرا إلى تداعيات الأزمة الاقتصادية في أوربا، ولاسيما في إيطاليا وإسبانيا، فإننا نستشرف سيناريوهين اثنين لظاهرة الهجرة الدولية المغربية عامة، والخريبكية خاصة: الأول، يرتبط بانفراج الأزمة الاقتصادية في بلدان الاستقبال: ينطلق هذا السيناريو من فكرة أساسية مفادها أن مستقبل الهجرة الدولية في المغرب سيعرف طفرة إيجابية، إذ من المتوقع أن يصبح الشتات (Diaspora) المغربي أكبر جالية مقيمة في أوربا في العقد المقبل. ومن المرجح أيضا أن يظل الميل نحو الهجرة مرتفعا، بسبب الطلب على اليد العاملة المهاجرة، مقابل ضعف الفرص المتاحة في المغرب. وتجدر الإشارة إلى أن سكان المغرب يمرون حاليا بمرحلة ديمغرافية انتقالية، تتجلى في انخفاض معدل الخصوبة، ومن شأن ذلك هيكلة سوق العمل، هذا بالإضافة إلى انخفاض سكان الأرياف (45 في المائة حسب إحصاء 2004) مقابل ارتفاع سكان المناطق الحضرية (55 في المائة حسب إحصاء 2004). كل هذا سيساهم في تحسين الرعاية الصحية والمستوى التعليمي، الشيء الذي قد يؤثر إيجابا على خصائص المهاجرين، ويتوافق في نفس الوقت مع الاتجاهات الحالية لسياسات الهجرة الأوربية التي أصبحت تركز على مفهومي «الهجرة المختارة» أو «الهجرة الانتقائية»، وهو ما قد يجعل المهاجرين يقدمون على تغيير بلدان الاستقبال الأولى في بلدان أخرى جديدة (كالولايات المتحدةالأمريكية، كندا، أستراليا،...)؛ وهو سيناريو قد يساهم في تطوير مسلسل التنمية الترابية في المجال الترابي لخريبكة، من خلال مساهمة التحويلات المالية للمهاجرين في خلق مشاريع ترابية على اختلاف توجهاتها وقطاعاتها داخل هذا المجال. وهذا من شأنه حماية دخل أسر المهاجرين الذي يبقى في تبعية مطلقة لتحويلات أبنائها وذويها، كما سيخفف من حدة الاحتجاجات اليومية التي يعرفها المكتب الشريف للفوسفاط للمطالبة بالشغل؛ الشيء الذي يتطلب انخراط كل الفاعلين التنمويين بمختلف مرجعياتهم (الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الجمعوية، العلمية،...) في رؤية مندمجة وتشاركية للتنمية الترابية، تجعل المهاجرين فاعلين وشركاء في تنمية مجالاتهم الترابية وليس مجرد موارد لجلب العملة الصعبة. أما السيناريو الثاني فيتأسس على شبح اشتداد الأزمة الاقتصادية في بلدان الاستقبال: ويستند هذا السيناريو على مجموعة من المؤشرات: أولها يتعلق بارتفاع معدل البطالة في صفوف المهاجرين الدوليين في أوربا بنسبة 5 في المائة ما بين سنتي 2008 و2009، ولاسيما أن هؤلاء المهاجرين يشتغلون في قطاعات غير مهيكلة، كالبناء والتجارة بالتقسيط؛ وثانيها يكمن في تأثير الأزمة الاقتصادية على نسبة النمو في بلدان الاتحاد الأوربي، إذ انتقلت هذه النسبة من 2.9 في المائة سنة 2007 إلى 0.9 في المائة سنة 2008، مما أدى إلى انكماش نصف دول الاتحاد الأوربي. في هذا الإطار، انخفضت تدفقات المهاجرين إلى بلدان الاستقبال بنسبة 21 في المائة داخل إيطاليا سنة 2009، مقارنة بنفس الفترة من سنة 2008؛ وبالتالي فاستمرار الانكماش الاقتصادي الذي تعرفه أوربا، ولاسيما إيطاليا وإسبانيا، من شأنه أن يخلق شروخات اجتماعية خطيرة، سواء داخل بلدان الاستقبال، من خلال تزايد الحملات العنصرية تجاه المهاجرين وتدهور شروط الرعاية الاجتماعية، أو على المستوى الداخلي، إذ نتوقع أن تزيد حدة الاحتجاجات اليومية على المكتب الشريف للفوسفاط للمطالبة بالشغل، بالإضافة إلى حدوث العديد من المشاكل الاجتماعية المرتبطة بارتفاع معدل الطلاق في صفوف مهاجري خريبكة، وارتفاع معدل الجريمة، وكذا تأزم الوضعية الاقتصادية لأسر المهاجرين؛ وهو الأمر الذي قد يجعل الوضع مهددا بالانفجار، بل أكثر من ذلك قد يؤدي إلى تزايد تيارات الهجرة الداخلية من أرياف إقليمخريبكة نحو المدن المجاورة، الشيء الذي قد تنجم عنه اختلالات مجالية، ترتبط بإعادة انتشار السكن العشوائي داخل خريبكة. إذن، سواء ارتبطت المرحلة المقبلة بالسيناريو الأول أو الثاني، فإن تحليلنا للبيئة الداخلية والخارجية قد أثبت أن علاقة الإنسان بالموارد تخضع بشكل كبير لقانون الإلكترومغناطيس، فالموارد جاذبة للإنسان، وحيثما وجدت الموارد يوجد المغناطيس، وحيثما وجد الفقر والبطالة والإقصاء الاجتماعي توجد الهجرة بشقيها الداخلي والخارجي، وهو ما يتوافق إلى حد كبير مع ما قاله الشاعر السينغالي سيدار سان غور: «إن الثروة إن لم تأت إلى الناس، فإن هؤلاء سيتحركون لتحصيلها». نبيل العياشي باحث في الهجرة والتنمية الترابية